الآن، بعد كل هذه السنوات على نكبة فلسطين، وعلى أشكال النضال التي مورست ضد الدولة الصهيونية، لا بدّ من أن نعيد بناء التصوّر حول الأشكال الممكنة للنضال في فلسطين. لكن هنا لا بدّ من لمس إشكالية النضال الفلسطيني ذاته، هذا النضال الذي قام على أساس “حرب الشعب”، وتحرير فلسطين عبر الكفاح المسلح. بالتالي يجب فهم إشكالية النضال الفلسطيني الذي بدأ من تحرير فلسطين كاملة ليغرق في سلطة إدارة ذاتية تحت الاحتلال. ما أريد توضيحه هنا يتمثل في الشكل الممكن للنضال الفلسطيني بعيداً عن “الشعارات” والأوهام، والمزايدات، والأحلام.
فحين نطرح تجاوز الحلول التي فُرضت على القضية الفلسطينية، وآخرها اتفاق أوسلو، والتأكيد على ضرورة وحتمية إقامة دولة علمانية ديمقراطية، لا بدّ من فهم ممكنات النضال الفلسطيني. فالشعب الفلسطيني معني باستمرار النضال من أجل استعادة فلسطين، كل فلسطين. ولهذا يجب الإجابة على السؤال حول طبيعة النضال الممكن؟
أدت النبكة واقتلاع جزء مهم من الشعب الفلسطيني، وضم ما تبقى منها إلى الأردن ومصر، وبالتالي تشريد هؤلاء ليعيشوا في مخيمات، إلى تطلع الشعب الفلسطيني لأن تؤدي التغييرات الكبيرة التي حدثت في عدد من الأنظمة العربية، خصوصاً مصر وسورية والعراق والجزائر، إلى تحرير فلسطين، بعد أن كانت مسألة فلسطين وخسارة حرب سنة 1948 في جوهر الانقلابات التي فرضت استلام نظم تطرح مسألة التحرر والاستقلال، ومواجهة “العدو الصهيوني”. فهؤلاء المشردين لا يملكون حينها أي إمكانية للتفكير في أن يقوموا بدور لتحرير فلسطين نتيجة الوضع المزري الذي وجدوا أنفسهم فيه. لهذا كان أملهم في الدول العربية، التي رفع بعضها شعارات كبيرة. وربما كان فشل الوحدة المصرية السورية، والحرب في اليمن، قد هزّ من هذا التعلق، لكن كانت هزيمة حزيران هي التي فرضت التحوّل الكبير نحو النضال الفلسطيني.
بلا شك كانت هناك بعض الأعمال العسكرية الفلسطينية ضد الدولة الصهيونية، ولقد نشأت حركة فتح نهاية خمسينات القرن العشرين، لكن هزيمة حزيران هي التي أوجدت الأساس الحقيقي للتحوّل نحو الكفاح المسلح الفلسطيني لتحرير فلسطين. كانت المخيمات هي التي أمدت النضال الفلسطيني في هذه المرحلة بالمقاتلين، وكانت قاعدة النضال، لكن كل ذلك كان من خارج فلسطين، وكل محاولات بناء قواعد عسكرية، أو تطوير صراع مسلح في الداخل باءت بالفشل. وبالتالي فشلت كل محاولات نقل الصراع إلى داخل فلسطين. خارج فلسطين اصطدم العمل الفلسطيني بالنظم، حيث حدثت حرب أيلول، ثم حرب الأحراش، التي أخرجت المقاومة من الأردن. وكان النظام السوري يسدّ كل إمكانية لممارسة العمل المسلح من الجولان. لتبقى لبنان، البلد الضعيف، وذو الحدود الضيقة مع فلسطين. لهذا استقرت المقاومة الفلسطينية فيها. ودون خوض في كل مشكلات ذلك، التي كانت كبيرة ومضرة، فقد أنهت الحرب الصهيونية سنة 1982 كل وجود للمقاومة هناك. الأمر الذي أنهى كل إمكانية لممارسة العمل المسلح من دول الطوق، التي هي قاعدة انطلاق المقاومة، وحيث تسكن أغلبية فلسطينية جرى تهجيرها من فلسطين.
وإذا كانت المنظمات الفلسطينية التي رفعت شعار الكفاح المسلح لتحرير فلسطين قد أخذت في تغيير مطالبها بعد أن بدأت تتحدث عن دولة مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة، فقد أدى تردي وضع المقاومة في الخارج، وعدم القدرة على بناء عمل مسلح في الداخل إلى انفجار الانتفاضة الفلسطينية الأولى سنة 1987. ورغم أنها انطلقت من شعار “الدولة المستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وعاصمتها القدس” بتأثير دور المنظمات الفلسطينية التي قادتها، فقد مثّلت شكلاً جديداً للصراع ضد الدولة الصهيونية، هو شكل النضال الشعبي. ولقد كانت له قوة كبيرة، وأثّر كثيراً على الدولة الصهيونية. وكان لبدء المفاوضات العربية الصهيونية، بما في ذلك مشاركة وفد فلسطيني ضمن الوفد الأردني، في مدريد سنة 1991 تأثير على مسار الانتفاضة، حيث أخذت التنظيمات الفلسطينية تهمل النشاط الشعبي متطلعة لما يمكن أن ينتج عن تلك المفاوضات، حيث كان الوهم أنها ستأتي بدولة مستقلة. ومن ثم أتى اتفاق أوسلو لكي ينهي الانتفاضة ويأتي بسلطة إدارة ذاتية باتت هي المعنية بوقف كل نشاط شعبي، وبالتعامل مع الشعب الفلسطيني في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة كسلطة دولة حقيقية، رغم أنها كانت تحت سيطرة الاحتلال.
الآن، يعاني العمل المسلح من مأزق، وهذا ما يجب أن نعترف به لكي لا نظل نعيش أوهام “حرب التحرير”، والكفاح المسلح كما جرت ممارستها في السابق. حيث إنه جرى إكمال إغلاق الطوق، فلا الأردن تسمح، ولا سورية، وأيضاً بات حزب الله يمنع كل عمل عسكري فلسطيني وغير فلسطيني بعد أن بات المالك الحصري لـ “المقاومة”. والأدهى أن المخيمات التي كانت البيئة الاجتماعية للثورة المسلحة قد عانت من الحصار والتدمير، واتسعت الهجرة منها إلى الخارج، ومن بقي فهو محاصر كما في لبنان، وسورية. بالتالي لم يعد ممكناً القيام بعمل مسلح من بيئة مانعة، حيث تسهر الأنظمة على سحق كل محاولة لعمل عسكري، ولم يعد هناك منطقة يمكن أن توجد فيها قواعد وتدريب وسلاح. ولهذا فإن هذا الشكل الفاشل من العمل المسلح لم يعد قائماً، ولا إمكانية لأن يعود. أما في الضفة الغربية فالوضع صعب من الأساس، وبات أكثر صعوبة نتيجة السيطرة المفرطة للدولة الصهيونية، حيث أن ضيق المساحة سمح بأن تكون القدرة الهيمنية لقوات الاحتلال عالية، كما كان الأمر بعد النكبة في الأرض المحتلة سنة 1948. ويظهر ذلك واضحاً الآن، حيث أن كل عملية عسكرية يتلوها ملاحقة لمنفذها، ويجري اعتقاله أو قتله. ولقد بات الوضع أميل إلى العمل الفردي منه للعمل المسلح الذي تقوم به مجموعات. وهو عمل بطولي ولا شك، لكنه لا يغيّر من موازين القوى، أو يشكّل قوة ضغط على الدولة الصهيونية. لقد تحكمت الدولة الصهيونية بالأرض عبر الرقابة التكنولوجية، والمساعدات المخابراتية، وبالتالي حصرت العمل المسلح بنشاط فردي محدود، ومكشوف. ووضع غزة ليس أفضل، حيث لم يعد من ممارسة سوى إطلاق الصواريخ كما كان في جنوب لبنان ذات يوم، وهذا عمل ربما له تأثير معنوي (كما العمل العسكري الفردي) لكنه لا يغيّر من معادلة الصراع.
كتب إلياس مرقص حول كل هذه المسائل منذ البدء («المقاومة الفلسطينية والموقف الراهن» دار الحقيقة، بيروت)، وعانى من هجمات شديدة، لكن الواقع أوضح أن “حرب…. التحرير….. الشعبية” (كما كان يكررها) ليست هي الطريق لتحرير فلسطين، ليس لأن الحرب أمر خاطئ بل لأن الإستراتيجية ذاتها وفق ما جرى طرحها هي خاطئة. ويظهر الأمر الآن بكل وضوحه، لهذا فإن مسألة حرب الشعب، وتحرير فلسطين عبر الكفاح المسلح باتا بحاجة إلى إعادة نظر. لا يعني ذلك التخلي عن الكفاح المسلح بل يعني وضع إستراتيجية تسمح بحرب حقيقية. فكما أوضحت لقد سُدّ المحيط الخارجي لفلسطين، وبات الداخل تحت الهيمنة الصهيونية الشاملة. لكن سيبقى هناك من يقاوم بالسلاح، ويبقى إنهاء الدولة الصهيونية معتمداً على تغيير ميزان القوى العسكري بالتحديد، وهذا أمر يتعلق بما سنتناوله حين تناول الصراع كصراع عربي صهيوني. بمعنى ما، سنعود إلى “الحرب التقليدية”، ربما متضمنة أشكالاً من حرب العصابات. حيث ليس من الممكن تحرير فلسطين من نضال مسلح في داخل فلسطين كما كان يحدث في كل حركات التحرر الوطني وهي تواجه الاستعمار.
في المقابل، أصبحت الانتفاضة صعبة، وحتى في غاية الصعوبة، فإذا كانت الانتفاضة الثانية دُعمت من قبل قيادة السلطة بعد فشل المفاوضات، فإن الوضع الآن بات معقداً، بالضبط لأن الاحتلال سحب قواته من الضفة الغربية، وبات الشعب في مواجهة السلطة، وهذه السلطة الفلسطينية باتت معنية بقمع كل حراك فلسطيني ضد الاحتلال. وهذا ما يظهر من كل الحراك الذي حدث خلال السنوات الأخيرة، والذي تركز في القدس ومحيطها نتيجة وجود الاحتلال، بينما كان باهتاً في الضفة الغربية، وكان يُقمع من قبل السلطة. وبالتالي باتت أي انتفاضة في الضفة الغربية ستكون في صدام مع السلطة وليس مع الاحتلال، حيث وفّر الاحتلال على ذاته قمع الحراك الفلسطيني. لهذا ليس من الممكن أن تحدث انتفاضة مثل تلك التي حدثت سنة 1987، وهذا يعني أن هناك مأزق حقيقي في الصراع ضد الدولة الصهيونية، التي وضعت في مواجهة الشعب الفلسطيني سلطة فلسطينية. أما في الأرض المحتلة سنة 1948 فإن الحراك الشعبي يقتصر على دعم الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، وهو بلا هدف واضح يتعلق بفلسطين. وربما يكون هدف الدولة الواحدة العلمانية الديمقراطية مدخلاً لتحديد آليات الصراع بشكل جدي، ويفضي إلى إعادة بناء الصراع ضد الدولة الصهيونية. هنا، ليس من خيار غير هذا، بالضبط لأن تجاوز الإقرار بوجود الدولة الصهيونية (كما يفعل الحزب الشيوعي باعترافة بهذه الدولة)، وربط النضال الفلسطيني بكل الفلسطينيين، وكذلك التأسيس على النضال الطبقي داخل الدولة الصهيونية، يبدأ من الانطلاق من السعي لتحقيق الدولة العلمانية الديمقراطية الواحدة.
من كل ذلك نجد أن النضال الشعبي هو الممكن الآن، وهو نضال وطني ضد احتلال استيطاني، وطبقي ضد رأسمالية مسيطرة، وتفرض سيطرتها بمنطق احتلالي في الضفة الغربية. هل هذا ينفي العمل المسلح؟ بالتأكيد لا، لكنني أشرت إلى صعوبات ذلك، وإشكالياته. ولهذا سيبقى أقرب إلى العمل الفردي كتعبير عن وجود مقاومة، أي أن له دور معنوي أكثر من أن يكون أساس إستراتيجية تؤدي إلى تحرير فلسطين. التأكيد بأن إنهاء الدولة الصهيونية، الذي يعتمد على أشكال صراع متعددة، ليس ممكناً دون فعل عسكري. وكما أشرت فإن ذلك بات مرتبطاً أكثر بالصراع العربي الصهيوني، أي بدور العرب في تأسيس نظم معنية بتحرير فلسطين. وسيكون دور الفلسطينيين الوطني، والصراع الطبقي في بنية الدولة الصهيونية، مكملين لهذا الصراع. الذي سوف يساعد في تصاعد دورهما كلما بات هناك نظم معنية بتغيير ميزان القوى، ومواجهة الدولة الصهيونية.
الفلسطينيون أرهقوا في صراع غير متكافئ، وحوصروا من قبل الدولة الصهيونية والنظم العربية، وهذا أمر يجب أن يكون واضحاً. ولا شك في أن الميل إلى الفلسطنة الذي حكم منظور المقاومة الفلسطينية كان يقود إلى ذلك، لأنه كان يلغي كل إمكانية لتحقيق توازن قوى مع الدولة الصهيونية. فجوهر الصراع هو أنه صراع عربي مع الدولة الصهيونية كأداة إمبريالية تريد الهيمنة على الوطن العربي.