رمان التقت به فكان هذا الحوار:
كيف جاءتك فكرة رواية «الحاجة كريستينا»؟ وكيف تقدمها لنا؟
بدأت كتابة رواية «الحاجة كريستينا» في صيف العام 2014، مباشرة بعد نهاية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. كانت أهوال الحرب مازالت عالقة في كل مكان، والرعب يقتات على استقرار الناس.
بدأت كتابة الفصل الأوّل المعنون بـ”الشبح”. كان ثمّة شبح مخيف أراه كل ليلة. أظنه سيلتهمنا كلنا. كأنّنا نجونا من الحرب بالصدفة، بصدفة أخرى. ثمّ أردت أن أتحدث عن نسوة المخيّم. في الحقيقة كنت منذ صغري مفتوناً بقوة تلك النسوة وهنّ يقارعنّ الحياة. في حارتنا في المخيّم، كما في كل حارة، ثمّة مجموعة من النسوة القويّات اللاتي لا يمكن تصور حياة الحارة بدونهنّ. وكنّا إلى جانب الكثير من الأشياء أساسيات في مواجهة الاحتلال. أذكر كيف كنّ يخلصننا، ونحن فتية، من أيدي الجيش. كانت أمي منهنّ بالطبع. كنت أفكر كيف يمكن لي أن احتفل بهذا العالم الثري، وأرد له بعض الدين. من هنا ظهرت فكر المرأة البطل في الرواية. ولما كنت لاجئاً من مدينة يافا فإنّ الحكاية الأثيرة التي كانت تبكيني وأنا طفل عن جدتي حين أجبرت على الخروج من بيتها في يافا إلى خيمة على رمال غزة، كانت حاضرة دائماً.
ثمّة سؤال كبير كان يدور في عقلي حول الهوية وكيف ينجح الفلسطيني رغم كل شيء بالتعلق بأصغر الأشياء التي تذكره ببيته القديم. المفتاح القديم الذي تحتفظ كل عائلة به في صدر البيت كأنّها تقول للزمن أنّنا سنعود شئت أم أبيت. كيف يتحدث جارنا عن شبكة الصيد في يافا. كيف تكون ذكريات المدرسة كأنّها روايات من عالم “أليس في بلاد العجائب”. عالم ثري. الذاكرة التي تتعارض مع قسوة الواقع، والفرار للماضي لأنّ الحاضر لا يجلب إلّا الألم.
من هذه الأفكار ولدت كريستينا أو “فضة” اليافاوية التي تناضل ببسالة في وجه الواقع واللجوء والنكران من أجل أن تحافظ على ذاكرتها. فالفتاة التي وصلت المخيّم منكرة مشكوك في هويتها تصبح بعد فترة أهم امرأة في المخيّم وأيقونة من أيقوناته. ثمّ تختفي ثمّ تعود. حكاية تليق بالواقع الفلسطيني وتعكس ثنائية الغياب والحضور فيه.
وصلت روايتك «حياة معلقة» إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر للعام 2015، وها هي روايتك «الحاجة كريستينا» تصل للقائمة الطويلة لعام 2018. سؤالي: ما الذي تضيفه الجوائز الأدبيّة للكاتب، وكيف هو تأثيرها في حركية الرواية العربية؟
كان وصول «حياة معلقة» مفاجأة كبيرة بالنسبة لي، حيث كانت أوّل رواية أنشرها خارج غزة. سعدت كثيراً، فالرواية التي لم أكن قد رأيتها مطبوعة، بسبب الحصار المفروض على غزة، وصلت القائمة القصيرة للجائزة. الرواية تغلبت على الواقع الذي تتحدث عنه. بالطبع أيضاً كان اختيار «الحاجة كريستينا» للقائمة الطويلة مفاجئاً، وفرحت كثيراً لأنّ هذا يعني أن مشروعي الروائي يلقى التقدير والالتفات له. غاية كل كاتب بجانب رسالته الفنية والإنسانية هو أن تجد القصص والحكايات التي يرويها وبالتالي ما يقوله التقدير من قبل القراء.
وحين أنتهي من رواية أظل قلقاً من ردة فعل القراء، أترقب ما سيقولونه عنها. لأنّني أريد لأبطال حكاياتي أن يجدوا من يفهمهم أو يتفاعل معهم، لأنهم وقتها يصبحون أبطالاً حقيقيين وليس مجرد شخصيات على ورق. أردت لـ«الحاجة كريستينا» أن تجد أصدقاء في عالمنا الحقيقي، كما أردت لـ”نعيم” بطل «حياة معلقة» أن يجد من يفكر فيه، من يتألم لألمه ويفرح لفرحه. من المهم أن نلاقي الاهتمام، ومن المهم أن تلفت روايتنا الانتباه.
الترشح مرّة أخرى للبوكر عنى أشياء كثيرة بالنسبة لي. أوّلاً لا أحد يكتب من أجل الجوائز. والأدب الذي يكتب من أجل شيء خارج شرطه الفني يفقد أصالته. لم أعرف أن ناشري رشح «حياة معلقة» للبوكر إلا حين طلب مني توقيع الأوراق اللازمة، ثمّ جاء العدوان الهمجي على غزة، الذي استمر 51 يوماً، وانتهى العدوان ولم تنته تبعاته، وظللت مثل معظم سكان غزة نتداوى من تلك التبعات، حتى فاجئني الأصدقاء بالاتصالات أن الرواية ترشحت للقائمة الطويلة.
وبشكل عام فإنّ العمل الجيد وحده يستطيع دون مساعدة من أحد، على أهمية الترويج، أن يشق طريقه. فالأدب الجيد هو أدب عابر للزمن، أدب قادر على أن يظل في حيز التفاعل.
وعليّ القول أن البوكر لفتت الانتباه بشكل جيد لأعمالي وسلطت الضوء عليها من حيث أنّ الإشادة بالأعمال وترشحها يجعلها ضمن خيارات القراء والنقاد، وهذا كان هاماً كثيراً بالنسبة لي.
لمدينة يافا المحتلة حضور طاغ عبر صفحات الرواية. كيف يؤثِّر المكان في كتابة الروائي وفهمه لذاته؟
كلاجئ فلسطيني أنا مرتبط بالمكان الذي كان سبب تهجير عائلتي عنه أنّني بتُّ أعيش في مخيّم للاجئين، فبدلاً من أن أولد في أجمل مدينة على وجه الأرض، ولدت في بيت متهالك في مخيّم للاجئين. هل يمكن نسيان سطوة المكان وغيابه في أيّ حكاية عن الحياة هناك.
ويافا كمدينة كانت مدينة الفلسطينيين بإمتياز. ليس صدفة أن الحركة الصهيونية بنت مدينتها الأهم بجوار يافا، أقصد تل أبيب. ثمّة محاولة مبكرة لازاحة يافا عن صدارة الجغرافيا في المكان، ومحاولة إحلال تل أبيب مكانها. إنّه الصراع على المكان والجمال المكمل للصراع على الرواية حولهما.
إلى أيّ مدى ترى أن الأدب الفلسطيني استطاع أن يواجه حالة ضياع الهوية التي يراهن عليها قادة الفكر الصهيوني؟ وكيف ترى موضوع الهوية والتمسك بها في مواجهتنا اليومية المفتوحة مع المحتل؟
ليست حالة ضياع. سؤال الأدب الأساسي هو سؤال الإنسان والوجود. هل الهوية سواء بمعناها الواسع أو الشخصي بمعزل عن هذا السؤال؟ بالطبع لا. في الحالة الفلسطينية لا يبدو الأمر مختلفاً بل يزداد أهمية. سؤال الهوية هو مركّب أساسي في وعي الفلسطيني، لأنّ الصراع على المكان والرواية حول المكان جوهري في الواقع الفلسطيني. الرواية ليست بحث بالمعنى الفعلي، لكنها استكمال لبحث قائم: أقصد الحياة. بالتالي فهي اشتباك مع أسئلة الحياة.
هذا يوجب على الكاتب تحدياً من نوع مختلف خاصة في السياق الفلسطيني حيث سؤال الهوية والقوى العاملة على طمسها تعتمل داخل أتون الجغرافيا وفي الرواية التاريخية.
كيف كان شعورك وأنت تزور العام الماضي ولأوّل مرّة يافا، مدينتك التي هُجر منها والدك قسراً عام النكبة؟
يافا هي التجسيد الحقيقي للنكبة، إنها أندلس الفلسطينيين. عليك أن تتخيل وأنت تسير هناك كيف ينتفض جسدك وأنت تسمع وقع خطوات جدك وجدتك على الطرقات. يافا رغم كل سياسات التهويد والنهب إلا أن بها القليل منها، وبها أكثر شيء روحها.
الفلسطيني يجد نفسه هناك. تاريخ طويل من الحياة والحب والنشاط والتفاعل والتجارة والأدب والفن والصحافة والمظاهرات والخطب والنضال كله يترأى أمامك، كأنك تشاهد سينما مفتوحة تعبر الزمن إلى عوالم كنت تسمع عنها وتشاهدها في عيون الناس الذي أجبرهم هول الكارثة على مغادرة فردوسهم.
ماذا عن حضور المكان الأوّل في حياتك (مخيّم جباليا الغزي) والبيئة في صياغة أفكارك والنصّ؟
انا ولدت وأعيش في المخيّم. عالمي تشكل وفق وعي اللجوء والبحث عن المكان المستقر مقابل المكان المؤقت. المكان المستقر هو المكان المفقود. الفردوس الضائع. لكن رغم ذلك أظن أنّني أحاول أن أقدّم المخيّم ليس كمكان بؤس، وعذاب ومعاناة، ولكن أيضاً كمكان مليء بالحياة. الناس هناك تحب وتكره، وهم بشر وليسوا شخصيات أسطورية ولا هم خارقون للعادة. لديهم وطن يبحثون عنه وحلم يسعون خلفه، لكن أيضاً لديهم رغباتهم وأحلامهم وتطلعاتهم، لديهم بحثهم عن حياة أفضل.
كل شخصياتي تعيش في المخيّم، وكلها لديها نفس القصص التي تجري هناك. إنها تغرف من نبع الحياة الصافي حيث كان على الحكاية الفلسطينية قسراً أن تولد. لذلك فإن النصّ الروائي يتخلق في الأزقة وأنا أسير هناك، أو أجلس أمام البيت مع الأصدقاء في الحارة، ويأخذ شكله في التامل النوستالجي الذي يتم استعادته في حكايات الناس وطموحاتهم، كما في تفاصيل حياتهم العادية.
يلجأ بعض الأدباء للكتابة حتى يتخلصوا من آلامهم، أو ليبوحوا بأحزانهم، تُرى لماذا تكتب؟
بدأت أكتب لأنّني أردت أن أكون وفياً لقصص جدتي “عيشة” وقصص أهل المخيّم. لكنني تورطت بعد ذلك، وصار يصعب عليّ القول إذا ما حقاً أوفيت بما نذرت نفسي له، لذا كلما أنتهي من رواية أجد نفسي في الورطة مرّة أخرى في أتون حكاية جديدة.
بأي معنى ترى أن “الأدب قائم على الانتقائية“؟
أنت لا تقول كل شيء. لكن عليك أن تنتبه لكل شيء وتختار منه الحكاية المناسبة. والحكاية المناسبة سؤال معقد في الفن، لأنه يعني التفضيل. وحين يعمل الكاتب على روايته فإنه يقع ضحية قناعاته لحظة الكتابة. لذا فإن الرواية ليست مجرد لحظة تأمل أو انفعال، هي اندماج عالم الرواية بعالم الحياة الواقعي بغية إعادة صياغة حياة الشخصيات في الرواية.
بعد مجموعتين قصصيتين وثلاث مسرحيات وست روايات. برأيك ماهي مهمة الأدب الحقيقية؟
له مهام كثيرة، لكنه يعتمد أين تقف أنت، ومن أين تأتي بعالمك الروائي. بالنسبة لي مهمة الأدب هي الوفاء للحياة لأنّ غاية طموحه أن يكون منها.
أعود معك إلى كتاب «اليوميات» الذي صدر لك عن دار نشر “كوما” في بريطانية خلال العدوان الصهيوني على غزة عام 2014، والذي كتبته مباشرة بالإنجليزية وقدّم له الفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي. أسألك عن الهدف والرسالة من تحريره بغير اللغة الأم وإصداره في لندن بتقديم لتشومسكي؟
كل ما في الأمر أنّني كنت أكتب يومياتي خلال العدوان الأخير على غزة (لنعترف أن العدوان على شعبنا لم يتوقف بالمطلق، ولكن مجازاً نشير بالأخير لعدوان 2014). سألني ناشري الإنجليزي عن حياتي خلال القصف. وجدت نفسي أرد على إيميله بكتابة يومياتي مباشرة بالإنجليزية. كان يأخذ ما أكتب وينشره في كبريات الصحف العالمية خاصة “الغاردين” و”الساندي تايمز” و”نيويورك تايمز”. كنت أرسل له يومياً. بتّ أشعر أن الكتابة دليل على أنّني حيّ لم أمت، وأن هذا الكائن الحيّ الذي هو أنا يقوم بفعل ما، فالفعل أساس الحياة، إذاً هو لم يمت. بعدما انتهى العدوان ونجونا قمت بتجميعها في كتاب نشر بالإنجليزية وتمّ ترجمته للألمانية والنرويجية.
ماذا يعني لك صدور روايتك «حياة معلقة» باللغتين الإنجليزية والألمانية. وبالتالي هل أنت معني بأن يكون نصّك عالمياً؟
بالطبع أطمح أن يقرأ كل الناس ما أكتب. صحيح أن طموحي الخالص هو أن تعبر رواياتي الزمن الفلسطيني وتصبح جزءاً من ثقافة الفلسطينيين، أن تكون جزءاً من فهمهم عن لحظتهم، لكن أيضاً ثمّة طموح أن يقرأ الآخرون حكايتنا، أن يفهموا عنا. الأدب يقدم صورة مختلفة للحياة الفلسطينية. فالفلسطيني المقاتل العنيد الباحث عن تحقيق حمله، أيضاً إنسان لديه حياة يعيشها. الترجمة تساهم في إيصال ما نكتب للآخرين لأنّ البعد الإنساني للأدب هام في تسليط الضوء على أصالته.
إلى أيّ مدى ترى أهمية كتاباتك السياسية التي تقدمها في بناء أعمالك الروائية؟
ساعدتني قراءة السياسة خاصة في أطرها النظرية في فهم أعمق لمفهوم الصراعات بين البشر وتشكيل هويتهم. الصراع هو دراما، والتاريخ ليس إلا سلسلة من الصراعات يتم روايتها من وجهة نظر ما. حين أكتب في السياسة أشعر أنّني في فسحة مختلفة لكنّني أجد نفسي مرّة أخرى أكثر استغراقاً في فهم علاقة كل ذلك بعالمي الروائي.
ما الذي تبقى من الأدب الملتزم/المقاوم. وما هو مفهومك للالتزام في ظل اتجاه الكاتب الفلسطيني نحو الذات أكثر فأكثر؟
التزام الكاتب هو التزامه تجاه ما يعيشه أو ما يتخيله عن الحياة أو ذلك الجزء الذي فقده منها. أليس هذا التزاماً ذاتياً أيضاً؟ لكن الخوف أن يفقد الأدب طموحه وسعيه لأن يكون جزءاً من الحياة ويبحث عن نفيها. في السياق الفلسطيني أجدني ملتزماً بكل الألم الذي كنت أسمعه في صوت الناس وهي تروى قصصها في المخيّم، ملتزماً بحكايات جدتي وآهاتها وشغفها للماضي، ملتزماً بأحلام أترابي في البحث عن حياة أفضل، ملتزماً بكل ما أسعى إليه.
الكاتب يكتب واقعه. وهذا أكثر صحة حين يتعلق الأمر بعالم الروائي. بالطبع ثمّة روايات خيال علمي وفنتازيا، وهذه شيء آخر. أظن أنّني أردت منذ البداية أن أكون وفياً للعالم الذي أكتب، وللناس الذين تربيت وأنا أسمع حكاياتهم وقصصهم عن زمنهم الجميل قبل النكبة وعن واقعهم الأليم بعد ذلك. حكايات تجمع بين نقيضين، يشكلان عالمهم الذي يعيشون به. النوستالجيا والحنين للماضي ومحاولة العيش في الحاضر. تناقض أظنه أساس جيد للدراما. البطل المفجوع لكن القادر على المواصلة. تماماً مثل الحاجة كريستينا. أظن أنّني كنت في طفولتي مفتوناً بمقدرة هؤلاء على سرد القصص والحكايات عن طفولتهم على شواطئ البحر في يافا أو في حقول القمح والذرة وبيارات البرتقال، ثمّ تختفي البسمة لتسيل الدموع على الخدود وهم يروون هول الكارثة والفاجعة وهم يسيرون خارج بيوتهم بحثاً عن مأمن. في مرات كثيرة أردت أن أنقل كل هذا. أن أعبر بحكاياتهم الزمن، نحو زمن آخر. لكن في المحصلة الحكايات الشخصية هي حكايات عامة. الحكاية الفردية هي حكاية جماعية في آخر المطاف. كما أنّنا حين نوطن الحكايات في عالم الأدب لا تعود حكايات محلية. لأنّ الألم والحلم والتناقض هي شروط إنسانية خالصة ولا يمكن أن تنحصر في جغرافيا الروح فقط.
ماذا عن المشروع الأدبي الجديد؟
أعمل على إنجاز روايتي الجديدة «مشاة لا يعبرون الطريق»، أحاول أن أواصل ما بدأت به. آمل أن أكون وفياً للعالم الذي منحني كل هذه القصص وللعالم الذي خلقته في رواياتي السابقة، العالم الذي تمنيت أن يظل معنا، يعبر معنا الحياة، يظل قارباً يعاند الموج.
يُشار إلى أنّ القاص والروائي عاطف أبو سيف من موالد العام 1973 في مخيّم جباليا لعائلة هُجرت من يافا. تلقى تعليمه الإبتدائي والإعدادي والثانوي في مدارس المخيّم، قبل أن ينتقل إلى جامعة بيرزيت حيث حصل على شهادة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية وآدابها في العام 1996 وعلى دبلوم في الترجمة. حصل على شهادة الماجستير في العلوم السياسية من جامعة “برادفورد” في إنجلترا في العام 1999، وعلى شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية من الجامعة الأوروبية في فلورنسا في إيطاليا في العام 2006.