يصعب على كل أصدقاء ومعارف سلامة اختزال الحديث عنه في مقال عابر، لذا لن أتحدث عن ذاته أو عن طبيعة العلاقة التي تربطني معه. بل أعتزم التطرق إلى إحدى الجوانب التي كان المفكر والمناضل يوليها اهتماماً بالغ الأهمية، ويخصص لها الوقت والجهد الكبيرين على حساب حاجاته الطبيعية، أي الجوانب الفكرية والسياسية، من خلال العودة إلى المقال الذي استهل به زاويته الماركسية في مجلة رمان، والمعنون بـ” تفاؤل العقل”. المقال الذي كان بمثابة رد حازم على جميع الأصوات التي أعلنت استسلامها وتراجعها وتخليها عن أحلامها بغد أفضل، من فلسطين إلى سوريا مروراً بجميع دول الربيع العربي، التي تواجه اليوم مصاعب وتحديات كبيرة وضخمة.
ويرجع اختياري لهذا المقال تحديداً إلى ثلاثة أسباب، أولها هو قدرة هذا المقال على مخاطبة عقول ومشاعر شريحة واسعة من رفاق وأصدقاء ومتابعي سلامة، وشحن معنوياتهم وقدراتهم النضالية من أجل متابعة مسار الثورة الطويل والشائك، رغم الألم والإرهاق والإحباط السائد في حينه. وثانياً لأنه من الكتابات القليلة التي تقدم إجابة واضحة حول أسباب تفاؤل سلامة وهو السمة الغالبة عليه. وثالثاً نظراً لحاجة جميع المناضلين والسائرين على درب الحرية والاستقلال إلى جرعات من الأمل الواقعي كالتي كانوا يستلهمونها منه في حضوره الجسدي.
إذ ينطلق المقال من دراسة مستويين مترابطين ومتكاملين، يعنى الأول بتحليل وتفكيك الواقع، بينما يسلط المستوى الثاني الضوء على إمكانيات تغيير الواقع بالشكل الذي يلبي مصالح وحقوق الشعب، ويخلص منهما إلى بث جرعات كبيرة من تفاؤل العقل على الرغم من مشاعر الإحباط والهزيمة الآنية. مع ملاحظة تمسك سلامة في كل كتاباته وأعماله وأحاديثه الشخصية بالجدل المادي كأداة فهم الواقع الذي نناضل من أجل تغييره، ورفضه المطلق لاتباع أي نهج مثالي يقوم على ترويج بعض الشعارات الحماسية الفاقدة لمدلولاتها الواقعية، حتى لو كانت بغرض شحن المعنويات المنهارة.
حيث يتطرق سلامة في بداية تحليل الواقع إلى مجموعة من المؤشرات والإحصاءات الاقتصادية والاجتماعية؛ التي تعكس عمق الأزمة السياسية والاجتماعية، مثل مستوى دخل الفرد، نسبة بطالة الكفاءات العلمية وغير العلمية، مستوى الفقر، مدى انهيار قوى الإنتاج الصناعية والزراعية؛ ومدى تطورهما وترابطهما، مستوى التقدم أو التخلف العلمي؛ مستوى الحقوق الفردية والجماعية الثقافية والسياسية والاقتصادية؛ مستوى التهميش والعنف السلطوي، وما إلى ذلك من الدلائل العلمية التي لا تقبل الخلاف. ومنها ينطلق نحو تحديد الطبقة المسؤولة عن كل ما سبق، أو تحليل مصالحها وارتباطاتها، التي تمكن من استقراء نتائج سياساتها المستقبلية والكارثية على أوضاع الشعب المعيشية عموماً، التي تنفي إمكانيات الإصلاح أو التغيير الحقيقية بيد الطبقة الحاكمة ممثلة بالنظام الحاكم، فالسبيل الوحيد لإنجاز التغيير الذي يلبي مصالح الشعب هو الثورة فقط، ثورة عمادها ومحركها الفقراء والمهمشون، ونجاحها مرتبط بقدرتها على تحقيق أهدافهم العادلة، وهو ما يمكن تسميته بتحليل الواقع المعيشي اجتماعياً وسياسياً.
ومنه ينتقل سلامة بسلاسة وبساطة نحو تحليل الواقع الثوري، أو واقع الطبقات المعنية بالثورة والتي يوليها أولوية ومركزية بالغة الأهمية لأنها تتحمل عبء السياسات السابقة، وذلك عبر الانخراط معها وضمنها من أجل استقراء مزاجها وميولها وحجم الغضب المتولد لديها بسبب كل المظالم والسوء الذي تقبع فيه، بالتزامن مع تلمس وتحليل وعيها الفردي والجماعي، أو بالأصح استقراء مؤشرات التحول من الوعي الفردي إلى الجماعي، وقدرتها على تحديد الطبقة أو الطبقات المسؤولة عن ظروفها المعيشية. وكأننا أمام واقعين متناقضين ومتلازمين، الأول معيشي نقرأه من خلال المؤشرات والإحصاءات الاقتصادية والاجتماعية عامة، أما الثاني فهو واقع ثوري غير ملموس في المرحلة التي تسبق الانفجار الثوري، واقع يتطلب من المفكر؛ السياسي؛ المناضل المعني بقضايا المسحوقين والمستضعفين، مغادرة قصره العاجي نحو انخراط حقيقي في هموم ومعاناة الشعوب، وفي نضالاتهم الفردية والجماعية، لأنها السبيل الوحيد كي يتمكن من ملاحظة التراكم الكمي والمعرفي لديها، وبالتالي توقع متى سوف يتحول هذا التراكم الكمي إلى تراكم نوعي وثوري، قادر على تحديد الطبقة والجهات المسؤولة عن الفساد والنهب والاستبداد الحاصل، وبالتالي استهدافها جميعها دون استثناء، وبناء البرنامج الثوري الذي يحقق أهداف ومطالب الشعب.
وعليه يستمد سلامة التفاؤل الذي ينثره في كل مكان، من التصاقه بالشعوب في العشوائيات السكنية؛ والمخيمات؛ وفي الحارات والأزقة المنسية، ومن قدرته على التماهي معهم وفهمهم واستيعابهم، وهو ما يفسر قدرته على استيعاب وتفهم الحالات التي توحي بأن الشعوب لا تدرك مصالحها الذاتية والجماعية، حيث نجده يبحث عن أسباب هذا السلوك كي يفندها ويشرحها بعيداً عن خطاب لوم الشعوب الذي ينتهجه الكثيرون حتى ما بعد الثورات. بينما على الطرف الآخر نجد في القاعات والمقاهي والمراكز الفخمة والبراقة من يروج لتفاؤل وهمي، خادع، مستمد من إرادة ومصالح الطبقات المسيطرة سواء المحلية أو الخارجية، تفاؤل لن يفضي إلى تغيير الواقع بل على العكس يقود إلى مركزة السلطة والسيطرة والنهب الاقتصادي والاجتماعي، وبالتالي يدفع الشعب نحو واقع أسوأ وأقرب للثورة.
لكن ولأننا نتحدث عن تفاؤل العقل في أحاديث وكتابات سلامة عموماً؛ وفي المقال المذكور خصوصا، لا بد من إدراك شروطه ومتطلباته، بمعنى لن نجد نتيجة حتمية وتلقائية محددة زمانياً ومكانياً له، بل على العكس تماما هو تفاؤل مشروط بقدرتنا كشعوب ومناضلين ثوريين، على امتلاك وعي وبرنامج ثوري، وهو ما يشير له سلامة بتفاؤل الإرداة، فالواقع الثوري حقيقة عيانية يمكن إدراكها جيداً عربياً، وهو أخذ في النمو والتبلور أكثر، نتيجة استمرار الأنظمة بذات السياسات التي أدت إلى الثورة، وانطلاقاً من تلمس ميل الشباب نحو القراءة وفهم الوقع وتحليله من أجل تغييره، أي لم تدفع الثورات المضادة وممارسات الأنظمة الإجرامية برعاية وحماية وأحياناً مشاركة ميدانية دولية؛ الشعوب نحو اليأس والقنوط والاستسلام؛ بل نحو محاولة فهم أسباب عجز الثورة عن تحقيق أهدافها حتى الآن، من أجل معالجة هذه الأخطاء والمشاكل في القريب العاجل، حتى تتحول الثورة من حركة عفوية إلى حركة ذات برنامج ثوري واضح المعالم والسبل. إذ لا يملك المفقرون والمهمشون العرب ترف الاختيار بين الثورة أو الاستسلام، فالواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي العربي، له نتيجة ومسار واحد يتمثل في حتمية موتهم انتحاراً نتيجة العجز عن إيجاد فرص عمل، أو جوعاً من غلاء الأسعار وشح الرواتب، أو مرضاً نتيجة غياب أو محدودية وسوء دور الدولة صحياً ونتيجة الفقر الذي يفرض على جزء كبير من الشعب تجنب وسائل العلاج العلمية والفعالة.
وبالتالي ولأن الموت واحد سواء فقراً أم مرضاً أم جوعاً أم قمعاً بأيدي السلطات الاستبدادية والإجرامية؛ ندرك جيداً أننا في خضم واقع ثوري لا خيار لنا فيه سوى الانتصار عاجلاً أم آجلاً، وأن السبيل الوحيد لوقف شلال الدماء المسالة اليوم، يكمن في قدرتنا على الانطلاق من الواقع نحو الإرداة الثورية ذات البرنامج العلمي القادر على انتشال أوطاننا وشعوبنا من جحيم الموت والاستبداد والنهب.