“على مَن تتلو مزاميرك يا داوود؟” يقول أبي، ثم يطلب مني جواباً على هذا السؤال. فأجيبه: “شباط مضى، وأنا أحبّ مزامير مريم. مواء القطة في الليل يقول: “داوووود، داوووود”، فيردّ قطٌّ أو أكثر: “ماذا يا مريم؟”.
تلمع الشمس على شفرة ناسيت مزدوجة في يد أبي، ذات الشفرة التي تقطع ظهور التماسيح، ويحلق بها ذقنه عادةً في النافذة العميقة، صباحاً أمام مرآة دائرية صغيرة ذات وجهين. في يده الأخرى عشبة برية قطفها وسقاني حليبها الذي رضعته كما رضعتُ صدرَ أمي، وهو الآن يمرّر سبابته على ملاسة ساقها ويقف عند عقدة صغيرة اسمها “ركبة العصفور”، ليقطعها سهمياً بالشفرة سنتمتراً واحداً، وعلى مهل يكرر العملية نفسها مع باقة عشب يسميها مزامير اليوم الواحد. كلما أنهى مزماراً رفع ناظريه إلى السماء، النقية في وضح النهار: الشمس في أفق، والبدر انعكاسها الميت في الأفق المقابل، والنسيم القارس تحتهما يحرّك رؤوس السنابل في مطلع بزوغها، وأنا متوارٍ، ينتابني وسنٌ خفيف تحت إبط أبي، متوسّداً خاصرته تحت عباءته الزرقاء الثقيلة، في جيبي تنتأ حصياتٌ سألعب بها الداما معه، على التلال التي تغشاها غلالة فستقية رقيقة من أنفاس الأرض، ألمح من بين مرفقيه جبالاً تطفو فوقها ظلالُ السحب فتتغير ألوان السفوح من البنفسجي إلى الرمادي الخفيف فالسماوي الفاتح المبقّع بلطخات وردية، جبالاً لم أسِرْ عليها قطّ، وقدّامها، في البعيد، ينفخ أبي في مزامير العشب ليختبرها واحداً واحداً، ثم ينتقي أحنّها صوتاً، الرخيم الأقرب إلى تغريد الوروار، ويوسّده ميزابة نحتها في حصاة ملساء، ويقول لي: “لن أعلّمك شيئاً. سأعزف لك لحن ضوء القمر. ارقصْ. ارقص حتى ينزف جسمك عرقاً”.
عليّ مواصلة الرقص حتى تدوّخني رحابة السماء ورحابة السهول فيغمى عليّ. عليّ مواصلة الرقص حتى يغلّف جسدي اللحنَ ويُخفي جلدي الأغنيةَ التي تغلغلت في لحمي لنصير جميعاً مخلوقاً واحداً، فلا ألحظ متى تبدأ الموسيقى أو متى تنتهي، لأنها لا تتوقف أبداً وإنما أنا الأصمّ.
“الذين صعدوا التلال راقصين من دون موسيقى، فتمايلوا الليل كلّه على ضوء القمر حتى قادهم إلى هاوية، وحين سقطوا واصلوا الرقص فيها. هؤلاء هم أجدادك”، تقول أمي.
“البلبل أحلى من الخذروف”
يقول أبي، ويفتح الباب الأوسط للخزانة، باب المرآة الذي كنت أغلقه على نفسي فنختفي أنا وانعكاسُ وجهي داخل حنان العتمة، في الغرفة اليمنى من غرف الجنوب في بيتنا الأخضر. ينفتح الباب البنيّ فأراني واقفاً أمام المرآة ومعي بلبلي الخشبي وخيطه معقود حول خنصري الأيمن، خيط أبيض معفّر بالتراب، مضفور كجديلة من جدائل جدّي، وفي رأسه عقدةٌ تنتهي بذيل ناعم كرأس فرشاة لا تزال مبلّلة بلعابي، فمنذ قليل لففتُ الخيط حول المسمار المدبّب الذي يدور عليه البلبل ويطير أحياناً فتطيش ضربتي، واصلتُ اللفّ حتى صار المخروط الخشبي كله في قبضة يمناي ثم رميتُه في الهواء كالصنارة في بركةٍ من الغبار، وسمعتُ ما يشبه رفيفَ جناحين قويين يمرّان قرب أذني، وبدأ دورانه داخل دائرة واسعة حفرناها في الأرض، بعد أن غمس بلبلُ أخي منقاره الحديديّ داخل بصقتي، المقذوفة على التراب في جبين الشيطان، لأنها بمثابة الدريئة وإصابتها تحدّد مَن سيبدأ اللعبة، وبصقتُ في راحتي اليمنى متحفّزاً لأحمل عليها بلبلي مثل زوبعةٍ صغيرة ستطيح بالبلابل المصفوفة في قلب الدائرة وتطردها جميعاً. يطلب مني أبي أن أركز منقار بلبلي في الموكيت الفستقي، ويأخذ مني خيطي فيربطه إلى المنقار ويربط إلى طرفه الآخر قطعة طباشير بيضاء، ويشدّ الخيط حتى يتوتّر ويرتجف معصمي قليلاً فأحكِمُ التثبيت، منتبهاً لكيلا أثقب البساط الأخضر الرقيق، المنشورَ لأنّ الربيع قد حلّ وعاد الدفء إلى قدميّ الصغيرتين وازرقّت الظلال التي تملأ الغرف، ويبدأ أبي برسم دائرة كبيرة قطرها بطول خيطي الذي يدور كعقرب الثواني المسرع في ساعة الحائط، دائرة تامة لا نقصان في أبعادها، لولا أن أبي يترك ثغرةً في محيطها قبل لحظة اكتمالها بالتحديد، فيسمّي المنفذ “بوابة الخروج” وأسمّيه “بوابة الدخول”: “هذه الدائرة تكفيك. يجب أن تبقى حلقة الرقص ناقصة، مفتوحة لمن يريد المغادرة أو الانضمام”.
الرجال الأشدّاء يربطون أعضاء ذكورتهم بخيطان من حرير، متينة كالأوتار المنسوجة من أحشاء الذئاب في طنبور عمّي، ثم يلفّون الخيطان ويحكمون شدّها حول خصورهم قبل الرقص، محتاطين من ظهور امرأة مجهولةٍ قد تختار الإمساك بيد أحدهم في حلبة الكوفند، مقررةً أي غريب سيراقصها، فهذا حقّ التعيسة التي تزوّجت بغير مشيئتها، حقّ الحزينة التي لم تعرف الحبّ. المحظوظ التعس مَن يقع عليه الاختيار لتشبك المرأة المجهولة يدها بيده، وتمعن بالشدّ في إيلامه حين يتعالى القرع على دفوف المطاربة ويدور عازفهم بمزمار القصب، ثم يقرفص بغتة أمام الراقص المختار الذي يطبق جفونه ويعضّ لسانه ألماً، ويجلّل الخجل هيجانه المكبوت. تنضح وجوه الراقصين عرقاً تمتزج فيه اللذة بالألم، راسماً خرائط من الظلال والملح على الآباط والظهور، وراسماً على التراب دائرةً داكنة ديست فيها الأعشاب، وتتّقد خدود الراقصات، نضرةً كتفاحٍ ينادي على العضّات، ويتلألأ عرقهنّ على طلاء وجوههنّ، وينحبس في ضيق ملابسهنّ، فيما الرجال يتألّمون، بأعضاء مكمّمة كما تُكمّم الجيادُ بالأعنّة، فكلّ رجل حصانه بين ساقيه، مركوبه الذي يقوده إلى العراك، ولا بد من لجم جماحه في العرس، لا بد من ربطه كما يربط قطاّع الطرق مسدساتِهم إلى خصورهم بأحزمة من جلود الغزلان، لكيلا يتحوّل الجلباب إلى خيمة عمودها الألم، لكيلا يخرق الألم كالوتد قلبَ الراقص، معتصراً أحشاءه، صاعداً إلى وجهه المضرّج بالمتعة. المفضوحُ مَن تلوح وسط جلبابه بقعةٌ مبلّلة بين فخذيه، فتخشى الناظراتُ إليها أن يحبلن بعيونهنّ، والمحظوظ مَن يسيل ماء حياته وحده لينحدر على كاحله وينتهي في التراب، راوياً ظمأ الأرض بدمعةِ حصان.
“الآن. دُسْ حرفَ الدائرة، ولا تدخلها لكيلا تنشلّ قدماك. ضعْهما على الطرف المقابل لبوابة الخروج بالضبط، ثم انظر إلى نفسك في المرآة. لن أغنّي ولن أصفّق ولن أعزف. لا حاجة بك إلى أي موسيقى. اسمع لحنك أنت وابدأ الرقص. أولاً ارفعْ قدمك اليمنى قليلاً، كأنك طائر أتعبه الوقوف على ساق واحدة فأنزلها ليرفع الأخرى، لا تستعجلْ رفع قدمك كأنك تركض على حجرٍ ملتهب في آب. اصبر. ارفعْها ببطء وأنزلها ببطء. وإذا تعثّرت، لا تقل إن الأرض مائلة. اعقد يديك أسفل ظهرك وأحنِ كتفيك قليلاً ثم اثنِ ركبتيك، فأنت قادر على الرقص حتى لو كنت وحدك. ألم ترَ معي الوحيدين يرقصون على التلال؟ ألا تذكر جدّك الهائم في الحقول؟ مثله اعقد يديك خلف ظهرك، لكن لا تطرِقْ طوال الوقت محدّقاً بقدميك. كفى. لن يطير فأر إبهامك من جوربك المثقوب. ارفعْ رأسك وانظر في المرآة. لا ترتبك أمام وجهك”. يقول أبي ويشير بيده إلى الباب المفتوح الذي انتزعوه من قلب الخزانة لينصبوه على التلّ، بين قبور أجدادنا، حيث رأينا وجوهنا تظهر وتختفي وسط أمواتنا. غرس أبي مرآةَ عرسه على قبر جدّي، لتكون الشاهدةَ بعد الدفن توّاً، فلم أرفع عيني عنها بعد أن وقفتُ أمامها محدّثاً جدّي بقلبي، متلعثماً حتى أثناء سكوتي، ورأيتُ المشيّعين الصامتين يظهرون ويختفون مثل الغيوم السابحة في شساعة السماء. أمام هذه المرآة نفسها التي كُتب في أسفلها اسمُ جدّي ورُكزت فوق رأسه، أمامها يعلّمني أبي كيف أرقص، وقدماي الحافيتان تراوحان في مكانيهما الصغيرين على دائرة الطباشير، كأني كوكبٌ في رتابة مداره وعرقي نيازك. أيامنا كهذه الدائرة، مفتوحة عبر منفذ ضيق تتزاحمُ عليه الأقدار وتدفع الأطفال عبره، فيتدحرجون كالدحاحل ويصطفّون وينتظرون الضربات، أو يأتي الموت، اللاعب الأعمى، فيبعثرهم، بعدما كبروا كيفما اتّفق، بضربة واحدة داخل الحياة، أو يسرقهم ويأخذهم معه خلسة إلى خارجها، منتحرين وقتلى، أمواتاً يعودون على الدوام ويتلصّصون علينا حين نستأنف اللعبة.