في هذا الحوار مع الكاتب والباحث الفلسطيني السوري تيسير خلف، حديث عن روايته الأخيرة «عصافير داروين»، وكتابه «من دمشق إلى شيكاغو – رحلة أبي خليل القباني إلى أمريكا 1893»، الصادر حديثاً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، في بيروت، ودار السويدي للنشر، في أبو ظبي. وكذلك عن آخر مؤلفاته التوثيقية «نشأة المسرح في بلاد الشام – من هشاشة القانون إلى فتاوى التحريم (1847 – 1917)».
كما نتوقف مع ضيفنا، عند رأيه بالجوائز الأدبية، بعد فوزه هذا العام بجائزة “ابن بطوطة لتحقيق المخطوطات” في دورة (2017-2018)، وكان أن فاز من قبل بجائزة “ابن بطوطة للأدب الجغرافي” عن كتابه «رحلات البطريرك ديونيسيوس التلمحري في عهد الخليفتين المأمون والمعتصم» في دورتها التاسعة (2013-2014)، والذي سبق له أن وصلت روايته «مذبحة الفلاسفة» للقائمة الطويلة للبوكر 2017. هنا نص الحوار مع صاحب «دفاتر الكتف المائلة»، و«عجوز البحيرة» و«موفيولا»، و«مذبحة الفلاسفة»، و«عصافير داروين»، للاقتراب من عوالمه الأدبية أكثر..
حدثنا عن آخر رواياتك «عصافير داروين»، الصادرة حديثاً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، في بيروت، وما الذي أعطاك فكرة كتابتها؟
ولدت فكرة رواية «عصافير داروين» بعد أن قرأت مقالاً في إحدى المجلات الأميركية القديمة عن فريق للخيول العربية سافر إلى أميركا عام 1893 وأنه تعرض لعملية احتيال كبرى.. قادني الفضول للبحث أكثر في الموضوع فكانت النتيجة مذهلة بالنسبة لي، ثمة وثائق كثيرة، وقصص وتفاصيل تستحق البحث، وهنا بدأ عملي على الوثائق العثمانية المتعلقة بالموضوع، فاكتملت الصورة عندي، ولكنها لم تكن كافية لإنجاز عمل روائي، فقررت التعمق بالبحث أكثر في معرض شيكاغو وظروفه، والمشاركات العربية فيه، وطبيعتها، وهكذا تجمعت عندي معلومات ووثائق ونصوص وصور هائلة، ولكن ثمة مشكلة تتعلق بالأشخاص الذين قاموا بهذا العمل، وهنا بدأت رحلة أخرى بالبحث عن المذكرات والسير والتفاصيل الشخصية.
كم استغرقتك كتابة الرواية؟ وما هي المصاعب والتحديات التي واجهتك أثناء إنجاز العمل؟
العمل الأساسي ليس كتابة الرواية، هذا تحصيل حاصل، فقد استغرقت في كتابتها أربعة شهور، ولكن القضية الأساسية هي عملية البحث، وهي عملية شاقة لأنها الموضوع يتوزع على عدة لغات، الإنكليزية والعربية والتركية العثمانية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا بد لي من الحصول على كتابات خاصة تتعلق بالمشاركين في هذه التجربة، إذ لا يمكن تخيل قضايا أساسية تتعلق بالتجربة، وكان هذا البحث هو أصعب ما واجهت، ولكني في النهاية عثرت على ما أريد.
يصنف نقاد رواياتك بأنها تنتمي إلى صنف ”الروايات التاريخية“، في حين يرى فيه نقاد آخرون أنه “لم تعد هناك رواية تاريخية بالمفهوم المتعارف عليه في الأدبيات النقدية العربية”. ما هو تعليقك؟
بعيداً عن التصنيفات النقدية، أنا أكتب بطريقة طورتها بنفسي، استفدت فيها من تجربتي في البحث والـتأريخ، قد ينطبق على ما أكتب التصنيف المذكور ”الرواية التاريخية“ في بعض الجوانب ولكنه لا ينطبق على مجمل العمل.
ما هي حدود الواقعي والمتخيل في «عصافير داروين»؟ وهل تعتقد بأن الأدب قادر على تعويض التاريخ، بمعنى آخر هل يستطيع الخيال ملء فراغ في الأرشيف؟
جميع الشخصيات الوارد ذكرها في الرواية حقيقية، كذلك الأحداث، المتخيل في هذا العمل كبير ويمكن استشفافه من خلال القراءة، هنالك جوانب تتعلق بالشخصيات وقراءة الأحداث، لا يمكن أن تكون إلا متخيلة، ولكنه خيال يخضع لمعايير صارمة، لا تتجاوز الحقائق المعروفة عن أي شخصية، هو خيال محكوم بمنطق الشخصيات والأحداث والزمن الذي وقعت فيه، ولذلك هو خيال مرهق لأنه يحتاج إلى محاكمة منطقية تخضع لمعايير البحث التاريخي الصارم الذي ألتزم فيه في الجانب البحثي.
هل أفادتك الكتابة الصحافية في الكتابة الروائية، أم أنّ لكل جنس عالمه الخاص؟
استفدت من كل شيء يتعلق بتجاربي الكتابية السابقة، بما في ذلك التجربة الصحافية.
أتوقف معك الآن عند كتابك الصادر حديثاً «من دمشق إلى شيكاغو – رحلة أبي خليل القباني إلى أمريكا 1893»، سؤالي: ما الذي دفعك لتتبع خطى القباني وفرقته في رحلته لشيكاغو أواخر القرن التاسع عشر؟ ومن ثم هل لكتابة الرحلة -كما نرى- أهمية خاصة في نسيجك الأدبي الإبداعي؟
رحلة القباني إلى شيكاغو هي نتاج من نتاجات البحث الذي حدثتك عنها أثناء مطالعاتي المتعلقة بالرواية.. أثناء بحثي في معرض شيكاغو 1893 عثرت على معلومات كثيرة حول القباني وفرقته وعروضه في المصادر الأميركية، فأفردت لها حيزا خاصاً، ثم بدأ هذا الملف يكبر، وحين عثرت على وثائق عثمانية تتعلق بالموضوع، قررت أن أترك الرواية مؤقتاً وأتفرغ لهذه الرحلة العجيبة الغريبة التي لم تتكرر بعد ذلك، وبدأت بدراستها، وكم كانت النتائج مفرحة، فقد تم حسم موضوع هذه الرحلة التي شغلت مؤرخي الحركة المسرحية العربية لعقود طويلة، إذ لم يكن هنالك أي تأكيد لحصولها أو لمشاركة أبي خليل القباني فيها، ولكنني استطعت من خلال هذا البحث أن أثبت بالدليل الحاسم مشاركة القباني شخصياً بل عثرت على أسماء وأعمار جميع أعضاء الفرقة وأماكن تولدهم.. وكل ما يتعلق بالموضوع، من السفينة التي ركبوا فيها إلى المقالات النقدية الأميركية التي تحدثت عن هذه التجربة الفريدة في سياق الحركة الفنية العربية. يضاف هذا إلى اهتمامي النوعي بأدب الرحلة، فهذا الاهتمام دائم ومتواصل ولن أتخلى عنه.
أحيل إليك سؤال الزميل جورج كدر الذي جاء في مقالة له، “هل يمكن أن تتحول هذه الرحلة إلى فيلم سينمائي”؟
أعتقد أنها قصة تستحق فيلما سينمائياً.
ماذا عن كتابك «نشأة المسرح في بلاد الشام – من هشاشة القانون إلى فتاوى التحريم (1847 – 1917)»، الذي صدر قبل شهر عن “الهيئة العربية للمسرح”؟
كتاب «نشأة المسرح في بلاد الشام» هو ثمرة من ثمرات البحث التفصيلي الذي قمت بهه لخدمة الرواية، فبعد أن أنجزت كتاب الرحلة الى شيكاغو، تبين لي أن بطل الرواية واسمه راجي صيقلي هو رائد المسرح في فلسطين، الذي لا يعرفه أحد بهذه الريادة، فقد أسس أول فرقة هواة للمسرح في عكا في فلسطين عام 1881 فكان لا بد أن أدرس هذه البدايات ضمن شروطها الموضوعية المتعلقة بولاية سورية العثمانية، فكان هذا الكتاب، حول نشأة المسرح في بلاد الشام، لو أنني عثرت على كتاب جاهز لوفر علي الوقت، ولكنني لم أعثر للأسف على كتاب يرضي نهمي البحثي عن تلك المرحلة، فتصديت للموضوع بنفسي، خصوصاً أن المسرح يحتل حيزاً مهماً من رواية «عصافير داروين».
صدر لك أكثر من 40 كتاباً في البحث والتحقيق التاريخي والرحلات والتوثيق والقصة الرواية، كما أصدرت موسوعة “رحلات العرب والمسلمين إلى فلسطين” في ثمانية مجلّدات، ولك أيضاً كتب بحثيّة حول الجولان السوري المحتل، وفي 2018 صدر لك ثلاثة كتب؟ هل يمكننا القول إنك كاتب غزير الإنتاج؟
لا أبالغ إن قلت لك بأنني أشعر بأنني مقصر، ففي ذهني العديد من الأفكار التي أريد أن أترجمها إلى بحوث وروايات، وأظن أن الوقت لا يسعفني، قد أبدو للبعض بأنني غزير الانتاج، ولكنني أرى نفسي مقصراً وكسولاً فالمواضيع والعناوين التي وضعتها للعمل عليها كثيرة بالنسبة لما أنجزته، هناك الكثير الذي ينتظرني.. إن كان ثمة متسع للحياة.
كيف تنظر إلى ترابط العلاقة بين الأدب والفنون الأخرى كالموسيقى والسينما والفن التشكيلي إلخ، وأثر ذلك في تكوينك؟
أظن أن الرواية هي المصهر الكبير الذي انصهرت فيه الفنون جميعاً، في مراهقتي كنت مهجوساً بالموسيقا عزفاً وسماعاً، ولكنني، وبعد أن حصلت على الثانوية العامة وبدأت أفكر في الدراسة الجامعية، قررت أن لا أكون موسيقياً، فسجلت في قسم الصحافة، وانتسبت للمعهد العالي للفنون المسرحية قسم النقد، ولكن لم يكن بإمكاني أن أستمر في القسمين معاً إذ كانا يفرضان دواماً كاملاً على الطلاب، فكان لابد من التضحية بأحدهما، فكانت التضحية بالنقد المسرحي، ولكن مع ولع بالمسرح وتتبع أدبياته وعروضه، ثم كانت السينما.. كل ذلك يترك أثراً في المرء.
برأيك ألا تزال الفنون السردية محتفظة بقدرتها على الإدهاش، والتأثير، إلى جانب قدرتها على استيعاب الفنون الأخرى؟
وهل هنالك شك في ذلك، الفنون المشهدية تحتاج إلى السرد الأدبي، والكثير من الأعمال السينمائية تعتمد على الرواية.
يشتكي الكتّاب عموماً من سلبية النّقد تجاههم، بمعنى أنه لا يساهم في تطوير تجربة الأدب. سؤالي: كيف تعامل النقد معك وإلى أي مدى نجح بالدخول إلى كتاباتك وقدمها للقارئ كما تشتهي أنت؟
حظيت رواياتي باهتمام نقدي لا بأس به، وأنا أشكر جميع الذين كتبوا عنها.
ماذا عنى لك فوز كتابك «من دمشق إلى شيكاغو: رحلة أبي خليل القباني إلى أميركا 1893»، بجائزة “ابن بطوطة لتحقيق المخطوطات”؟
شيء يدعو للتفاؤل والشعور بجدوى ما يكتب.
برأيك هل تعطى الجوائز الأدبية في عالمنا العربي على أسس ومقاييس حيادية سليمة؟ وماذا تضيف لمسار الكاتب الإبداعي؟ وما هو تأثيرها في حركية الأدب العربي؟
الجوائز الأدبية تخضع لتقييمات اللجان التي تتشكل لمنح هذه الجوائز، ولذلك تختلف التقييمات باختلاف أعضاء اللجان وتوافقاتهم وأهوائهم وحساباتهم، ولا يمكن الحديث عن معايير حيادية، الحياد غير موجود في عالم الإنسان.. ولكن، ومع ذلك فالجوائز تشجع الكتاب والباحثين، وتنشط الحياة الثقافية، وتخلق المنافسة الضرورية لتجويد العمل.
سؤالي الأخير، هل لديك في الأفق القريب كتاب جديد؟
ليس في الأفق بل في المطبعة، سيصدر خلال شهور قليلة، وهو كتاب عن مرحلة أبي خليل القباني الدمشقية، فهذه المرحلة تكاد أن تكون مجهولة ولا وثائق حولها، ويسودها اضطراب كبير، وتضارب في المعلومات الشفهية المتداولة حولها.. كتابي الجديد سيقدم رواية مختلفة لما نعرفه عن القباني في مرحلته الدمشقية، وسيقدم أيضاً رؤية جديدة لدمشق القرن التاسع عشر بناء على كم كبير من الوثائق والصحف والأدبيات المتعلقة بتلك المرحلة.
يُشار إلى أن تيسير خلف، باحث أركيولوجي وروائي فلسطيني سوري، ولد في مدينة القنيطرة بالجولان السوري المحتل عام 1967، صدرت له خمس روايات، ثلاث منها تتناول القضية الفلسطينية، «دفاتر الكتف المائلة» 1996، و«عجوز البحيرة» 2004، و«موفيولا» 2013، و«مذبحة الفلاسفة» 2016، وهي رواية تاريخيّة تستعيد تدمر قبل تدميرها عام 275 م، وقد وصلت للقائمة الطويلة للبوكر 2017. أما الخامسة، «عصافير داروين» 2018، وهي تقع في 200 صفحة من القطع الوسط، ولوحة غلافها للفنانة الأميركية جوانا باروم.
ولتيسير خلف مجموعة قصصية بعنوان «قطط أخرى» صدرت عام 1993 في دمشق. كما صدر له أكثر من 40 كتاباً في البحث والتحقيق التاريخي والرحلات والتوثيق، كما صدرت له موسوعة «رحلات العرب والمسلمين إلى فلسطين» في ثمانية مجلدات 2009، وله كتب بحثية حول الجولان، منها كتابه المرجعي «تاريخ الجولان المفصّل»، 540 صفحة، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، 2017.
وآخر مؤلفاته، كتاب «من دمشق إلى شيكاغو: رحلة أبي خليل القباني إلى أميركا 1893»، الذي حاز جائزة “ابن بطوطة لتحقيق المخطوطات” في دورة 2017-2018، في إطار مشروع “ارتياد الآفاق”.
“سلسلة حسن الرماح” .. فصل من رواية «عصافير داروين» لتيسير خلف