لقد ساهم القرار الأمريكي الأخير بما يخص القدس في تسليط الضوء على دور القيادات الفلسطينية في انحدار القضية وربما تصفيتها، فشهدنا تصاعد العديد من الأصوات في الداخل والخارج التي تطالب بتنحية هذه القيادات، نظراً لمسؤوليتها المباشرة عن العجز والخنوع الذي وصلنا له، على الرغم من جميع أشكال النضال والتضحية التي كان وما زال الشعب الفلسطيني يسطرها، مما يعكس ضحالة وضعف قيادة الثورة الفلسطينية قياساً بحجم النضالات والتضحيات المقدمة.
لكن من هي القيادات أو القيادة الواجب تحييدها وإزاحتها عن المشهد الفلسطيني كخطوة ضرورية لاستعادة زمام الأمور وإعادة الألق والنجاح للقضية عموماً، لاسيما إذا أخذنا بالحسبان أننا مازلنا في مرحلة الثورة وإن خفتت أو حيدت، وهو ما يحيلنا للنظر جيداً لتحديد المسؤول عن تحييدها اليوم.
فعلى الرغم من زيادة أعداد الفلسطينيين المقتنعين بوجوب الخلاص من قيادة السلطة الفلسطينية الراهنة والمتمثلة بقيادة حركة فتح، إلا أن الواقع الفلسطيني وتفاصيله يشيران إلى تحمل جميع قيادات التنظيمات والقوى الفلسطينية المسؤولية عن حالنا الراهن و بدرجات متفاوتة، لتضحي هي الأخرى شريكاً مباشراً أو غير مباشر في مآل الأوضاع، مما يتطلب منا توضيح وتفنيد وتحليل دور مجمل القيادات الفلسطينية. ونظراً لاستحالة تناول وشرح طبيعة مشاركة كل حركة أو تنظيم منهم سوف نقوم بتناول العناوين العامة لكل خط سياسي أو إعلامي مع الإشارة إلى أبرز القوى الممثلة له. لكن أولاً لا بد من الإشارة إلى ضرورة التمييز بين موقف ودور أعضاء وأنصار كل حركة من الحركات ممن يبحثون عن إطار لعمل منظم ينجح في استعادة جميع حقوقنا المستلبة وبين أعضاء قيادة السلطة والمنظمة وسائر القوى والحركات والتنظيمات الفلسطينية.
ولتكن البداية بحمَلة راية السلام والخضوع للإرادة الدولية بقيادة حركة فتح، والتي ساهمت بالشكل الأكبر في تقويض النضال الفلسطيني بشقيه العسكري والسلمي في مقابل مجرد وعود غير رسمية لإقامة دولة فلسطينية على جزء من حدود 1967 أو على كامل أراضي 67 بأحسن الأحوال وفقاً لادعاءات قادتها. لتبادر قيادة الحركة مستفيدة من رصيد الحركة النضالي ومن جماهيريتها إلى تقديم جميع التنازلات الممكنة لقوى الاحتلال دون أي مقابل يذكر. حيث لم تكتف بالتخلي عن تحرير كامل التراب الفلسطيني فقط بل عرضت جميع ملفات القضية الفلسطينية للمساومة والتفاوض المبني على الإرادة الدولية والأمريكية خصوصاً بدلاً من التمسك بكافة الحقوق المستلبة منذ ما قبل 1948. كما تخلت الحركة ممثلة بالسلطة عن أي وسيلة ضغط على الاحتلال أو المجتمع الدولي، متحولة إلى أداة أمنية لحماية الاحتلال وتقويض أي محاولة أو إمكانية لمقاومته بغض النظر عن الوسيلة المتبعة أكانت سلمية أم غير سلمية. كما أسهمت في تحويل مناطق سلطتها النظرية إلى مناطق معتاشة على المساعدات الدولية لاسيما الأوروبية، وخالية من أي إمكانية لتأسيس أو حماية الاقتصاد المنتج الذي كان قائما ما قبل الاتفاق حتى، لا بل ومنحت الاحتلال إمكانية التحكم في حركة السلع والعمالة سواء باتجاه الأراضي المحتلة عام 1948 أو باتجاه الدول المحيطة، فضلاً عن تحكم الاحتلال بالحركة المالية من وإلى مناطق السلطة، لتمنحه في المحصلة المزيد من أدوات السيطرة والإخضاع. إذاً، فإن السياسة المتبعة من قبل قيادات فتح أو السلطة قد مهدت الطريق للاستغناء عن جميع الحقوق الفلسطينية وعن إمكانيات المواجهة وهو الأمر الحاصل اليوم.
ومنه ننتقل لقسم آخر من التنظيمات الفلسطينية التي رفضت أوسلو ولكن بذات الوقت تحاول جهدها للانخراط فيه وفي التزاماته ونتائجه المباشرة، ومن أبرز ممثليه الجبهتان الشعبية والديمقراطية. فعلى الرغم من بيانات الجبهتين الرافضة لاتفاق أوسلو استناداً لخوائه من الحقوق الفلسطينية كإقامة الدولة أو استعادة الأرض أو عودة اللاجئين أو الاعتراف بحقوقنا كفلسطينيين، إلا أنهما تتسابقان للانخراط في السلطة الشكلية المنبثقة عن هذا الاتفاق، متذرعتين بوجوب ملء الفراغ السياسي الحاصل ما بعد الاتفاق، غير أن الواقع الميداني يشير إلى مدى اندماجهما في تبعات الاتفاق، لاسيما فيما يخص الكشف عن أذرعهما العسكرية وإنهاء جميع أشكال العمل السري الذي بلغ ذروته بالكشف عن جميع أسماء المقاومين والقادة المنخرطين به، مما سهل على الاحتلال تصفيتهم سواء عبر الاعتقال أو الاغتيال، كما أدى إلى تدمير بنيتيهما الحقيقية والجماهيرية وحوّلهما إلى مجرد مكاتب وموظفين لا يتحلون بأي مصداقية أو تأثير سياسي وميداني. فضلاً عن سقوطهما تحت رحمة قيادة السلطة أو منظمة التحرير-حركة فتح في الحالتين- مالياً للحصول على جزء من المنح الأوروبية والدولية المحوّلة للسلطة كجزء من ثمن اتفاق أوسلو، و بالتالي الرزوح تحت سطوة وسيطرة السلطة والاحتلال والداعمين الدوليين بالرغم من بعض الخطابات الرنانة الرافضة لهذا المصير. وعليه نصبح أمام شريك غير مباشر في اتفاق أوسلو يساهم في تقويض أي إمكانية لتأسيس بديل وطني يعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية ويعيد الاعتبار للبرنامج الأساسي، برنامج تحرير كامل التراب الوطني وإقامة الدولة الديمقراطية العلمانية.
وأخيراً نختم بالتوجه الأكثر جدلية والقائم على ادعاء رفض اتفاق السلام، وتقويضه ميدانياً عبر الكثير من العمليات العسكرية التي لا تخضع للحد الأدنى من المراجعة العلمية وحساب الجدوى، كونها مجرد شكل من أشكال الصراع غير المباشر على السلطة، كما لا ترتبط ولو قليلاً بغرض تغليب خيار تحرير كامل الأراضي الفلسطينية.
ومن أبرز أقطاب هذا التوجه حركة حماس التي تلاعبت كثيراً بمشاعر وعواطف أبناء الشعب الفلسطيني، كما جهدت كثيراً لإخفاء مطامعها السلطوية لحساب إظهار رفض أوسلو ومسار السلام كموقف فلسطيني أو إسلامي مبدئي، على الرغم من العديد من تصريحات ومواقف قادتها والمتنفذين فيها المعبرة عن قبول الحركة لشكل من أشكال اتفاق السلام، وفقاً لرؤيتها الإسلامية وبقيادتها طبعاً. لتستمر الحركة في ذات الممارسة المتناقضة بين ما تعلنه وما تخفيه، حتى أوحت لها الظروف المحلية والإقليمية بإمكانية الانقضاض على السلطة وانتزاعها من براثن حركة فتح والسيطرة عليها بأي ثمن وشكل ممكنين، وقد تمخضت تجربتها عن السيطرة على قطاع غزة وحده بعد فشلها في السيطرة على الضفة الغربية رغم حصولها على غالبية برلمانية، إلا أن سيطرة فتح على السلطة الرئاسية وعلى جميع مصادر تمويل ودعم السلطة حال دون نجاح المخطط في الضفة.
وتعكس سياسة حماس الميدانية والعسكرية في غزة سعي الحركة للهيمنة على مجمل الوضع الفلسطيني بصورة شبه مطابقة لهيمنة فتح، وبطريقة تخدم مصالح قياداتها والمتنفذين فيها جهوياً ومالياً، ودون أي اكتراث لظروف ومعاناة الفلسطينيين داخل القطاع، الذين تأمل بعضهم في تحول القطاع لمرتكز للحركة لتحرير كامل الأراضي الفلسطينية وفقاً لخطابها الدعائي والمنفصل كلياً عن الواقع، حتى تحطمت صورة الحركة الجماهيرية بشكل واضح، بسبب ممارساتها الربحية والاستعلائية في غرة بداية، ومؤخراً على خلفية تغيير الحركة لبرنامجها السياسي الذي قارب البرنامج المرحلي لمنظمة التحرير والذي يعتبر الأب الشرعي لأوسلو، بالإضافة إلى موافقة الحركة على عودة سيطرة فتح على غزة أخيراً ومشاركتهما السلطة، والقبول بإخضاع المكوّن العسكري لسيطرة فتح أو لإجماع فلسطيني وهميّ يعكس سيطرة المتحكم في الموارد المالية، أي حركة فتح.
وبالتالي باتت تعكس سياسة وممارسة حماس جوهر وهدف الحركة، والمتمثل في التلاعب بالقضية الفلسطينية وبمشاعر وإرادة الفلسطينيين خدمة لمصالح قادتها وطموحاتهم السياسية والأمنية وأحياناً الجهوية والإعلامية فقط.
وبذلك نكون قد غطّينا مجمل القوى الفلسطينية باستثناء القوى القابعة في أحضان بعض الأنظمة العربية -كالنظام السوري- والتي لا يستوي الحديث عنها دون الحديث عن الأنظمة التي تعتاش منها وعليها، نظراً لعدم تمتع هذه القوى بأي جماهيرية تذكر أو بأي تأثير سياسي أو إعلامي على مجمل الوضع الفلسطيني -لاسيما إن حيدنا انتماء بعض الفلسطينيين لها طمعا في نفوذها وفي حمايتها داخل سوريا- كما أنها قد تحولت إلى مرتزقة وورقة ضغط بيد الأنظمة المسيطرة عليها. وعليه فمن العبث تحليلها ضمن السياق الفلسطيني، ومن البديهي إسقاط قادتها الذين حولوها وحولوا إمكانياتها وخبراتها إلى ورقة مساومة وابتزاز بيد النظام العربي.
وعليه فمن الأجدى لأي حركة جماهيرية ثورية الحذر والوضوح ميدانياً وسياسياً حتى لا يجير الفعل الثوري لصالح هذه القوة أو تلك، بل يجب أن نعمل على كنس جميع هذه القوى أو جميع هذ القيادات، وبصورة شاملة لا تستثني بطانتهم الفاسدة ومرتكزات قوتهم التنظيمية والمالية. أي علينا وبالتعاون والتنسيق مع جميع مكونات الشعب الفلسطيني المنظمين والمستقلين الوطنيين الكشف عن كامل البنية المحلية -البطانة- التي تحمي القيادات الموجودة اليوم، كي لا يتم الالتفاف من قبل أي فرد من هذه البنية مستقبلاً، وكي ندعم عملية تغيير جذرية وشاملة لمجمل الجسد السياسي والتنظيمي الفلسطيني، كمرحلة أولى لبناء هياكل وأحزاب أكثر التصاقاً بالشارع وأكثر وضوحاً وشفافية سياسية ومالية، ومستندة لمرجعية شعبية بدلاً من استنادها لمرجعية إقليمية ودولية، حيث تعمل المرجعيات الإقليمية والدولية على فرض جهة أو طرف سياسي خاضع لسيطرتها المالية والسياسية على شعبنا وقضيتنا، هذا الشعب الذي لا يتوانى عن تقديم كل ما يملك في سبيل استعادة كامل الحقوق المستلبة. مما يفرض علينا جميعا العمل على خلق قيادة سياسية وميدانية ترتقي لمستوى تضحيات الشعب ولمستوى قضيتنا العادلة.