قبل أشهر قليلة، في شباط من العام الحالي، أحيل داود عبد السيد إلى التحقيق ووجّهت إليه تهمة إضعاف الشعور القومي. دُهش المخرج ومحبوه من التهمة، وهذا أمر يدعو للدهشة: أعني ان يُصابوا بالدهشة من التهمة. المدهش، حقيقة، أن يكون داوود عبد السيد طليقاً في مصر اليوم، فعداؤه للسلطة عميق أصيل حانق بارع جارف صادق، يجعله يرسم البلد التي تحكمها السلطة كمتاهة كبيرة: لا مخرج منها، ولا مدخل إليها.
من هنا يأتي تشبيه داوود عبد السيد بكافكا: وهو تشبيه محكم، إن أخذناه بالمعنى الأعمق لفهم كافكا والمخرج المصري البخيل في إنتاجه السينمائي، 9 أفلام روائية فقط. يخطئ الكثير من الناس في فهم كافكا، عندما يحيطونه بهالة غريبة تجعله بطل الخيال الجامح والفانتازيا والسحر. كل هذا لا يقترب من جوهر عمل كافكا: هذا الجوهر هو الواقعية غير الواقعية، أي عرض الحياة اليومية بتفاصيلها العادية، تلك التي تقودك من السهل العادي العياني إلى ما وراء الطبيعة، بيسر وواقعية وطبيعية. في “المحاكمة” و”الانمساخ” و”القصر”، كما في “أرض الخوف” و”أرض الأحلام” و”قدرات غير عادية” و”مواطن ومخبر وحرامي” و”البحث عن سيد مرزوق”، يشعر المرء باستمرار أن ما يحصل طبيعي، طبيعي جداً، إلى درجة أنك تظن أنه قد يصيبك في أية لحظة، أو أنك عشت هذا الواقع غير الواقعي يوماً ما، أو أنك تعيشه فعلاً: وهذا سر كافكا الهائل الذي يتقنه المخرج المصري ببراعة: كشف الرابط السري الواضح بين الطبيعي وما وراء الطبيعي. داوود عبد السيد أستاذ في التحديق مطوّلاً في هذا الرابط وفي الحيرة التي يتركها في الروح. لا أريد القول إن كل أعماله كافكاوية بهذا المعنى: “الصعاليك” و”سارق الفرح” ليست من هذا النموذج، والأعمال الأخرى تتفاوت في تمثيلها له، ولكنها جميعاً تقترب منه، وتدفع بالحيرة إلى أقصاها.
الرعب الذي تثيره هذه الحيرة غير محدود، وغير مفهوم، وغير حقيقي: وهذه النقطة الأخيرة تثير الرعب أكثر من غيرها، لأنها تجعل المرء تائهاً تماماً في عالم غير مفهوم، كما في “أرض الخوف”، أو تفتح باباً واسعاً للكوميديا الحزينة، كما في “أرض الأحلام” و”مواطن ومخبر وحرامي”. في الحالتين، المخرج البخيل يتحكّم بعمله بهدوء تام ويوجهه بدقة محسوبة في كل خطوة، تاركاً الخيال مضبوطاً بالعقل، وبالحيرة. وهذا التحكم مثير للحيرة وللإعجاب: في أفلام تتجاوز الواقعية، يبدو وجود المخرج في كل همسة مميزاً للنموذج المذكور: لا يتفق المخرج البخيل، برأيي، مع أصحاب الخيال الجامح الوقح، والممل جداً: الدادئيين السورياليين والعبثيين، مثل بيكيت وديفيد لينش وأندريه بروتون وأمثالهم، بل يبقى في صف كافكا، حيث الخيال مضبوط بالواقع، على الرغم من جموحه.
يضاف إلى الحيرة، حساسية عالية، حساسية لتفاصيل الواقع اليومي البسيط المباشر: في “الكيت الكات”، الفيلم المفضّل لكل الناس، مرآة الواقعية تتجلى في كامل بهائها، لتصل إلى مستوى أعمال الواقعية الإيطالية أو صلاح أبو سيف أو محمد خان: المخرج الكافكاوي ليس أقل إغراقاً في التفاصيل البسيطة من مخرجي الواقع الحقيقي المباشر غير الخيالي، ولكن واقعية التفاصيل تتداخل مع الخيال بأشكال متعددة في الأفلام الأخرى، دون أن تفقدها أبداً.
الكوميديا والمرح الحزين تتبدى في الأفلام الغنائية: “سارق الفرح” و”مواطن وخبر وحرامي”، حيث يعبث المخرج بمعنى الفيلم الغنائي التقليدي ذي القصة الرومانسية والنهاية السعيدة، ليحوّله إلى قصة حزن وعنف وأسى. لا يستطيع المرء ألا يتوقف مطوّلاً عند الظهور الواقعي لشعبان عبد الرحيم، كما هو، بشكله الحقيقي: لم يستخدم المخرج المطرب الشعبي للعبث به، أو للسخرية منه: على العكس، يطرح الفيلم أسئلة المواطن المثقف والمخبر والحرامي، وأسئلة عبد الرحيم، بدون ادعاءات بمعرفة الأجوبة. هذا الاحترام الشديد لشعبان عبد الرحيم ولما يمثله يجعلنا نفهم بعمق معنى أن تكون واقعياً، بطريقة مبتكرة: لا يقف المخرج فوق آمال الناس وآلامهم، بل يكاد يتماهى مع مأزقهم الكبير. وهذا الاحترام يعود باستمرار في الأغاني التي تنطلق في الأفلام بشكلها الشعبي الأبسط، كما في “البحث عن سيد مرزوق”، لتلوّن القاهرة وتفاصيلها بمرح حزين كالأغاني نفسها؛ أو بشكل مفارقة طبقية لا تجد حلاً: كما في الموسيقا الغربية الكلاسيكية التي يستمتع بها أبطال برجوازيين في “مواطن ومخبر وحرامي” و”رسائل البحر” و”قدرات غير عادية”.
هذا التماهي مع الناس يتجلى في سؤال حيرة أخرى ميتافيزيقية عميقة: في رسائل البحر التي لا نعرف مضمونها، والتي تفتح نوافذ على العالم كله، بلغتها غير المعروفة، على سبيل المثال؛ أو، في سؤال الدين: هنا نجد معنى آخر للواقعية، واقعية السؤال الديني في مصر، وواقعيته بشكل عام، كسؤال مفتوح للجميع: بالضبط كما في لا أدرية نجيب محفوظ وعلمانيته المنفتحة البهية السمحة، وعلى العكس من أفلام عادل إمام أو يوسف شاهين، التي تُصوّر المتدين كهستيري مكروه عُصابي بربري، يحضر المتدين والدين عند عبد السيد بصفته سؤالاً حول المصير البشري: من جهة، أبطال “أرض الخوف” و”قدرات غير عادية” يبحثون في الدين عن إجابة، ولكنهم يفشلون بسبب الشك الذي يعيشونه والحيرة، في حين يجد البسطاء الإجابة الدينية جاهزة وعميقة ومريحة وطيبة؛ ومن جهة أخرى، يجد الجواب في الدين من لا يشك: ليس فقط الناس العاديون البسطاء، بل الشرير: تاجر الحشيش في “أرض الخوف” وضابط المخابرات في “قدرات غير عادية”. لا يحاكم المخرج الدين هنا، كما لا يحاكم الشرير، ولكنه يفتح للمشاهد ولأبطاله نافذة على فهم أعمق للظاهرة الدينية: في مشهد مذهل يشرح المعلم هدهد تاجر الحشيش رؤاه الدينية، حيث يشعر المرء بصدق إيمانه، وبصعوبة موقفه، وبمشكلة الجبر والاختيار، وبصعوبة فهم الشر، وبتردد البطل غير المتدين، المستمع، التائه بين السلطة والفساد والدين واللاجدوى: يلجأ الأشرار للدين في محاولة للتحرر من الشر: محاولة نصف ناجحة، ونصف فاشلة، ربما. في كل الأحوال، تحوم السلطة حول الدين، وتعبث به، ليتداخل السؤال الميتافيزيقي المفتوح مع السؤال السياسي المباشر، في جمع صحيح لإشكالية دائمة ومتجددة وجذرية.
ما يجمع كل أفلام داوود عبد السيد، بلا استثناء، هو عداؤه المتهور الحقود الغاضب الأهوج الأصيل للسلطة الحاكمة: من “الصعاليك” إلى “قدرات غير عادية”. على العكس من أفلام سياسية ساحرة، مثل “الكرنك” أو “البريء” أو “إحنا بتوع الأوتوبيس”، حيث السلطة السافرة تعبث بالناس، السلطة السياسية المستترة عند عبد السيد تعبث بتفاصيل الحياة: بالدين وبالحب وبالصداقة وبمزاج الحشيش وبالسحر وبالطفولة وبالأحلام وبرغبة الهجرة والبقاء وبالتجارة. يخشى الناس السلطة بسبب عنفها العاري المنحط: يعلّمنا داوود عبد السيد أن المرعب في السلطة، ليس فقط العنف العاري، بل العنف المستتر الكامن في قدرتها الهائلة على اختراق تفاصيل حيواتنا اليومية: هذه الحيوات التي يصورها في خروجها اليومي من اليومي إلى الماورائيات، في حيرتها الكبيرة، دون مخرج من هذا السجن الكبير الذي يجعل كل حياتنا الواقعية غير واقعية، تاركاً لنا الإجابة عما يمكن فعله في الواقع.
ربما، تكمن الإجابة في كشف القدرات غير العادية للناس العاديين، هذا الكشف الذي سيجعل السلطة عاجزة تماماً، لتفقد قدرتها غير العادية على التحكم بالناس. في العمق، هذه الرسالة السياسية لعمل داوود عبد السيد واقعية جداً، في هذا العالم غير الواقعي الذي نعيشه جميعاً اليوم.