أعاد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات نشر كتاب محمد حرب فرزات “الحياة الحزبية في سوريا: دراسة تاريخية لنشوء الأحزاب السياسية وتطورها 1908-1955” في مطلع العام الحالي 2019، حيث تعود طبعته الأولى إلى حزيران من العام 1955، عبر منشورات دار الرواد في دمشق. يستند الكتاب إلى رسالة كاتبه -محمد حرب فرزات- الجامعية لغاية الحصول على شهادة الإجازة في الآدب من الجامعة السورية قبل نحو عام من طباعة الكتاب، والتي كانت تتناول الحياة الحزبية في سورية بين عامي 1919 و 1949، وبإشراف الدكتور نور الدين الحاطوم، الذي شجع فرزات على إعادة النظر في البحث بغية إضافة فصل جديد يغطي الحياة الحزبية السورية حتى العام 1955، وهو ما تم في النسخة المطبوعة، أي الكتاب، في طبعته الأولى عام 1955.
يصف فرزات الكتاب، أو بالأصح الدراسة التي وضعها بين أيدينا، بأسلوب موضوعي وعلمي يعطيها حقها التاريخي والبحثي دون مبالغات أو مزاودات، مستعرضاً أهم العقبات التي واجهتها، ومعتبراً أنها خطوة أولى في مسار توثيق ودراسة هذه المرحلة الهامة من التاريخ السوري، حيث يقول في توطئة الكتاب أو مقدمة الطبعة الأولى ” إن هذه الدراسة لن تستطيع أن تكون جامعة لكل ما يمكن أن يقال في هذا الموضوع الدقيق. إذ أن ذلك لا يمكن أن يتم إلا بعد الاطلاع على المصادر المتعلقة به كلها (…) ولذا فلئن كانت هذه الدراسة هي محاولة أولى متواضعة فإن معالجة الحياة الحزبية في الفترة القريبة الماضية هي -بلا شك- تجربة غير كاملة. ولئن كان من الأفضل التريث أمداً من الزمن الكافي لنضوج الحوادث حتى تتوافر مصادر أوفى لسد ما قد يكون هناك من ثغرات، فإنه من الممكن أيضاً البدء منذ الآن حتى يتاح فيما بعد الوصول إلى الكمال.”
تبدأ الدراسة بتوطئة على درجة عالية من الأهمية، كونها تعرض أهداف فرزات منها، والمفاهيم والمعايير التي استند إليها لعرض الأحداث والوقائع التاريخية، وقراءة التغييرات السياسية الحاصلة في الوسط السياسي السوري.. ثم يؤكد فرزات على أهمية العمل الحزبي في بناء الأمة والأوطان، ويثمن الحرية كشرط أساسي لهذا النضال، ويرفض الاتكاء على تعريف عام للأحزاب فيقول: “لكن الحزب حقاً ليس جمعية ولا شركة ولا نقابة، إنما الحزب السياسي عقيدة تناضل في صفوف الشعب بنظام ووفق خطة مدروسة، تمثل مصلحة الوطن الخالدة، وتسعى لحل مشاكله الطارئة في ظروف تطوره التاريخي.” ومن ثم يتبعه بعرض موجز للاتجاهات السياسية والاجتماعية الثلاث التي سادت أوروبا في هذه المرحلة وهي “المذهب الديمقراطي، والمذهب الاستبدادي، والمذهب الاشتراكي”. ويخلص الكاتب إلى أن الظروف التاريخية المفروضة على بلادنا لقرون عديدة، قد أدت إلى تحول الحزبية إلى تحزب شخصي وعائلي وإقطاعي، وهو ما يعرضه بمنتهى الدقة من خلال المعطيات التاريخية الخاصة بكل مرحلة من مراحل تاريخ سورية المعنى بالدراسة، والذي قام بتقسيمه إلى ثماني فترات زمنية غطى كل منها فصلا من فصول الكتاب الثمانية.
يستهل فرزات أول فصول دراسته بالحديث عن الحياة الحزبية السورية في الحقبة العثمانية، التي كانت بمثابة حكم مطلق، فرض على الأحزاب أو المجموعات السياسية طبيعة العمل السري، نظراً للمناخ السياسي والقانوني السائد الذي حظر الحياة السياسية عموماً، على الرغم من إقرار دستور 1876 الذي كان ثمرة مجموعة من الضغوط الداخلية والخارجية. وتصب الدراسة جل تركيزها في هذا الفصل على البحث في المرحلة الممتدة منذ الإعلان الدستوري في 23 تموز 1908 وحتى الحرب العالمية الأولى التي تميزت بنشاط كبير في المجال القومي، إذ يستعرض أهم التجمعات والمجموعات الناشطة في تلك الحقبة، ومنها: جمعية الإخاء العربي العثماني، المنتدى الأدبي، حزب اللامركزية الإدارية العثماني، جمعية الفتاة ومؤتمر باريس العربي 1913، الذين طالبوا بالإصلاح على قاعدة اللامركزية الإدارية، وبما يضمن المحافظة على حقوق العرب كشركاء، لكنهم قبلوا بنصوص قرار الآستانة الصادر في آب 1913، تعبيراً عن حسن النية تجاه الدولة وإعراباً عن تعلقهم بالعرش العثماني، وقد أقر القرار بإدارة الأوقاف محلياً، وبالخدمة العسكرية محلياً، والتدريس باللغة العربية بجانب التركية، وضرورة إلمام موظفي الدولة بالعربية، ونوع من أنواع الاستقلال المالي. وساهم تملص الحكومة من هذا الاتفاق في رفع القناع عن الحكم التركي، وأوضح للعرب طريق الخلاص، مما دفع العديد من الشباب القوميين نحو العمل السري، لاسيما في جمعية العهد التي استند تأسيسها على الجمعية القحطانية، والجمعية العربية الفتاة، اللتين لعبتا دوراً بارزاً في مرحلة الحرب العالمية الأولى والثورة العربية الكبرى.
ومن ثم تنتقل الدراسة في فصلها الثاني للحديث عن مرحلة الاستقلال الأول، ويستهل الفصل بتعليق سريع يوجز أحوال المرحلة الممتدة من 5/10/1918 حتى 24/7/1920، مستمد من قرار إعلان الاستقلال الذي يؤكد أن “هدف الثورة العربية على حكم الأتراك يتمثل بالاستقلال التام والحياة الحرة بصفتها ذات وجود مستقل، وقومية خاصة، لكن الأحزاب والجمعيات التي سعت للتخلص من حكم الأتراك قد قصرت في التفكير فيما ينبغي عمله بعد ذلك”. بكل الأحوال يظهر الفصل بوضوح تميز غالبية أحزاب المرحلة نظرياً بتوجهات قومية عربية تسعى إلى الوحدة العربية، بينما تمسك البعض الآخر ببرنامج وطني سوري بحت، أما من الناحية العملية فلا يمكن تلمس أي اختلاف بين كلا التوجهين، نتيجة خضوعهما للظروف الدولية الخارجية، التي فرضت عليها سياسة قطرية معيّنة، نتيجة تجزئتها للقضية القومية العامة. ومن ثم يعرض الفصل موقف الأحزاب من أبرز أحداث المرحلة (اتفاق فيصل- وايزمن، اللجنة الأمريكية ومطالب البلاد، بدء الاصطدام بالفرنسيين، اتفاق فيصل- كلمنصو، إعلان الاستقلال، الدستور، الأحزاب والملك) ومن ثم يختم بأهم أحزاب المرحلة ويلخص أهم ميزاتها وهي: (الجمعية العربية الفتاة، حزب الاستقلال، النادي العربي، حزب التقدم، حزب العهد، حزب الاتحاد السوري، الحزب الوطني، الحزب الديمقراطي، اللجنة الوطنية العليا).
أما الفصل الثالث فيركز على المرحلة الممتدة من 1920- 1925، بما في ذلك النشاط الحزبي خارج سوريا، فعلى الرغم من عدم وجود حياة حزبية واضحة في هذه المرحلة نتيجة عدة عوامل منها السياسات الفرنسية الاستبدادية داخل سوريا، وعدم ترخيص الأحزاب السورية في الخارج وخصوصا في القاهرة، إلا أن المطلب الشعبي والوطني الأبرز في تلك المرحلة كان وحدة البلاد” سوريا”. كما يستعرض الفصل أوضاع وأحوال بعض الهيئات والأحزاب كحزب الاستقلال، وحزب الاتحاد السوري، واللجنة التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني، ومن ثم يلقي الضوء على أبرز أحداث المرحلة كمقررات مؤتمر جنيف، زيارة كراين، وأول مظاهرة وطنية.
ثم يسلط الفصل الرابع الضوء على دور الأحزاب في الثورة الوطنية (1925- 1927)، بعدما أطلق الاحتلال الفرنسي حرية تشكيل الأحزاب، وقد شهدت تلك الفترة نشأة حزب الشعب كأول حزب سياسي في عهد الاحتلال، كما يضيء هذا الفصل على أبرز أحزاب المرحلة وهي حزب الوحدة، واللجنة التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني، والكتلة الوطنية. وكما جرت العادة يلقي نظرة دقيقة على أبرز التطورات السياسية كقيام الثورة، دي جوفنيل وسياسة التفاهم، برنامج حكومة الدامار، الميثاق الوطني، وظهور الكتلة الوطنية. مستعرضاً موقف الأحزاب والقوى منها.
ويتمحور الفصل الخامس حول الحياة الحزبية في فترة النضال الدستوري (1928- 1932)، وبالتحديد حول نشوء الكتلة الوطنية، ومواقفها من الأحداث اللاحقة، وتبنّيها سياسة التفاهم مع الانتداب الفرنسي، دون أن يغفل عن المرور ولو سريعا على أبرز الهيئات والأحزاب، مع الإشارة إلى نشوء أكثر من 25 حزباً في دمشق عام 1928 غالبيتهم لم يحتفظوا بأي كيان سياسي لاحقاً.
ثم يرصد الفصل السادس الحياة الحزبية في دور المعاهدة (1932–1939) والذي يلخصه فرزات بالفقرة التالية: “إن الحياة الحزبية في الفترة الواقعة بين 1932 و1939 كان النشاط مبذولًا فيها لعقد معاهدة مع فرنسا. وقد سيطرت فيها الكتلة الوطنية منذ العام 1935 على أكثرية الشعب، واستفادت من تأييدها المطلق لعقد معاهدة عام 1936، لكنها لم تحترم الرأي العام بل اتخذته واسطة فقط، ولم تصارحه بالحقائق، فكان أن خدعها الأجنبي واستغل تساهلها المشين، وتنازلها لعقد اتفاقات إضافية كان يكتسب فيها الصكوك لامتيازاته في البلاد… وقد فقدت الكتلة الوطنية بعد هذه التجربة قوتها، وأفقدها تمسّكُها بالحكم واتّباعُها سياسة التسكين والتهدئة طابعَها النضالي ومكانتها الشعبية… وانتهت عصبة العمل القومي بانتهاء هذا الدور. أما الحزب السوري القومي فقد استمر نشاطه بفتور في الفترات التالية. واستطاع الحزب الشيوعي أن يمارس نشاطًا فاعلًا”. حيث يتخلل البحث عرض مجمل أحداث المرحلة التي ارتأى تقسيمها إلى مرحلتين الأولى 1931- 1936 جاهدت فيها الأحزاب وخصوصا الكتلة الوطنية من أجل عقد المعاهدة. والثانية تمتد حتى 1939 والتي كشف فيها السوريون حقيقة المقاصد الفرنسية. كما يتخلل الفصل عرض لأبرز القوى والأحزاب الفاعلة أو الناشئة في هذه الفترة، ولاسيما الحزب السوري القومي، والحزب الشيوعي، وسلط الضوء على بنيتهما وبرامجهما وتوجهاتهما ونشاطهما بالتفصيل.
كما تعمل الدراسة في الفصل السابع المعني بالحياة الحزبية بين 1939-1949 على قسمها إلى مرحلتين، الأولى تمتد من 1939- 1943″ ساد فيها جو الحرب العالمية الثانية في ظل الحكم العسكري الفرنسي المباشر، الذي أكره الأحزاب على الامتناع عن ممارسة النشاط الحزبي تحت طائلة القوانين العرفية، حتى أحدث الفرنسيون تغييراً في شكل الحكم في 27/9/1941 عندما أعلن كاترو انتهاء الانتداب، واستقلال سورية وسيادتها، على أن يضمن ذلك بمعاهدة تقرر فيها نوع العلاقة بين سورية وفرنسا”. ومن أبرز أحداث هذه المرحلة مقتل الدكتور شهبندر، وظهور شكري القوتلي، ومجلس 1943. بينما تمتد المرحلة الثانية من 1944- 1949 حيث شهدت ظهور المعارضة البرلمانية ونشوء بعض الأحزاب والقوى الأخرى كالحزب الوطني، حزب الشعب، الكتلة الجمهورية، وأحزاب غير برلمانية كالحزب السوري القومي الاجتماعي، حزب البعث العربي الاشتراكي الذي أولته الدراسة اهتماماً واضحاً مستعرضاً أسسه التنظيمية والفكرية، والحزب التعاوني الاشتراكي، والحزب الشيوعي، وجماعة الإخوان المسلمين التي حظيت هي الأخرى بعرض مفصل يتناول بنيتها وعقيدتها.
تنتهي الدراسة في الفصل الثامن الذي يعرض مجمل النشاط الحزبي في الفترة بين 1949- 1955، والمقسمة إلى مرحلتين أيضاً، الأولى منذ انقلاب 30/3/1949 حتى توقيع ميثاق حمص، والثانية منذ توقيع الميثاق وحتى قيام الحكم الدستوري الجديد في تشرين الأول 1954. حيث يستعرض الفصل مواقف أبرز أحزاب المرحلة كالإخوان المسلمين، حزب البعث العربي الاشتراكي، الحزب السوري القومي الاجتماعي، الحزب الشيوعي، وحركة التحرير العربي من الأحداث السياسية التي شهدتها سورية وصولاً إلى ميثاق حمص والائتلاف الحزبي.
ختاماً حاول الكتاب أو الدراسة تسجيل وتوثيق تاريخ تطور الحياة الحزبية في سورية من عام 1908 وحتى عام 1955، مما يجعله وثيقة تاريخية مهمة ونادرة تغطي مرحلة مهمة من تاريخ سورية وتعرض مجموعة من النواقص والتناقضات التي مازلنا نعيش جزءاً كبيراً منها حتى اليوم، لذا ينصح بالاطلاع عليه من قبل جميع المهتمين بتاريخ سورية وحاضرها ومستقبلها.