في المقدمة التي كتبها نجيب محفوظ لمراسلات طه حسين، وبعد أن يمتدح خصال العميد العديدة والمتنوعة، يقول إنه فوجئ بهجوم العميد على عباس محمود العقاد، في اللقاء التلفزيوني الذي جمع العميد مع مثقفي مصر، وكان محفوظ أحدهم. فوجئ محفوظ، لأنه اعتقد أن العلاقة بين العميد والعقاد نموذجية، حيث أهدى كل منهما للآخر بعض أعماله؛ ومن غير المناسب أن ينتقد العميد العقاد، بعد وفاته، بهذه الطريقة، مباشرةً على الهواء.
بالطبع، يخطئ أستاذ الرواية العربية: انتقد العميد العقاد بشدة أكثر من مرة، وللسبب نفسه الذي انتقده في اللقاء التلفزيوني، أي غموض العقاد وتعقّد كتابته غير المفهومة. في اللقاء المُشار إليه، حين ذُكرت سلسلة العقاد “العبقريات”، قال العميد ببساطة: “أنا لم أفهمها”. لم يزد شيئاً؛ ولم يجرؤ أحد، بالطبع، على الرد على العميد، أو على مناقشته.
هذا الموقف المتشدد من “العبقريات”، هو امتداد لموقف العميد الصارم من الغموض: الغموض في التعابير، والغموض في الجمل، والغموض في المعنى العام لكتاب أو رواية أو قصيدة. كل أشكال الغموض غير مقبولة عند العميد، ولأسباب أخلاقية وفكرية سنذكرها أدناه.
نستطيع أن نميّز بين أشكال مختلفة من الغموض ينتقدها العميد، من خلال الأمثلة التالية:
أولاً، الغموض الناتج عن الكتابة بأسلوب القدماء، كما في نقده لمصطفى صادق الرافعي (الفصول التسعة الأولى من «حديث الأربعاء»، الجزء الثالث).
ثانياً، الكتابة الفكرية المعقدة غير المفهومة، كما في نقده للعقاد (الفصل السادس عشر من الكتاب ذاته)، أو في نقده للرطانة الماركسية في النقد الأدبي، كما في رده على محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس (مقال يوناني فلا يُقرأ).
ثالثاً، الكلام المرسل الواضح، ولكن الفارغ عملياً، كما في نقده لسلامة موسى (الفصل السادس عشر من «حديث الأربعاء»).
رابعاً، الغموض الأدبي، كما في نقده لعلي محمود طه ومحمود أبي الوفا (الفصل الحادي والعشرين والفصل السابع والعشرين على التوالي، من الكتاب ذاته)، ولبعض مبالغات الزخرفة اللفظية والولع باللغة عند المعري (الفصل السابع من كتاب «مع أبي العلاء في سجنه»).
وهناك أنواع أخرى يشير إليها العميد، سنذكرها لاحقاً.
لماذا ينتقد العميد الغموض؟
يجيبنا طه حسين، حاسماً الأمر، بدقة وجمال:
“أما نحن فنريد أن يفهمنا الناس، كما نريد أن نفهم الناس، ولهذا نتحدث إلى الناس بلغة الناس… وإذن فخليق بالأديب الذي يقدر نفسه ويريد أن يقدره الناس إذا كتب، أن يفكر في هؤلاء الناس، وأن يكون من السهولة ومراعاة الذوق الأدبي بحيث لا يعجز الناس عن فهمه…”
تأتي هذه الكلمات، بعد تشبيه الكتابة الغامضة بمذاهب باطنية وصوفية، تلك المذاهب التي كان العميد، وهو التنويري الأصيل الحقيقي، يعاديها بشدة، كحال معلمه الإصلاحي الأستاذ الإمام محمد عبده، والتي يميل إليها من يُفترض أنهم علمانيون وتنويريون في أيامنا هذه. وجه الشبه بين المتصوفة وجماعة الكتابة الغامضة هو الإيمان بأن هناك نوعين من الكتابة: كتابة بسيطة مباشرة، ولكنها كاذبة مخاتلة؛ وكتابة عميقة حقيقية مليئة بالإشارات والمعاني. النوع الأول من الكتابة موجّه للعامة؛ والنوع الثاني للخاصة، للمختارين، للنخبة.
هذا التشبيه ملائم جدّاً، ويفضح بعمق التهافت الأخلاقي في الكتابة الغامضة؛ ويكشف، أيضاً، عن عمق المشكلة الكامنة في التنويريين والعلمانيين اللذين يعيشون في أيامنا هذا، ويرتكبون الخطيئتين اللتين حذّر منهما العميد: الانحياز للباطنية والصوفية، الغامضة المتعالية، والانحياز إلى الغموض الأدبي والفكري. بكلمات أخرى، تكشف عن تخلي هذا التنوير المزيّف عن مهمة التنوير، وهي الكلام مع الناس، بشكل واضح عقلاني.
مشكلة الغموض ليست فقط أخلاقية، ولكنها فكرية أيضاً: لا يستطيع المرء أن ينتقد الكتابة الغامضة، لأنه لا يستطيع فهمها. هكذا نقف عاجزين أمام سيل الكتابات الغريبة المريبة التي تتدفق علينا، كتابات ديريدا ودولوز وجوديث بتلر وهومي بابا وأمثالهم، وكتابات عربية تتشبّه بالغرب، والعياذ بالله، في أسوأ خصاله.
ما الذي نفعله أمام هذه الكتابات؟
لا شيء جدّي؛ فقط نعلن عدم فهمنا لها، كما أعلن العميد عدم فهمه للعقاد، وللفلسفة الألمانية؛ ونقرأ، كلما ابتلانا الله بنص غامض، ما كتبه العميد، لنطمئن أنفسنا أن المشكلة ليست فينا، بل في محبي الغموض المتفذلكين:
” قرأت مقدمة الكتاب (كتاب العقاد «مطالعات في الأدب والحياة») فسخطت وضجرت وضقت ذرعًا بالكاتب وكتابه، وأكرهت نفسي على المضي في قراءته؛ ذلك لأني لم أفهم من المقدمة شيئًا … نعم، لم أفهم منها شيئًا، ويقيني أنّ المتواضعين أمثالي لن يفهموا من هذه المقدمة شيئًا لا لأنها لا تدل على شيء؛ بل لأنها أدق من أنْ تتناولها العقول المتواضعة… سألت نفسي حين كنت أسمع هذه المقدمة: هل درس المؤلف اللغة الألمانية؟ وهل تعمق في الفلسفة الألمانية حتى طبعته بطابعها ووسمته بسمتها؟ وأحب أنْ يضحك الأستاذ العقاد، وأنْ يضحك القراء جميعًا مني… فأنا أعترف بأن الفلسفة الألمانية تمتاز عندي بالغموض والإبهام، وأنّ لله لم يوفقني في يومٍ من الأيام إلى أنْ أفهمها أو أجد فيها لذة إلا حين كنت أقرؤها في الكتب الفرنسية الملخصة… إذن فأنا أعترف بأن مقدمة الأستاذ العقاد قد ذكرتني بتلك الأيام السود التي قضيتها مع « هيجل » و « كانت »، واتهمت فيها نفسي بالغباوة والجهل، وقلت مذعنًا لقضاء لله ضاحكًا من نفسي ومن الفلسفة ومن الفلاسفة: وفوق كل ذي علم عليم… وأخذت أفكر في الغموض وأسبابه، وانتهيت في ذلك إلى نظريات قد يتيح الله لي من الوقت والفرص ما يمكنني من ذكرها وتفصيلها، ولكني أكتفي الآن بالإشارة إلى أني قلت في نفسي: إنّ من الغموض ما يصدر عن جهلٍ وغفلة… ومن الغموض ما يصدر عن إسراف في العلم والفلسفة وقصور اللغة والبيان، ومثلت لذلك بالعقاد… ومن الغموض ما يصدر عن طول اللسان وقصر العقل… ولأعد إلى العقاد، تركت هذه المقدمة الجبارة الطاغية، ومضيت في الكتاب فإذا علمٌ حقاً، وفهم حقاً، وعقل خَليقٌ أنْ يلتفت الناس إليه، وما أشك في أنهم قد فعلوا…”
ما هي الأمثلة التي تروق العميد في الكتابة الواضحة؟
ثلاثة نماذج مختلفة في المواضيع التي تعالجها، ولكنها متفقة في الوضوح وفي الكلام مع الناس مباشرة، يمتدحها العميد: أبو نواس ورينيه ديكارت ونجيب محفوظ.
قد يكون طه حسين نفسه هو النموذج الأهم في الكتابة الواضحة في تاريخ اللغة العربية. يتميز العميد بصفاء ذهني ووضوح جارح يُحسد عليهما. على سبيل المثال، كتب «تجديد ذكرى أبي العلاء» وهو في سن الخامسة والعشرين، وفيه يستعرض المذاهب الفلسفية اليونانية والإسلامية، وصلتها بفلسفة المعري، بدقة لا تتوفر لأكبر أساتذة الفلسفة. ولدينا بالطبع سلاسة الحجج الفكرية المعروضة في ثنايا «في الشعر الجاهلي» ومقدمة «في الأدب الجاهلي»: أحد أوجه الوضوح والدقة الفكرية شديدة الأهمية في الكتابين، والتي لا يبدو أنها استرعت الاهتمام الكافي، هو إصراره على التمييز بين العلم بالمعنى الصلب وبين النقد الأدبي، الذي، بطبيعته ذاتها، لا يرقى لمصاف العلوم الفيزيائية، ويبقى احتمالياً في أحسن أحواله؛ وفصل العلم عن الدين، بطريقة أقرب إلى كنط وهيوم وجون ستيوارت مل، منها إلى علمانيي القرن التاسع عشر والعشرين الماركسيين والفوضويين والوضعيين، اللذين أخضعوا الدين للعلم. وبالطبع، هناك التحفة الأدبية الأجمل والأبهى في كتابة المذكرات والاعترافات «الأيام»، بمرحها وحزنها وصدقها وهدوئها؛ بنقدها اللاذع، والمحبة الصافية الغائمة التي تثيرها لأولئك اللذين عاشوا تلك الأيام؛ وبعنوانها الساحر البسيط، المفعم بكل المعاني.
يعود الغموض اليوم في الكتابة العربية، بشكل أكبر وأعمق وأكثر إثارة للأسى مما كان أيام العميد. أنواع الغموض اليوم متنوّعة تنوّع الأمراض الاجتماعية التي يعبّر عنها هذا الغموض: هناك غموض ماركسي، وما بعد حداثي، وإسلامي؛ وغموض فني واسع في الشعر؛ وغموض مريب في الرواية والقصص والمقالة والنقد الأدبي: كل أشكال الغموض تشترك في التخلي عن الكلام مع الناس، لتكوّن نخبة فكرية متعالية، متحالفة مع سلطة الأمر الواقع؛ وتدعو إلى الاستسلام، حتى عندما تقول بالثورة.
أقترح أن نتبع وصية العميد، وأن ندع الكتابة الغامضة جانباً، ونلتفت لكتابات نستطيع فهمها، ونقاشها، وتقييمها: كتابات يفهمها الناس، ويناقشها الناس، ويعيش بها الناس: تؤثر بهم، ويؤثرون بها؛ وأن نبقى، كالعميد، متفائلين واثقين بمعنى وقيمة الكتابة، وبقدرتها على التغيير، في عالم يزداد غموضاً مع مرور الأيام.