مراجعة الكتب أو الأفلام مهمة صعبة، ومملة، وشديدة الأهمية في المجال الثقافي. لا أعتقد أن أحداً يستمتع بها: معظم المراجعين، إن لم يكن جميعهم، يقومون بالمراجعات من أجل المكافآت المادية.
في حالات نادرة، تصبح المراجعات مقالات ساحرة لتشكل أعمالاً أدبية خالدة، وذلك عندما يكتبها أولئك المهتمون بفن المقالة وفن المراجعة، كجورج أورويل وفرجيينا وولف وأوسكار وايلد وبورخيس وابراهيم أصلان وفيسلافا شيمبورسكا، وغيرهم.
هنا سنراجع كتاباً بعنوان «قراءات غير مطلوبة»، يتألف من مجموعة مراجعات قامت بها شيمبورسكا، الشاعرة البولندية الشهيرة. اقتبس محمود درويش منها في مقدمة قصيدته عن الغيوم، والقصيدة نفسها مكتوبة بروح الشاعرة وأسلوبها؛ كما صدرت ترجمة عربية جيدة لمختارات من أشعارها قبل سنوات بعنوان «بداية ونهاية» عن ”دار المدى“ قام بها هاتف الجنابي. ولكن كتابنا الذي سنراجعه غير مترجم، للأسف الشديد، فالترجمات العربية قليلة لآداب أوروبا الشرقية، وقليلة جداً لفن المقالة عموماً وفن المراجعات خصوصاً.
مراجعات شيمبورسكا هذه ليست تقليدية، بمعنيين: الأول، كما تشرح الشاعرة في المقدمة، هو أنها تمزج بين محتوى الكتاب وبين ما يثيرها في نفسها الكتاب: بعض المراجعات تكاد لا تتطرق إلى الكتاب إلا لماماً، في حين ينغمس بعضها الآخر في نقاش صادق مع محتواه. الثاني هو التنوع الشديد في مجالات القراءة: كتب علمية، تاريخية، روايات، أشعار، سير ذاتية، تقاويم شمسية، كتب للأطفال، الموضة، حياة العصافير وأنواعها، الصحة واللياقة، موسوعات، كتب شعبية من قبيل «دع القلق وابدأ الحياة»، وغيرها: العالم الذي تعيش فيه شيمبورسكا مفتوح الأفق بلا حدود، ويتسع للجميع، كشِعرها المدهش.
سأقتبس من بعض المراجعات، وأعلق عليها، على طريقة شيمبورسكا: سأكتب عن الأفكار والتأملات التي ألهمتني إياها قراءاتها غير المطلوبة.
قصص هانس كريستسان اندرسن
إلى جانب الخيال والعِبرة والطيبة والمحبة والغضب، يثير أندرسن الرعب في قلوب الأطفال. هذا أحد أهم أسرار نجاحه، تقول شيمبورسكا. ولكن في القرن الحادي والعشرين، لن يجرؤ أحد على الكتابة للأطفال بهذه الطريقة: كل معايير التربية ومخاطبة الأطفال تغيرت، فالتربية أصبحت مشروعاً مستحيلاً: نصائح وتعليمات وتحذيرات من كل صوب، الكثير منها ينصب على تجنب العنف، والرفق والهدوء والاستماع ووزن الحجج، واستشارة الإخصائيين النفسيين لمعاجلة كل شيء، ولا شيء. ليس هذا ما ينصح به أندرسن وشيمبورسكا: علينا أن نعطي الأطفال جرعة حيوية من الرعب، جرعة صغيرة بمقدار معقول: طبيعة الطفل، المليئة بالطاقة، تحتاج إلى مرح غير معقم أو مبستر: الرعب، كالمحبة، يبني الشخصية الكاملة الواثقة الطبيعية.
كتاب الأسرار
يرى البعض أن العالم مليء بالأسرار، وبالأشباح، وبالكائنات الفضائية، وبكل أنواع الجن والصحون الطائرة والنبوءات التي ستتحقق حتماً. ولكن العلم أثبت أن كل ذلك كلام فارغ. لا يعني هذا أنه لا توجد أسرار، على العكس تماماً: حياتنا العادية اليومية مليئة بالأسرار: شجرة مثمرة تحمل من الأسرار أضعاف ما تحمله كل الخرافات. هذا ما تشرحه شيمبورسكا في تعليقها على كتاب للأسرار يجمع كل أنواع السحر والماورائيات العجيبة في ثلاثة مجلدات. غالباً ما كنت أسأل نفسي عن سر شيمبورسكا؛ وقد وجدته هنا: بالنسبة لها، الحياة العادية هي السر؛ وهذا، إذاً، سرها الخاص العلني النادر.
مذكرات توماس مان
الكاتب الألماني أحد أبطال شيمبورسكا، ويظهر عدة مرات في قصائدها. مراجعة المذكرات عبارة عن تأمل طويل في رد الفعل على صدورها باللغة الألمانية: أثارت المذكرات غضباً عاماً على الكاتب، الذي فشل، بحسب النقاد، في الارتقاء بنفسه إلى الصورة المثالية المتخيلة: فشل كأب وكأخ وكمواطن وكزميل وكممثل للجنس البشري. اليوميات، كما تشرح شيمبورسكا، تختلف عن السيرة الذاتية: يكتبها المرء لنفسه، ثم يقرر أحدهم نشرها على العلن: فيها يظهر المرء كما لا يريد أن يكون على العلن؛ من هنا سحرها، ولعنتها. بعد قراءة المذكرات، تقول إن مان لم يكن هذا الرجل الشرير الذي صورّه النقاد والمراجعات: كل ما في الامر، لم يكن ملاكاً، بل كان بشرياً خطّاءً مثلنا جميعاً.
تاريخ الشرق الأدنى
هذا الكتاب ليس للشعراء، بحسب شيمبورسكا: فيه الكثير من التفاصيل العلمية التي لا تعني الشعراء؛ فالشاعر وريث إنسانية بدائية، ويرى أسراراً يجب الكشف عنها في كل الأشياء والكائنات؛ الفن لا يتعايش مع العلم بسهولة. لا أتفق مع الشاعرة في هذا. الشعر، والفن على العموم، لا يخاصم العلم، ولكنه أيضاً لا يخضع له؛ لكل منهما عالمه الخاص: الفنانون، مثل بقية البشر، يفهمون الجزء من الكون الذي يشرحه العلم؛ والعلماء، مثل بقية البشر، يفهمون الجزء من الكون الذي يشرحه الفن، ويحسون به. في النهاية، لا يستطيع الشاعر تأمل القمر اليوم، دون أن يعرف أنه كوكب لا حياة فيه، يدور حول الأرض، التي تدور حول الشمس، بحركات دورية مملة، تتبع قوانين الطبيعة. إلا أن العلم، الذي اغتال الحياة على القمر، لن ينجح في اغتيال ما يثيره القمر الميت في قلوبنا البشرية الضعيفة، الحساسة، المفعمة بالحياة.
التقويم السنوي
شيمبورسكا مسحورة بهذا النوع من الكتب الذي تنزع منه صفحة اليوم السابق كل صباح، لتبدأ صفحة جديدة. في طفولتي كانت التقاويم تتخذ شكلاً واحداً: كرتونة كبيرة عليها آيات قرآنية، وفي منتصفها تماماً يقبع التقويم ذو ال 365 ورقة؛ كل ورقة يتقاسمها عالمان: إسلامي هجري ومسيحي ميلادي؛ وعلى قفا الصفحة يشتركان بحكمة، أو وصية، أو مزحة، أو حديث شرف، أو بيت شعر؛ كما يشتركان بالتعريف بتواريخ مميزة: رمضان والعيدين، العطل الرسمية، اكتشافات علمية غيّرت تاريخ البشرية، الانقلابات نصف السنوية وما يصحبها من تقديم أو تأخير للوقت… وأشياء أخرى لا تعنيني على الإطلاق، ولكنها في طفولتي كانت مثيرة ككيس شيبس من “ديربي” أو “بونجوس” الأناناس بطعمه اللاذع الحامض. اليوم، مع التكنولوجيا الرقمية، لم يعد للتقويم فائدة، لذا اختفى تماماً من حيواتنا الباردة: في العصر الرقمي، تتشابه أيامنا وتتابع ميتة، بدون لهفة لمعرفة ما تحمله خلفيات أوراق تقويم تجاوزه التاريخ القاسي، الجائر، المستقيم، الذي لا يرحم أحداً.
تقنيات اليوغا
يعِد الكتاب بتخليص النفس من همومها، وبرسم الدرب نحو الكمال. التمرينات الجسدية تتوازى مع تربية نفسية: على المرء أن يفقد فردانيته وينساها لينخرط في الكون الكلّي. هذه الفكرة الشرقية التي تتكرر في البوذية، بشكل رئيس، وفي المذاهب الصوفية جميعها، غير مقبولة، بل وخطرة. شيمبورسكا التي رفضت كل هذه الخرافات، كتبت المراجعة قبل أن تتحول البوذية إلى موضة رائجة في الغرب: موضة للهروب من مواجهة الحياة، وللاستسلام والتسليم. في الثقافة العربية موضة الصوفية والفناء في الله تنتشر بين علمانيين يعتقدون، مخطئين، أنها ستقف في وجه غلاة الدين التقليديين، متناسين أن التصوف مناف للعقل، وقد تحالف تاريخياً مع سلطات القمع، كما حصل أيام العثمانيين. علينا أن نواجه الكون الكلي كأفراد شجعان، وعلينا أن نغير العالم القبيح لا أن نقبل له، وعلينا ان نُغني فردانيتنا بالعمل مع الآخرين: هذا هو درب الكمال الحقيقي، الوحيد، الصعب.
سيرة إيلا فيتزجرالد
مغنية الجاز هذه أفضل مغنية على الإطلاق، ولا مثيل لها. لن يختلف أحد مع شيمبورسكا حول هذا التقييم، تقييمها الشخصي، الذي لا تفرضه على الآخرين. ولكن الخلاف يبدأ عندما تقارن بين فيتزجرالد وبيلي هوليداي: الثانية تصب روحها كلها في الغناء؛ فيتزجرالد، في المقابل، تحافظ على مسافة آمنة بينها وبين النص، على الدوام: التعبيرية المتدفقة عند هوليداي تجرح المتلقي، وتُنهكه، بحسب شيمبورسكا: فيتزجيرالد تسيطر علينا دون مبالغات درامية. هذه المقارنة، برأيي، تعكس، بوعي أو بدونه، رؤية شيمبورسكا لنفسها ولشعرها أكثر مما تعكس مقارنة دقيقة بين اسطورتي الجاز الأمريكيتين. في كل ما كتبته شيمبورسكا، تبقى المسافة الآمنة جلية: في تحكمها بأعصابها، وبمشاعرها، وبقدرتها على رؤية البؤس الإنساني الذي لا مفر منه دون أن تسقط فيه أو تنوح عليه؛ في ولوجها إلى عبث الوجود البشري دون أن تتخلى عن الأمل؛ في الخليط الساحر بين سخريتها المرحة وجديتها المُرّة؛ في انحيازها إلى الضعف ونقدها للقوة؛ في فهمها للطفولة والتاريخ والعلم والرواية والسياسة في الحياة اليومية وفي الميتافيزيقيا المتعالية: في كل ذلك، هناك دوماً مسافة أمان تفصلها عن صبّ روحها على مذبح الشعر. أنا شخصياً أفضل هوليداي على فيتزجرالد: وأفضّل شيمبورسكا على الاثنتين. أفضّل هوليداي لأنني، أحياناً، بحاجة إلى حزن شهواني لا يُفهم، على طريقة هوليداي، بدلاً من الأمومة الطيبة الواثقة المُطمئنِة الهادئة الدائمة التي تقدمها فيتزجيرالد. ولكنني لا أعدل شعراً بشعر شيمبورسكا: ربما لأن الأدب لا يحتمل العاطفية الغنائية التي تفجرها هوليداي، وربما، لأنه لا مثيل لهوليداي في الشعر؟
ما سبق كان مراجعة غير أمينة، لأنها لا تلتزم بعرض دقيق وموضوعي لما كتبته شيمبورسكا. لهذا السبب، لم تكن مهمتي صعبة أو مملة، بل مسلية وممتعة. ولكن، ربما كل المراجعات غير أمينة: وحدها قراءة الأصل أمينة للأصل. يبدو أن شيمبورسكا كانت تعرف ذلك، لذا قررت ألا تكون أمينة منذ البداية. أكثر من ذلك، تعرف شيمبورسكا أن كل القراءات غير مطلوبة، أقصد كل القراءات الأصيلة التي نستمتع بها ونتعلم منها. من هنا تنبع متعة الثقافة، أي في كونها اهتماماً شخصياً لا يفرضه أحد علينا، وينطبق هذا خصوصاً على الأدب، وعلى هامشيته الأخاذة، ولا نفعيته المطلقة: نقرأ لأننا نحب القراءة، فقط لا غير.