لا يرى سوى أشكالاً في الأبيضِ تتحركُ، يعلمُ أن وعيَه يضلُ الطريقَ إليه، يستسلم بعدَها للنومِ الذي لم يعُدْ مزعجاً، لأن الأحلامَ التي أزعجتْه لمدّةٍ طويلةٍ، لم تعُد ترافقُه. هكذا يُمضي أيامَه، ينتظرُ أن تأتَي أميمة لتعطيه “حبة النوم”، أحياناً تطمئنُ عليه، تُمسّدُ شعرَه الأسودَ المتناثرَ فوقَ وجهِه، تداعبُ وبرَ ذقنِه بكفيها وتبتسمُ له، أما هو فينتظرُ خفةَ جسدِه و من ثم غرقَه في الفرشةِ الاسفنجية.
تتحسنُ الإنارةُ في المستشفى مع قدومِ الربيع، لكن الفرحَ والتجددَ يبقيان على سوءِ حالتهما. ها هو الربيعُ الثالثُ لأيوبَ في المستشفى، ولا رغبةَ لهُ بالفرار،ِ بالأحرى لم يعُدْ يؤمنُ به. آخرَ مرةٍ هربَ من هذا المكانِ وجَدَ نفسَهُ في مكانٍ مليءٍ بأمراضَ أخطرَ ولكن لا أحدَ يعالجهُا. ومن بعدها أصبحَ يتركُ أفرادَ الطاقمِ الطبي يقتنعون بأنهم يعالجونَه. لكن، وبما أنّ الربيعَ قد حلّ، والحديقةَ مفتوحةٌ للتنزهِ، إذًا سيخرُجُ رغم اقتناعِه بأن لا اختلافَ بين الهواءِ المنعشِ أو هواءٍ لا صفةَ له، يتنفسُ هو في كلِ الحالات. في إنتظارِ أميمةَ، يدخلُ الى الحمامِ ويرى انعكاسَ شكلِه قليلاً على البورسيلان الأبيض. لا يزالُ نحيلاً، غيرَ أنَّ ظلالَ شعرِه تفزعُه قليلاً، فهو قضى سنةً في إعادةِ إطالِته بعدما كانوا يجزّونَ شعيراتِه كلما سنحَت الفرصةُ لهم. شعرُه يعطي ظلالاً بشعة، كأن لديه قروناً استشعاريةً، يفتحُ حنفيةَ المياهِ وينظرُ الى يديه تحمران من برودةِ المياه، يضعُ قليلا من المياهِ على شعرِه، ينظرُ الى البورسيلان، لا قروناً، يفتحُ الباب ويخرجُ من الحمامِ ويحيي أميمةَ بأدبٍ.
“بدي روح على الجنينة، حلو الطقس.“
يحسُ برجفانِ صوتِه، لم يتكلمْ منذُ مدّة، منذُ المعاينةِ الأخيرة. لم يعتَدْ أصلاً أن يطلبَ شيئاً، وكلُ ما يقولُ لا يتخطى “إيه دكتورة،ـ لا دكتورة، ما بدي”. يتذكرُ قبلَ سنةِ ونصفِ السنة حينَ كانَ يصرخُ على الدكتورةِ وأميمة وأي مخلوقٍ يراه. كأنَ صوتَه تغيّرَ، يفكرُ بالسببِ، إذا كان الصدى أو البردُ أو قلةُ الاستعمال. تطلبُ منه أميمةُ أن يلبسَ معطفاً، الطقسُ لا يزالُ بارداً. تفتحُ بابَ الغرفةِ وتطلقُه نحو الكوريدور الواسعِ يمشي وهو يعلمُ أن لا علاقةَ للربيعِ في رغبتِه بالذهابِ إلى الحديقةِ، ولا علاقةَ للطبيعةِ الجميلة، أو الأزهار. يريدُ أن يرى رجلاً، أيَ رجلٍ في المبدأ، يحبذُه جميلاً وجذاباً، ولكن ظروفَه لا تسمحُ له في أن يكونَ ذا ذوقٍ رفيع. يمشي والممرضاتُ اللواتي يعبرنَ يبتسمنَ له، يقرأُ الإرشاداتِ الملصقةِ على الحيطان، ويهبطُ الدرجَ ويرى صورَ الربِ يسوع تملأُ المكان ويحدّقُ في جسدِه المصلوب.
“شفت يسوع شو تعذب؟”
“ايه .. حرام”
ربما حدّقَ كثيراً، ولا يدري إن كانت أميمةُ تدري بما كان يفكرُ، يستمرُ في الهبوطِ على الدرج ببطءٍ خلفَها، فتناديه وقد سبقتْه الى بابِ الحديقة، فيسرِع ُخطواتِه متحاشياً النظرً في عينيها ومشتتاً الربَ يسوع من ذهنِه. تغلقُ البابَ ويراها تعاِودُ صعودَ الدرج. الهواءُ يجمّدُ مثلثاً من الدماءِ على وجنتيه، ودائرةً على أنفِه، ولكنه لا يبالي. يلتفتُ يميناً ويساراً، تسعةُ رجالٍ في الحديقةِ ويُضافُ إليهم الممرضونَ الذكور. يُخرِجُ علبة مارلبورو أبيضَ طويل ويتوجهُ ليجلسَ قربَ شربل الممرضِ ويشعِلُ منه السيجارةَ.
يدخِنُ أيوب سيجارتَه الثانيةَ وينظرُ إلى الدكتورةِ تقلبُ الأوراقَ، يداها جميلتان، غيرَ أنَّ طلاءَ الأظافرِ الاحمرِ الذي تضعه يجعلهما تبدوانِ على وشكِ الانفجارِ، تنظرُ إليه وتبتسمُ :
“شو كيف حاسس، مبسوط؟
“ايه الحمدلله، اشتقتُ للحياة برا، الشوارع والعالم“
يغصُ بالجملةِ لكنها تبتسمُ له، يسمُعها تكلمه عن الحياةِ وجمالِها،وعن ثقتِها به وأمه . ينظرُ إليها وهو يريدُ أن يرى شيئاً آخرَ كحياتهِا، كيفَ يبدو زوجُها،لا فكرةَ لديه عنها . الدكتورةُ حنان عزيزةٌ‘على قلبه وأكثرهم تعاطفاً معه، فقد أكملَت هي علاجَه في السنةِ الأخيرة، استطاعَ أن يخبرها أنه لا يستطيعُ أن يحبَ النساءَ وأنهُ لا يريدُ أن يتغيّرَ. ينظرُ إليها ترتبُ أوراقَها وتبحثُ عن شيء ما، ويتمنى لو تعيدُ التفكيرَ بقرارِها. لا يريدُ أن يذهبَ. يطرقُ البابَ، تبدو أمه أكثرَ راحة، تعابيرُ وجهها عاديةٌ،لا يبدو أي حزنٍ أو غضب كما العادة، تبدو هادئةً وهي تقبّل الدكتورةَ وتشكرُها .
“شو يا أمي بدك تروح على البيت، بتسليني يا ابني، وبتساعدني بهل محل“
تقتربُ منه، لم يستطع الوقوفَ، تقبلُ وجنتيه وتضمُ رأسه إلى بطنها وتمسدُ شعرَه.
“الحمد لله صرت منيح والله هداك“. كأنها تكلمهُ وكأنها خرجَت للتو من أحدِ سيناريوات الأخوين رحباني. تطلبُ منها الدكتورة حنان الجلوسَ، توقّعُ الأوراقَ ،وتطلبُ منه الدكتورةُ حنان أن يذهبَ لجلبِ حقائبه وتوديع أحدٍ إن رغبَ بذلك، يخرُجُ وهو يعلم إنها ستحدث أمه عن مراقبتِه ومراقبة الدواء واستعمالِه الضروري .
يدخل الغرفة،َ يأتي بحقيبتِه المحضرّة سلفاّ، تدخل أميمة، يغمرُها “راح نشتقلك يا حلو، اوعا شوفك هون “. يحملُ الحقيبة. تدخلُ أمُه ترافقُها الدكتورةُ فيغمرُها ويبكي، يريد أن يبقي قربهَا، تفرُك رقبتَه، وتقولُ له إنها ستراه في عيادتِها كل شهر.
خرجَ من المشفى يجرجرُ حقيبتَه معه، استأجرت أمه تاكسياً كحليَ اللون، مشَت تضمُ محفظتهَا الصغيرة إلى بطنِها الكبير.
”يلا أبوعلي“
“الحمدلله على السلامة“
”الله يسلمك “، يحسُ وكأنهُ سيختنق.
يضعُ أغراضَه في الصندوق، تجلس أمُه بجانبِ السائقِ وهو في المقعدِ الخلفي، يفتحُ النافذة على مصراعيها. يدورُ المحركُ ومعه ثلاثُ سنواتٍ من عزلةِ أيوب، تمشي السيارةُ نحو بيروت وتركض أفكارُه خلفَها.
طريقُ العودة إلى المنزل هي طريقُ العودةِ الثقيلةِ إلى المنزلِ نفسُها، لم يتغيرْ إحساسُه مرة واحدةً خلالَ هذه السنواتِ. نفسُ الثقلِ وذاتُ الإحساسِ بالخطأ، وكأنه يعلمُ سلفاً أنه سيصلُ إلى المنزلِ الخطأ، لكنه لن يعتذرَ من ساكينه ويعودَ أدراجَه، بل سيدخلُ ويناقشُ مع الساكنين فيه، لإعتباراتٍ أساسها خطأ، كونهم أنجبوه خطأ، وقاموا، أو على الأقل حاولوا، بتربيتِه وتعليمه أيضاً، على سبيل الخطأ.
سن الفيل تبدو مختلفةً، حميمة و أكثر امتلاءً، الطريقُ إلى النبعةِ يطبِقُ على صدرِه فتتمهلُ السيارةُ، وتدخلُ الزاروبَ الصغيرَ، يضغَطُ بجسدِه على المقعدِ، يلصِق نفسه جيدا على الجلدِ. النافذة تصبحُ إطارا، إذ تقاطِعُ نظراتُه سكان الحي وهم يعيدون تكرارَ تفاصيلِهم اليومية .
الحقيبة على الأرضِ، وهواءُ النبعة المديني، الضجةُ والعيون المنتشرة خلف النوافذِ، ثقل جسدِه ومغادرةُ السيارة مخلّفةً وراءَها هواءَها الساخنَ على جسدِه وهو بمشي نحو البيتِ الذي يساوي الأرضَ تماما.
بيتهُ يساوي ا–ل–أ–ر–ض. تماماً.
لم يعد يذكرُ اليومَ الأولَ لوصولِه وعودة تلك الأحاسيسِ إليه، وكأن السجادَ العتيقَ البشعَ احتفظَ بها له، تلك الملاحفُ السميكةُ للشتاء وأجساد إخوتِه وتنفسُهم يمتزجُ مع أحلامِهم في غرفةِ النوم.
لم يعد قبلاً إلى البيت في هذا الفراغ، الجميعُ قد غادروه، وفاء وعايدة و سهام وجهاد وعلي وحسن، غادروه إلى مكانٍ آخر، إلى حياتِهم التي اختارتْهم و سحبتهم نحوها، كبروا كلهم دفعةً واحدة، أنجبوا عائلاتٍ تشبهُهم، تفيضُ فقرأ .
أمُه لا تعتبرُ أن الوقتَ مناسبُ كي يبدأ العملَ فوراً، تخبرُه وتجلسُ على الكنبةِ، تسوي بيدِها مسنَد المقعدِ مبددةً بيدِها غباراً وهمياً، تنظرُ إلى الأرضِ، صوت العالم الخارجي يشوش الصمتَ القاتلِ بينهما، يجلسُ على الكرسي مقابلَها. يحسُ بجسدِه يتساوى كما في وضعية جلوسِ جهاد حين يتحدثُ مع أمه حول أمور العائلةِ، يتذكر كيفَ كان يحدقُ إليه حين قرر “عرسانا” لأخواته و دبَّرَ مهناً جديدة لحسن وعلي و قراره الزواجَ ووجه أمِه المحدقِ بالأرضِ وهو يتكلم.
تنظرُ إليه وتقلعُ الإيشاربَ السميك عن رأسِها. ينظرُ إليها ويحدّق بوجهِها التعب، وشعرِها المتعرقِ والملتصقِ بجلدة رأسِها موضحاً هرمَها المؤلم. يجلسُ ويسمع صوتَها التعِبِ يسألُه إن كان جائعاً فينفي الأمرَ بحماسة الضيوف .
صمت وروائح الطعامِ يسودان المنزل، سريران في غرفةِ النوم وُضعا حديثاً، ربما أحدُهما احتوى جسد أبيه وهو ينتظرُ أنفاسَه الأخيرة. الحاج أبو جهاد ينتقلُ إلى رحمته تعالى، وأيوب في رحمة أخرى بين جلسات العلاج والأحاديث والأطباءِ المزعجين.
زُفّ إليه الخبر شتاءً صباح أحد، حزِن وقتَها وفكرَ به مطولاً، تذكرَه حين كانَ يجلسُ عندَ بابِ الدكانِ. صراخُه على نساء الحي وأسئلتهُن الكثيرة. يتخيلُ استسلامَ الحاجَ للموتِ، يتخيلُ لو أنهُ كان شبيها بأخواتِه وأنه يجلسُ قربَه مرتديا السراويلَ السميكة الفضفاضةَ، ذا شنبٍ و أطفالُه يلعبون عند السرير وهو يطمئن على حالِ أبيه. لكن شيئا ما في تلك الفكرة يبدو له غيرَ مقنع، لا يدري إن كان الشنبُ أم اطمئنانُه على أبيه.
يُمضي أيامَه في مشاهدةِ التلفاز، أياماً يُفاجأ بوجوه أطفالِ أخواتِه الذين ما يزالُ يحاولُ جاهدا أن يفهمَ كل منهم لأي شقيقٍ أو شقيقةٍ يعود، وذلك في زياراتهِم العابرةِ والقصيرة التي يتجاهل. المائة، الخمسون، والعشرون ألفاً التي تُدَسُ في يد الحجة منعاً للإحراجِ، من قبل إخوته، كلماتُهم المقتضبةُ المتقنةُ للمجاملات والتي لا تثيرُ مكاناً ما لأيِ عاطفة أن تتسربَ، أجوبتُه المقتضبةُ المُتقنة لصورة المجنون سابقاً و التي تمنعُ أي أسئلةٍ وتفاصيل حول ماضٍ، وأحاديثٌ مزّقت تلقائياً صله الرحم بينهم.
ينظرُ أيوب الى النبعة ِ كل مساء من نافذتِه المتساويةِ مع الأرض. يتأملُ الناسَ يفعلونَ الحياة. كل مساءٍ ينتظرُ دواءَه ليرحلُ الى ذاتِ البياضِ الثابتِ غيرِ المتحول. ولا يزالُ يستيقظُ على وقْعِ أعمالِ أمهِ المنزليةِ والتي لا تنفكُ تعاتبُه.
“شفت مش الحياة أحسن من الموت”.