إلى حين قريب كنت أقول أن الرواية في سورية بألف خير ما دام يعيش بين عصرنا روائيون عمالقة و مرموقون في المشهدية الروائية العربية برمتها وهما حنا مينه وحيدر حيدر، مع أنني اعتبر هذا الأخير من جيل السبعينات المتأخرين عن ملاحقة الكبار اسماً و ليس إبداعاً، و قد ترددت كثيراً في كتابة ”السبعينات“، هذه التسمية المرحلية التي أتمنى أن تكون تسمية خاطئة وحسب لسبب واحد هو أن رواية السبعينات في سورية لم تتمكن بنوع ما من لملمة شكلها الإبداعي النهائي المتكامل وتطورها التاريخي العادي المتسلسل إلا عبر أسماء قليلة جداً نتيجة نتوء اتجاهات نقدية صارخة في الرواية العربية قدمت إلينا عبر أوروبا وقسم من المغرب العربي بوساطة نقاد فرنسيين كبار.
أودت الاتجاهات بهذه الرواية أن تتوارى قليلاً وتضمحل على مهل بشكل يدعو للاستغراب والتوقف فيما بعد لفترة طويلة عن ملاحقة المشهد الروائي العربي برمته، ليبقى الميدان للقصة القصيرة التي كانت تبدو في حالة وهن ملحوظة وترهل يشوبه الانزلاق والضياع ومسحوبة من تجاذبات الرواية وإطلالتها المتخبطة فيما بعد على أيد روائيين جدد ظهروا في دور سوبرماني مثير، إلا إن القصة الحديثة التي خرجت من ضلع الرواية لم تستطع أن تستولي على عرش الرواية رغم تخبط هذا الجنس وتقوقعه ضمن اسم واحد أو بضعة أسماء مغامرة حاولت اقتحام بوابة التجريب والحداثة، ومع هذا حاولت القصة الحديثة أن تسمّن المشهد الثقافي بنتاجات قصصية متباينة ومتفاوتة الفنيات بين ”الواقعية الاشتراكية“ و”الواقعية الساخرة“ وترممه بأسماء كبيرة براقة مع سعيد حورانية وجميل حتمل وزكريا تامر وفواز حداد فيما بعد كأحد ملتحقي الرواية الشابة الذين ظهروا إثر توقف جيل كامل من الروائيين السوريين عن كتابة الرواية وتوجههم في كتابة زوايا صحفية هزيلة، كمقالات متفرقة للراحل عبد السلام العجيلي في الصحف السورية ونشر بضع مقاطع روائية متفرقة لحنا مينه في جريدة الثورة.
ولعل الحديث هنا يطيب عن الروائي الأول في سورية حنا مينه وأسباب عزوف العديد من محبي الرواية عن قراءته وقد ملوا من التبعية ”الاسمية“ وجهالة تعلقهم برواية «الياطر» التي من وجهة نظر الكثير من النقاد السوريين لا ترقى إلى ذلك التوق والمتعة والخلق الحقيقي للكتابة الروائية كما كنا نجدها في قراءة روائيين عرب أمثال إبراهيم أصلان وإدوار الخراط من مصر وهدى بركات من لبنان وإميل حبيبي وجبرا إبراهيم جبرا من فلسطين.
أقول أن الرواية بخير لأن جل الروائيين من جيل التسعينات باتوا يشعرون بعزوف القراء عن قراءة الرواية المكتوبة ليتفرغوا للرواية البصرية كالمسلسلات التلفزيونية: المرحوم ممدوح عدوان وحنا مينه وحتى المرحوم محمد الماغوط وحالياً كالروائيين الجدد أمثال خالد خليفة وخطيب بدلة وحسن صقر ونيروز مالك ووليد معماري وحسن م يوسف، حتى بعض كبار الشعراء ممن وجدوا ضالتهم في الكتابة التلفزيونية وباتوا يقتسمون الغنائم هنا وهناك مسكرين الطريق أمام كتاب الرواية والسيناريو وكل من يعيش وراء الكتابة في الأعمال الفنية مثل علي سفر ولقمان ديركي.
أقول ومع قليل من الأسف، إن كاتباً بحجم حنا مينه توقف عن كتابة الرواية وانزوى في صومعته، يراقب الحياة ويتحسسها من خلال ذكرياته ولم يعد له ما كان له من سلطة وهيمنة امتدت لربع قرن جالساً على عرش الرواية السورية غير متزحزح. واليوم ورغم تسجيلاته ”المتقطعة“ العادية والمتجزأة على شكل كليشات وأوراق من حياته ”المرهفة“ ينشرها في الصحف اللبنانية وغيرها من الصحف الغربية والإذاعة السورية، وإنه (رغم إحساسه الصادق) لم يعد سلطان الرواية كما جاء في الاستفتاء الأخير عن الروائيين الأكثر قراءة في العالم العربي، إذ لم يأت اسمه في اللائحة لا من بعيد ولا قريب، ولم يعد هذا الروائي مالكاً جمهوره كما كان يملكه في الثمانينيات وأصبح باستطاعة كاتبة مغمورة مثل أحلام مستغانمي أن تزيح أكبر روائي عن طريقها (الطويل) على حسب كلام نزار القباني وأن ُتطبع لها أكثر من طبعة خلال عام كامل وبلغات معروفة وغير معروفة في كل بلدان المشرق والمغرب، بينما لم ُيطبع لعجوز بحرنا حنا مينه منذ بداية التسعينات وحتى نهايتها أي كتاب روائي أو قصصي أو حتى مذكراته التي يلخّص فيها نهاية مسيرته الإبداعية ولم تترجم أعماله الأخيرة، كما كانت تترجم في الثمانينات، ولم يُجرَ معه أي حوار يمكن التعرف من خلاله على جديده أو يكتب عنه مقال نقدي يتناول الهم الروائي السوري، اللهم بعض متفرقات هنا وهناك وبعض من نرفزات تكاد تكون خرفة ومهووسة عن حبه وجنونه للبحر في اللاذقية، ومن يعود إلى أرشيف الروائي خلال مدة ممتدة لأكثر من 15 سنة سيلحظ الكسل كعنوان بارز لمجمل مسيرته الكتابية مع اعتبار أن ما كان يكتبه في ملحق الثورة وزاوية الأفاق في جريدة تشرين لا يمثل إبداعاً حقيقياً قد عرفنا عنه سابقاً.
أقول أن التجارب التي لحقت أو ألُحقت بالرواية السورية لم تكن هي الأخرى قادرة على تجميل ساحة الرواية السورية رغم نهوض أسماء هنا وخفوت أسماء هناك في عملية مد وجزر بقيت بعض أسماء ومحيت أسماء أخرى، كانت الصحافة الثقافية الرصينة لها دور مميز في هذا المحو والإقصاء، وربما كان أيضاً لاتحاد الكتاب العرب ضلع في تقويض أسماء روائية مبدعة شاركت وهي خارج سورية في رفد المشهد الروائي العربي بروايات ونتاجات قصصية عظيمة مازلت سارية المفعول رغم فوات أكثر من 20 سنة على صدورها أمثال زكريا تامر وسعيد حورانية وجميل حتمل…
لكن، لا بد من الاستغراب إن كان هنالك من يقرأ اليوم حنا مينه، فأدبه يرزح تحت ثنائية الخير والشر والإقطاعي الشرير والعامل الطيب الثوري الخ الخ. حنا مينه ومحفوظ وكتاب الجيل الماضي يجب النظر إليهم من منظار عصرهم وليس عصرنا الآن الذي تغيرت فيه المعايير. حنا مينه الآن أنهى مهمته الأدبية، أطال الله في عمره، ويبقى الفضل له بأنه من أوائل الروائيين السوريين الذين رفعوا الرواية ومنحوها القوة.
يجب أن نتخلص من ميولنا ونزعاتنا، وبالتالي نخضعها لمقياس موضوعي. مسألة التجييل، يجب إبعادها عن طريق طرح أسئلة منهجية، هكذا ينبغي التعامل مع حنا مينه، هاني الراهب، نجيب محفوظ، وآخرين بعدهم. القيمة الفنية للأعمال الأدبية هي التي تفرض اسم هذا المبدع أو ذاك في الساحة الأدبية، وإلا انفكت سلسة الأحكام المسبقة المنعقدة إلى لاشيء.
حنا مينه يبقى قامة باسقة وكاتب رائع تكلم عن الفقراء والجوع والتشرد، تكلم عن الحب والأمل، تكلم بأسلوب عصره وزمانه هو.