إلى لينا سنجاب
تغيرت بيروت كثيراً، تغيرت لتشبه مدن المشرق قاطبةً: يتذمر الجميع هنا باستمرار، يتذمرون من كل شيء: من غلاء الأسعار والتلوّث والفساد و اللاجئين السوريين والزحمة والطقس وتبدّل نفوس الناس وانحلال العائلة وتفاهة وسائل الإعلام؛ ويتذمرون من انسداد الأفق: لن يتغير شيء في أرز لبنان الخالد. “من الأفضل أن تتكلم بلهجة لبنانية”، ينصحني صديق لبناني صدوق. إعلانات طرقية لزعماء الطوائف: العماد عون والشيخ الحريري، ولأنصاف زعماء: جبران باسيل ونهاد المشنوق، ولسجائر أجنبية ومطاعم راقية وغير راقية: لبنانية وعراقية، ولشهداء الحزب، ولشهداء الآخرين، ولعقارات جديدة فارهة، ولمغنين ومغنيات مملين. استقال الحريري وأنا على الطائرة إلى بيروت من كوبنهاغن، أو بالأحرى خُطف، ثم حُرّر في باريس، وعاد إلى عاصمته، فيما جاري بائع الفول يتابع جريدة المستقبل يومياً هازاً برأسه، دون تعليق، صارخاً بالطفل السوري العامل، “كترلو بصل للأستاذ”، قبل أن يصفعه بود، “بسرعة لك حيوان”. أتجوّل على الكورنيش. رجال يسبحون في البحر. الطقس أدفأ من شتاء الدنمارك. يمشي الكهول على مهل، وتركض بعض الفتيات متجاهلات التحرش المستمر، يستمعن إلى أغان تحميهن من بيروت وعنفها.
أتعرّف على شوارع “الأشرفية” في مساء هادئ، تلك التي قال سائق التاكسي إنه لا يعرفها جيداً، ولا يريد أن يعرفها؛ لا يحب الرجل أن يخرج من مناطقه، يشرح لي بنفس طائفي صريح. أقف محتاراً لأتأمل نصباً صغيراً لثلاثة شهداء أمام مصبغة صغيرة قرب بيت الكتائب: أسماء الشهداء وتواريخ ميلادهم المختلفة مع تاريخ موتهم المشترك: طفل ومراهقة وشابة. لا معلومات عن كيفية مقتلهم: هكذا يموت الناس في الحرب، بلا أسباب ولا مبررات: هل قتلهم الاقتتال المسيحي الداخلي أم الفلسطينيين أم القصف المسلم العشوائي أم الانتقام اليساري من المناطق المسيحية؟ لا معلومات: فقط ذكرى لا تزول لشهداء في مقتبل العمر، شهداء شخصيون جدّا، حيث يبدو النصب مرتبطاً بالمصبغة، لا بالسياسة الدولية ولا بالحرب الأهلية. في النهاية، أعني نهاية الحرب، يعود الشهداء لذويهم، حيث ينتمون، ولا يبقى من ذكرى المجازر الشهيرة إلا أصداء باهتة في كتب التاريخ: تماماً كصور بشير الجميل القديمة الباهتة، ”الحي فينا“، بالطبع، التي تطالعني وأنا أنتظر صديقي السوري. انتقل شباب الطبقة الوسطى السورية، ومعظمهم سنّة، من الحمرا ذات الأكثرية السنية إلى مناطق مسيحية فقيرة في الأشرفية، كالجعيتاوي. يقول السنة السوريون الشباب إن المسيحيين لا يحبونهم، ولكنهم أيضاً لا يحشرون أنفسهم بحياتهم، على العكس من المسلمين، بطوائفهم المختلفة، سنة أو شيعة أو دروزاً. يتماهي السوري بسهولة مع سنيته هنا، ولكنها في النهاية لا تخدمه ولا تعني له شيئاً: السوري كالفلسطيني، إثنيته أهم من طائفته، إن كان سنياً؛ أما الأقليات السورية فتُعامل كأقليات في لبنان. محظوظون، أفكر بشكل طائفي، ولا أستطيع ضبط نفسي. أنا وبشير، طائفيان يتبادلان النظر بغضب: هو بعربيته المكسرة ومظهره العسكري الرجولي، وأنا بارتباكي الدائم وخوفي من قبولي الطائفية وسنّيتي وتفهمي للعنف مع دخول الحرب السورية عامها السابع: أنا وهو انحزنا إلى أطراف محددة متناقضة في حروب طالت دون نهاية واضحة، وتركنا سنين الشباب تمضي فيها لتصبح الحرب هي الحياة؛ ثم افترقنا في الخواتيم: هو صورة باهتة على الجدران، وأنا أكتب عن صور قتلى لا أتفق مع أصحابها ولا مع قتلتهم.
تائهاً في شوارع المدينة في منتصف الليل، في سيارة أستاذي القديم من أيام دمشق، ذي الشارب الكث والابتسامة الدائمة المطمئنة، أتأمل المدينة. جميلة بيروت حين تخلو من الناس. يقول إنه منهك، ولكنه لن يتوقف عن العمل: الروح شباب، ولكن الجسد متعب، يا فتى. أشعر بحميمية في سيارته التي تطوف بنا بلا هدف، والتي لا يحبها، أكثر من كل البيوت البيروتية. تمنّيت لو بقينا نطوف ساعات في بيروت الفارغة، ولكنني طلبت منه أن ينزلني في مكان تعرّفت عليه بسبب صورة كبيرة للإمام موسى الصدر أمام محل حلويات. أنزل وقلبي مثقل، هل حقاً حلوياتنا السورية أفضل من اللبنانية، أم أنه جزء من عدم قدرتنا على التأقلم مع واقعنا الجديد؟ أجرّب حلاوة الجبن، لألعن الحرب والمنفى.
في الجامعة الأمريكية يعاملني الزملاء بمحبة صادقة، ويسخر مني أحد الموظفين بوقاحة وتعالي لا يخفيهما. ألتقي بطفل حوراني قرب البيت، يومياً، يقول إنه زعبي من درعا، أرد أنني زعبي. لا يصدّق. يقول إنني أمزح، وإنه لا يحب هذا المزاح. أصمت. أسأله عن أهله، لا يجيب. كيف وصلت هنا؟ لا يريد أن يقول. يخافني الفتى. يمسح حذائي، ويثرثر عن صعوبات الحياة. يقول إنه لا يحب بيروت، ولا يحب سوريا. أمّيٌ، يتمنى لو ذهب إلى المدرسة كي يلهو قليلاً. ابتدأت الحرب وعمره أربع سنوات. يكذب قائلاً إنه مع إخوته هنا. في المرة التالية يقول إنه وحيد. في الثالثة يقول إنه مع أمه. لا يعرف من يحارب من. يقول إن الأفضل له ألا يعلّق أبداً على الحرب في سوريا، وألا يكون له رأي. أركب السرفيس إلى مخيم مار الياس. أضيع في المخيم، ليتلقّفني الناس ضاحكين: لا وجود للمكتب الذي تبحث عنه: مكاتب منظمات غير حكومية على بوابة المخيم، وملصق كبير لحزب الله دعائي مع أحد الفصائل. ابتسامة عرفات الكبيرة تطمئنني: ضعيف أمامه أنا، ضعيف وغير موضوعي. صغير وضيق ومتداخل المخيم، مسالم كآخر ما تركه الله على أرضنا. أخرج بمعنويات عالية، وحزن لا نهاية له. أراجع في رأسي محاضرتي عن معاني الكلمات وبنية المفاهيم للجامعة الأمريكية يوم الجمعة: تحكّمت السياسة بمصير الفلاسفة الثلاث اللذين سأتكلم عنهم، بالرغم من عملهم التقني البحت تماماً. أنزل في الحمرا، وأمشي متردداً: التقي بصديقة لم أرها منذ 2009. أشتري منقوشة زعتر، آكل نصفها وأعطي النصف الثاني لطفل متسول سوري من حمص. أمشي إلى البحر، على مهل، بلا هدف. مدندناً، “أنا قلبي ليك ميال“…
تغيرت بيروت كثيراً: أصبح الناس يهمسون همساً لا يُسمع حين يشتمون حسن أو يسخرون منه: تتلفّت أعينهم بشكل غريزي يميناً ويساراً، ويتوسّع إنسان العين بذعر أرعن لا ضابط له. تقول مؤيدة للجنرال عون إن المسيحيين يجب أن يحاربوا مع الشيعة كي يتخلصوا من داعش. داعش في كل مكان، يقول زوجها، مبدياً خيبته من كوني علمانياً ولا أحب حسن ورهطه. أتحاشى الكلام في السياسة، محافظاً على روابط عائلية لأسباب لست واثقاً منها. أتجول في معرض الكتاب بكسل، لا شيء مثير: غاب الخلايجة والمصاروة وحضر الإيرانيون وأتباعهم. أدخل كل الأجنحة، تلبيه لشعور عميق بواجب لا أستطيع تبريره، مثل الآمر الأخلاقي الكنطي. أقف في أحد الأجنحة التابعة لحزب الله، لأتأمل مجموعة كتب جميلة الشكل صغيرة الحجم سوداء اللون عن قادتنا: أمسك الكتيب الذي يحكي عن قاسم سليماني، وأبتسم. يبتسم الفتى العامل في الجناح؛ أُعيد الجنرال، الذي يقع من يدي دون قصد، لأُصاب بذعر لا حدود له: ما الذي سيحدث لو عرفوا أنني سوري ووقع مني سليماني هذا؟ أعتذر بالإنكليزية: “سوري، سوري. ريلي ريلي سوري”. في محاولتي لإعادة الكتاب، أصطدم بالرف، ليقع أرضاً آيات الله العظمى والسادة والأشراف والأئمة من أهل البيت ومن خارجه فوق بعضهم البعض ويتناثروا بلا معنى على أرض قذرة، ويتحوّل ضحكي إلى قهقهة همجية هستيرية، مترافقة مع الذعر الأرعن إياه. أتركهم أرضاً وأخرج راكضاً متمتماً بالإنكليزية، ” أي أم ريلي ريلي سوري.”. أتلفت لتأكد أنهم لم يلحقوا بي. لا أحد اكترث. أعود مرتين إلى مكان الجريمة، وأراقبهم لأتأكد أنهم لا يراقبونني. لا يهدأ انفعالي، إلا مع مجيء الأصدقاء إلى جناح منشورات المتوسط، لأعرف بأنني لست وحيداً بين الرايات السود وقادتها.
أعيش في فقاعة برجوازية بعيداً عن المخيمات والخيم والمخيّمين. يزورني أهلي على عجل: ساعات مسروقة من عمر مسروق. كما زار أهل الأصدقاء بيروت ليلتقوا بهم، لنقضي ساعات حزينة نستذكر ماضياً حزيناً ونبحث مستقبلاً حزيناً. ساعات مسروقة لا تكفي لبلّ الريق من أهل لا نتفق معهم في شيء، إلا محبة لا حدود لها.
أغادر بيروت بعيد رأس السنة، بعد شهرين طويلين كصيف في غير أوانه. في اليوم الأخير أتفرّغ لوداعها: من يعرف متى سنلتقي مرة أخرى؟ مطر خفيف، كمطر دمشق، يضمني لساعات. في منطقة “الظريف” أبنية ساحرة، بعضها نصف مهدّم وعليها آثار الحرب: تتناثر حولها أبنية حديثة، وقبيحة، ومسيئة. غابة إسمنتية هذه العاصمة: استباحها حكامها اللذين سبوها بعد الحرب، وأثناءها. قبل عقود كنت ترى البحر من شرفة منزلك: اليوم ترى جيرانك، أو، بالأحرى، أغطية وستائر كثيفة تحجب الناس عن بعضهم في الغابة: متدينون يخافون بعضهم البعض، وأبنيتهم تتعانق وتتراكب وتتكاثر دون رحمة. أتجه إلى الأجزاء الأفقر من “عائشة بكار”، مبتسماً لشجرات الميلاد التي تطالعني في المناطق السنّية، ولكسل أصيل في أول أيام الشتاء، ومفتتح السنة الجديدة.
أقف أمام كراج لتصليح السيارات، لأستمع إلى صوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد قارئاً سورة الضحى، ومراهق متسخ بشحم أسود ينصت بكليته، للشيخ، وللمطر، ولفكرة الشتاء:
«بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ وَالضّحَى * وَاللّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدّعَكَ رَبّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى * فَأَمّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمّا السّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ»
كان الشيخ محبوب عائلة أبي في طفولتي. ربما لهذا السبب جلست لأنصت لماض لا أعرف كيف أبقيه حياً،؛ أو ربما كان للبساطة الساحرة في السورة، للمراهق، ولي، ولبيروت الحزينة، أثراً إلهياً على تجوالي التائه؛ أو ربما لأن الأولى أقسى مما أستطيع تحمله، ولأنني ضال في حرب لا يلوح لها في الأفق إلا نهاية مأساوية لأبطالها ولشياطينها.
لا يبدو أن المراهق يحلل مثلي استحواذ الشيخ على بصيرته: ببساطة ساحرة يغرق في صوت الشيخ المصري الشعبي. دخان سيجارته يهزها نسيم صيف في غير أوانه، ليعود ويكمل طريقه مترنحاً إلى الأعلى.
تحترق سيجارة المراهق الذي لم يخط شاربه بعد، في يده، وهو يتأمل الفراغ الضيق أمامه، في فسحة لا تدخلها الشمس، داخل الغابة الإسمنتية التي يسميها البعض باريس الشرق.
أردد، مع المراهق، ودمعي لا يسيل، عاصياً إياي بتعجرف:
“ولسوف يعطيك ربك فترضى“.
صدق الله العظيم.