لفوزي البكري أبن مدينة القدس ديوان شعري عنوانه «صعلوك من القدس القديمة» كتب فيه قصائد عن القدس وعلاقته بها في سبعينيات القرن العشرين.
كان البكري شاباً في تلك الأيام وكانت أجواء المدينة في حينه أجواء انفتاح.
تغيرت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وانفتح الفلسطينيون على أسواق العمل الإسرائيلي والبضائع الإسرائيلية ومال قسم من الشباب إلى حياة اللهو والعبث. أقام قسم من الشباب علاقات مع شابات يهوديات -وإن كان اللقاء عابراً- وسهر قسم آخر في فنادق المدينة وباراتها، وكان الشاعر ميالاً إلى تعاطي الخمر. ولم يرق سلوكه وسلوك الشباب الفلسطيني الذي أقام علاقات مع شابات إسرائيليات للمحافظين من أبناء المدينة، ما دفعهم لأن يروا في سلوك هؤلاء وهؤلاء السبب في ضياع القدس الذي قد يؤدي لتهويدها.
سيرد الشاعر على من وجه له الاتهام بقصيدة يقول فيها:
لن يهدم الحي الحزين تطوحي/
وترنحي وتعربدي وصراخي/
سيظل بنيان المدينة قائماً/
ما لم تنله معاول المعراخ.
كما لو أن الشاعر كان ذا رؤية ثاقبة حقاً، وهو بذلك يختلف عن الشاعر اسكندر الخوري البيتجالي الذي كتب في في بدايات القرن العشرين قصائد يحذر فيها فتيات المدينة من التشبه في ملابسهن وشعرهن بالفتيات اليهوديات القادمات حديثا -في حينه- من أوروبا.
ثمة وجهتا نظر مختلفتان تعزوان ما آلت إليه القدس أو ما قد تؤول إليه، وهما وجهتا نظر ستظهران في الأدب الفلسطيني بين فترة وأخرى.
في السنوات الأخيرة كتب محمود شقير عن القدس العديد من النصوص ومما لاحظه أن المدينة التي كانت مصدر إشعاع وتمدين للريف أخذت تتريف -يعني أن تتحول إلى قرية لا مسرح فيها ولا سينما ولا صحافة ولا حركة نقابية نشطة. قرية تصحو مبكراً وتنام مبكراً، وأحزنه هذا التحول.
عزا شقير الأمر إلى الاحتلال الإسرائيلي الذي أخذ يضيق على القدس من أجل تهويدها وهو ما يلاحظه كل من يزور القدس.
لا فرق كبيراً بين ما يذهب إليه البكري وشقير في تبيان السبب وعزو مآل القدس وضياعها إليه، بخلاف ما يذهب إليه البيتجالي. وجهة نظر البيتجالي وجهة نظر يتبناها آخرون غيره فيما يخص القدس أو الصراع العربي- الإسرائيلي.
قبل 1948 كتب برهان الدين العبوشي مسرحية شعرية عنوانها «وطن الشهيد» وكتب لها مقدمة أفصح فيها عن تخوفه من الهجرات اليهودية، فقد تؤثّر أخلاق القادمين من أوروبا على الأخلاق الريفية العربية الأصيلة. كما لو أن الصراع هو صراع بين عالمين: شرقي محافظ وغربي منفتح، وإذا كان القادمون أثّروا على أخلاق أهل المدينة فإن الريف ما زال بعيداً عن التأثر. كان العبوشي من جنين، وجنين في ذلك الوقت أقرب إلى القرية منها إلى المدينة.
لم يختلف القاص توفيق فياض، وهو من أصول ريفية، عن العبوشي كثيراً.
في 1977 أصدر فياض مجموعة قصصية عنوانها «البهلول» تتكون من ثلاث قصص منها قصة عن القدس هي “أبو جابر الخليلي” وبطلها أبو جابر من أصول خليلية سكن في القدس. ليس من الضروري أن تتطابق رؤية المؤلف فياض مع رؤية أبي جابر ولكن روح القصة تذكّرنا بمقدمة العبوشي لمسرحيته والمقدمة تعبر عن رؤية العبوشي نفسه. بطل القصة أبو جابر إنسان تقليدي محافظ على الأخلاق ونتيجة لهذا يدفع في حياته ثمناً غاليا.
كان أبو جابر قبل 1967 يعمل في مخفر شرطة أردني ولاحظ أن الضابط يريد استغلال امرأة جنسياً. ولم يرق له هذا فتدخل وكان أن عوقب وسجن بحجة أنه ينتمي إلى ”القوميين العرب” وسيفتح له ملف يعاد إليه في زمن الاحتلال الإسرائيلي ليزج به في السجن بحجة أنه قومي عربي.
اضطر أبو جابر أن يعمل حارساً ليلياً في بلدية القدس وفي أثناء تجواله في الشوارع وفي أثناء جلوسه على المقهى ينتظر وقت عمله يرى ما لا يروق له: فتيان وفتيات ملابسهم توحي بأنهم عراة يعبطون بعضهم بعضاً ويدخنون الحشيش ويمزحون معه -مع أبي جابر- وكل هذا لا يروق له طبعاً.
أبو جابر لا يكتفي بالتذمر. إنه يقرر المقاومة حتى يخلّص المدينة مما آلت إليه.
لو كان الاحتلال الإسرائيلي بالدبابات وحسب لهان الأمر، أما أن يحتلوا المدينة بالحشيش والمخدرات والدعارة فهذا ما لم يستطع احتماله، وهو هنا مثل أبو بلطة بطل قصص خليل السواحري “مقهور الباشورة“.
في رصد أسباب خوف سكان المدينة عليها ما يشير إلى اختلاف في وجهات النظر وإن مات لدى الطرفين كل ما هو مشترك: ضياع المدينة.
تريّف أبناء المدينة وأصبحت الحياة الثقافية والاجتماعية -وأيضاً الاقتصادية- فيها فقيرة، والإسرائيليون يعملون بجد واجتهاد لتهويد القدس؛ تهويدها بجعل الأكثرية من سكانها يهوداً، وتهويدها بشراء العقارات فيها وإقامة المعابد اليهودية ونحن ما زلنا نصرخ “القدس عروس عروبتنا”
وربما نواسي أنفسنا بقصيدة تميم وبسطريها الدالين: “في القدس من في القدس إلا أنت” و”في القدس من في القدس، لكني لا أرى في القدس إلا أنت“.
منذ 1967 والقدس تحضر. وستظل تحضر وسيظل بنيان المدينة قائماً.