أعادت العنجهية الأمريكية والصهيونية المتصاعدة مؤخراً أجواء الحوار الشعبي والثقافي والسياسي الفلسطيني حول طبيعة وشكل الخيار الوطني الأنسب للمرحلة القادمة، وهو ما قد يشكل بداية لمنعرج هام ونوعي في المسار الوطني الفلسطيني إن تم البناء وفقاً للرؤية الوطنية والعلمية الواعية والمنظمة المبنية على منطلقات صحيحة بدلاً من الانطلاق كرد فعل عفوي ومتخبط على الإفشال الأمريكي والصهيوني لحل الدولتين. مع العلم أن الواقع يشير وبوضوح إلى تمسك القيادة الفلسطينية بخيار الدولتين بالرغم من جميع الأصوات الرافضة والمنبهة إلى مخاطره على الحقوق الفلسطينية حالياً وتاريخياً منذ بداية العملية السلمية واستنتاج حتمية أن تؤول الأوضاع إلى ما نحن فيه اليوم وربما أخطر، مما يؤكد أنّ تبنّي القيادة الفلسطينية لخيار الدولتين كان ومازال خطوة اعتباطية وتجريبية خاطئة ومتسرعة، وقد كان ومازال من واجبنا التصدي لها وإيقافها سواء تصاعدت الممارسات الصهيونية والأمريكية والعالمية المجحفة بحقنا أم خفتت.
لذا وبالرغم من إدراك الغالبية الفلسطينية لفشل حل الدولتين اليوم، إلا أن أفق العمل الواعي والمدرك لأهمية بناء وتشييد خيار وطني بديل مازال في بداياته، فمن ناحية تعبّر بعض الأصوات عن ضرورة حشد الآراء السياسية والشعبية نحو معركة إسقاط خيار الدولتين فقط دون الدخول في تفاصيل الخيار البديل، بينما يسوق البعض لعدم الحاجة لتبني خيار بديل عن خيار الدولتين ويدعو للاكتفاء بإعادة زخم النضال الوطني لاسيما العسكري كحل وحيد لاستعادة الحقوق المستلبة، وهي آراء تعمل بقصد أو دون قصد على تمييع الحراك الرافض لحل الدولتين وتمييع مسار النضال الفلسطيني القادم، مما قد يؤدي لانحرافات وتشوهات جديدة تزيد من ابتعادنا عن أهدافنا التي تأتي في مقدمتها استعادة جميع الحقوق المسلوبة منذ ما قبل عام 1948، أي منذ بداية الانتداب البريطاني.
يعبّر الوضوح والدقة في برنامج حركة التحرر الوطنية عن أهداف هذه الحركة الآنية والمستقبلية، كما يعبّر عن رؤيتها للصراع التحرري الذي تخوضه، فضلاً عن تحديده لطبيعة العدو ودوره ووظيفته وأبعاده، مما يشكل ناظماً للنضال التحرري وناظماً للأولويات النضالية ولساحات النضال عموماً. وهو ذات الأمر الذي يدفعنا للتشديد على أهمية الانخراط في جميع أنواع النقاشات والمساجلات حول البرنامج الوطني الفلسطيني، ويجعلنا نعطيه أولوية وأهمية قصوى أمس واليوم وغداً، حيث لا يمكننا أن نعتبر مثل هذا العمل السياسي والفكري مجرد ترف سياسي أو ثقافي يملأ فراغ بعض المهتمين والمتابعين للشأن الفلسطيني، بل هو الخطوة الأولى الضرورية والمركزية في رسم طريق النضال الفلسطيني وفي تحديد ساحات الصراع.
وهو ما يجعلنا أكثر إصراراً وعزماً للمضي قدماً في معركة إسقاط خيار الدولتين والعودة لخيار إقامة دولة فلسطين العلمانية والديمقراطية على كامل الأراضي المحتلة منذ 1948، كونه الخيار الوحيد المتوافق مع فهمنا وإدراكنا لطبيعة المشروع الصهيوني ولدوره في المنطقة أولاً والمتمحور حول حتمية القضاء على الوجود الصهيوني العسكري والمادي والفكري والعنصري، وثانياً انطلاقاً من قدرة هذا الخيار على انتزاع جميع الحقوق الفلسطينية، وقدرته على التأسيس لدولة فلسطينية حضارية ومتطورة، تسودها قيم المواطنة والعدالة والمساواة بين جميع أبنائها، دون أي شكل من أشكال التمييز العرقي والإثني والسياسي.
إن خيار الدولة الفلسطينية العلمانية والديمقراطية الواحدة يهدف إلى إقامة الدولة الفلسطينية على كامل التراب الفلسطيني المحتل منذ ما قبل 1948، وهو ما يعني القضاء الكامل على جميع مرتكزات وبذور الحركة الصهيونية وجميع إفرازاتها سواء المحلية أو الإقليمية، فالدولة الواحدة المنشودة هي دولة فلسطين التي لن تقوم إلا على أنقاض الحركة الصهيونية وأنقاض مؤسساتها وأيديولوجيتها العنصرية والاستعمارية، وهو ما يقطع بصورة كلية مع أي طرح يدعو للتعايش المشترك مع الصهيونية أو مع مؤسساتها. بينما تشير علمانية وديمقراطية الدولة إلى أمرين مهمين يشكلان منطلقاً لحركة التحرر وأساساً للدولة المنشودة، فمن ناحية يعبّر هذا الشعار عن طموح ورغبات الفلسطينيين في بناء دولة المواطنة الكاملة، دولة الحضارة والتقدم والتطور العلمي والثقافي والصناعي والسياسي، دولة تكفل حرية المعتقد والفكر السياسي والديني، دولة يتساوى فيها جميع أبنائها في الحقوق والواجبات دون أي تمييز عرقي أو إثني أو طائفي أو عقائدي. وهو ما ينقلنا إلى النقطة الثانية التي يعززها خيار الدولة العلمانية والديمقراطية، عبر تحويل حركة التحرر الفلسطينية وفقاً لهذه الرؤية إلى حركة منفتحة على جميع أحرار العالم، وبغض النظر عن جنسياتهم وقومياتهم وانتماءاتهم الدينية والعقائدية، بما فيهم أتباع الديانة اليهودية، على قاعدة الاتفاق على حتمية القضاء الكامل والشامل على مجمل أسس وجود الحركة الصهيونية المادية والعقائدية، كخطوة أولى من أجل بناء الدولة الفلسطينية الواحدة العلمانية والديمقراطية. وهو ما يشير بشكل مباشر وغير مباشر إلى تعبير هذا البرنامج عن ضمان الدولة المنشودة لجميع حقوق اليهود العرب المتخلصين والمتحررين من قيود وأوهام الحركة الصهيونية والمشتركين في النضال لتحرير كامل التراب الفلسطيني، بينما يضع جميع أتباع وداعمي الحركة الصهيونية سواء أكانوا عرباً أم غرباً في حالة صراع تناحري معهم دون النظر إلى قناعاتهم وانتماءاتهم الدينية والعقائدية والفكرية.
كما أنه الخيار الوحيد الذي يفتح الباب لحل المشاكل الديمغرافية والإنسانية المترتبة على طول مدة احتلال فلسطين وبصورة لا تمس بحقوق جميع الفلسطينيين المهجرين داخلياً وخارجياً، فكما نعلم جميعاً أن واقع الاحتلال الممتد لما يقارب السبعين عاماً بالنسبة للأراضي المحتلة عام 48، ولأكثر من خمسين عاماً بالنسبة للأراضي المحتلة عام 67، قد أفرز واقعاً ديمغرافياً جديداً سواء فيما يتعلق بارتباط الفلسطينيين المهجرين داخلياً بأماكن إقامتهم الحالية، والتي قد تتعارض مع حقوق بعض الفلسطينيين المهجرين خارجياً، أو فيما يخص باحتمال صعود وزيادة أعداد اليهود الموجودين في فلسطين والمدركين لخطر الصهيونية، ممن أثبتت أو سوف تثبت مشاركتهم الفلسطينيين لنضالهم من أجل القضاء على الحركة الصهيونية وإقامة الدولة الفلسطينية العلمانية والديمقراطية الواحدة مقدار قطعهم مع الصهيونية، ومقدار انتمائهم لفلسطين سواء أكانوا بالأصل عرباً أو من جنسيات أخرى، فكما نعلم يخلق واقع الاحتلال طويل الأمد أجيالاً ولدت وترعرعت في الدولة المستعمرة بحكم الولادة فقط، وهو ما يؤدي إلى شكل من أشكال الارتباط بالأرض والشعب في بعض الحالات، ليصبح موقف هذه الفئات السياسي ومقدار مشاركتها في تقويض المؤسسات والقوى الصهيونية، ومقدار مشاركتها في النضال الفلسطيني بوابة لاندماجها في المجتمع وبوابة لتحولهم إلى مواطنين طبيعيين.
إذاً، لا بد من التأكيد دائماً على أن اعتبارنا لخيار الدولة الفلسطينية العلمانية والديمقراطية الواحدة على كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ النكبة هو خيار فلسطيني أولاً وأخيراً ينطلق من مدى إدراكنا وفهمنا لطبيعة المشروع الصهيوني، ويطمح لتشييد دولة الرفاه والحضارة. بينما تمثل قدرة هذا البرنامج على مد يد العون تجاه جميع أحرار العالم بمن فيهم أتباع الديانة اليهودية إحدى الجوانب التي تزيد من مقدار ارتباطنا بهذا البرنامج، على الرغم من أنها لا تمثل أكثر من دافع ثانوي وربما أبعد من ذلك عند البحث في أي من الخيارات الوطنية المعروضة. بمعنى أننا نبحث عن البرنامج الأمثل لنا كفلسطينيين اليوم وغداً، وعن البرنامج الأقدر على التعامل مع هذه الحركة الصهيونية الإجرامية والاستعمارية الغاشمة أولاً وثانياً وأخيراً، ومن ثم يحق لنا البحث في السبل والطرق الأنجع من أجل حشد أكبر قدر ممكن من مؤازرة أحرار العالم دون أي اعتبار لجنسيتهم أو دينهم أو عقيدتهم، والتي قد تساهم في تخفيف أعباء النضال علينا فضلاً عن قدرتها على اختصار الزمن المطلوب للقضاء الكامل على الحركة الصهيونية واقعياً وعقائدياً. فمصلحة وأهداف وغايات الشعب الفلسطيني هي المرجع الأول والأخير لبرنامج التحرر الفلسطيني أولاً ولبناء دولة المستقبل ثانياً.