يرى الناقد والباحث الأدبي الأكاديمي بروفيسور سليمان جبران في كتابه «نظم كأنّه نثر- محمود درويش والشعر العربي الحديث»، أنّ محمود درويش، (1941 –2008)، الذي نحيي اليوم ذكرى رحيله العاشرة، “بحياته وشعره، غدا (شاعر فلسطين)، أو (شاعر القضية)، أو (شاعر المقاومة)؛ يذكّر بفلسطين وتذكّر به دائماً، سواء رغب الشاعر في هذه (الألقاب) أو رفضها”. مؤكداً أن “درويش نفسه شكا غير مرة من تناول شعره (فلسطينياً)، دونما التفات إلى الجانب الجمالي فيه؛ كأنما القضية الوطنية هي رافعة هذا الشعر ومدعاة رقيّه وانتشاره”.
الكتاب، الصادر مؤخراً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت، ودار الفارس- عمّان، والذي قدم له الناقد الدكتور فيصل درّاج، يقع في 159 صفحة من القطع الكبير، ويضم بين دفتيه مجموعة من المقالات تحت العناوين التّالية: “شبه نظرية للإيقاع وتطوّره في الشعر العربي”؛ “نظم كأنّه نثر، التباس الحوار بين محمود درويش وقصيدة النّثر”؛ “تحوّلات الأب في شعر محمود درويش”؛ “ريتا الواقع والقناع”؛ “مرثيّة لمحمود؟”؛ “السّهل المعقّد: نظرة سريعة في إيقاع القصيدة الدرويشيّة”؛ “عودة أخيرة إلى “الأخطاء” في مجموعة درويش الأخيرة: «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي»”؛ “أثر الفراشة”؛ “تعقيب على تعقيب: المقابلة الصحافيّة ليست منبراً علميّا!”. وهذه المقالات كُتبَت بأوقات مختلفة، لكنّها تمتثل لخطّ سير واحد واضح وهو إثبات أنّ الشاعر محمود درويش لم يتخل أبداً عن الإيقاع فالتزم بالتفعيلة حتى في قصائده المتأخرة التي تبدو ظاهرياً نثرية الطّابع أو منتمية لقصيدة النثر.
صاحب «نقدات أدبية» يؤكد أنّه “يمكن اعتبار درويش أبرز وأكثر من تبنّى الإيقاع التفعيلي في مسيرته الشعرية الطويلة. إلا أنّ مرحلة التجديد الشاملة التي أطلقها في أواخر الثمانينات تطلّبت التجديد في الإيقاع أيضاً، بعد سنوات طويلة ونتاج متواصل من القصيدة التفعيلية أدّت بهذا الشكل إلى النمطية والرتابة، بعد أن كان في بداية الطريق ثورة على الشكلين العمودي والمقطوعي وكسراً لكليهما”. لافتاً أنّه “لم يكن أمام درويش من شكل إيقاعي جديد يوافق مشروعه التجديدي في المرحلة المذكورة سوى قصيدة النثر. إلا أنّه تجنّب الأخذ بهذا الشكل الإيقاعي الجديد، عامداً، رغم إدراكه العميق لميزاته وطاقاته”. وهو ما يؤكده درويش في تصريح له: “بين ما يعطي شرعيّة لقصيدة النثر أنّها تقترح كسر نمطية إيقاعية وتسعى إلى إنشاء إيقاع آخر، ليس بديلاً لكنّه فعّال، فضلاً عن أنّه يؤسّس لحسّاسية جديدة. اقتراح قصيدة النثر هذا هو أهمّ العوامل التي جعلتني أشعر بقدرة الوزن على أن يكون نمطياً. هناك بيني وبين قصيدة النثر بالتالي حوار ضمني أو مبطّن. لكنّي أجد حلولي داخل الوزن… والوزن ليس واحداً، ولو كانت له العروض نفسها”.
يلفت المؤلف هنا إلى أنّه “في الحوارات الكثيرة مع درويش، وبعض المحاورين كانوا من شعراء قصيدة النثر البارزين، أقرّ الشاعر أنّ قصيدة النثر هي “الظاهرة الأبرز في الشعر العربي، وخلال العقدين الأخيرين بصورة خاصّة”، إلا أنّه لم يكتبها “لأنّه لم يشعر بأن الوزن يقيّده ويحجب عنه حرّيته في المغامرة”.
قصيدة “ريتا والبندقية”؛ تفاصيل الحكاية ..
يكشف بروفيسور جبران لنا في متن الكتاب، في فصل “ريتا الواقع والقناع”، تفاصيل حكاية الشاعر مع محبوبته الإسرائيلية “تمار بن عمي”، وقصة قصيدة “ريتا والبندقية”، مبيّناً أنّه “لم يكن سراً، ولا غريباً في نظرنا نحن، العرب في إسرائيل، أن يكتب محمود درويش قصيدة حبّ في فتاة يهودية يسارية، تعرّفها يوم كان في إسرائيل، في صفوف الحزب الشيوعي الإسرائيلي، في أواسط ستينات القرن الماضي”.
يتابع جبران قاصاً علينا تفاصيل الحكاية: “شارك درويش في أمسية سياسية شاعراً، وشاركت فيها الفتاة تلك راقصة، فكان اللقاء، وكان التعارف الذي نجم عنه آخر الأمر حبّ صعب بين الشاعر الفلسطيني والراقصة اليهودية الحسناء. هكذا كان مولد قصيدة “ريتا والبندقيّة”، وإن لم يسمّ الشاعر حبيبته اليهوديّة تمار بن عمي باسمها العبري، مؤثراً تسميتها، لسبب أو لآخر، ريتا بالذات!”.
جبران يخبرنا وهو يتابع سرد التفاصيل أن “الأمر لم يعد سراً اليوم، بعد أن كشفت المخرجة ابتسام مراعنة القصّة كاملة، موثّقة بالصور، وبرسائل درويش العبرية بخطّ يده إلى الفتاة اليهودية، موحية قصيدة “ريتا والبندقيّة”، في فيلمها الوثائقي “سجّل أنا عربي” سنة 2014″. ويضيف: “على هذا النحو، فهمنا نحن أيضاً، منذ اليوم الأوّل، قصيدة درويش تلك، المنشورة في مجموعته «آخر الليل»، الصادرة لأوّل مرّة في إسرائيل سنة 1967. وكان من حظّ قصيدة “ريتا والبندقيّة” أن لحّنها وغنّاها، على عوده، الفنان اللبناني المبدع مارسيل خليفة، فانتشرت في البلاد العربية انتشاراً واسعاً جداً..”.
حيّز النثر في مشروع درويش الشعري ..
د. حسين حمزة، المحاضر في الكلية الأكاديمية العربية للتربية في حيفا، يرى أنّ “محمود درويش لم يكتب قصيدة النثر، رغم أنّ هناك مقاطع نثرية ضمّنها في عدد من إصداراته الأخيرة، وخصوصاً «أثر الفراشة» المنشور تحت صفة (يوميات)، و«في حضرة الغياب» تحت صفة (نص)، إضافةً إلى مقاطع في ديوان أقدم هي «أحبك أو لا أحبك». لم يسمّ تلك النصوص قصائد نثر، ولو أراد لفعل ذلك”.
يتابع د. حمزة: “درويش فرّق بشكل حاسم بين التعبير عن نفسه (شعرياً) وبين التعبير (نثرياً)، فهو شاعرٌ في الشعر وناثر في النثر، فلماذا نُكتّبه قصيدة النثر عنوةً؟ كان ناثراً موهوباً، ولم يكن يُضيرُهُ أن يكون ذاك الناثر الموهوب إلى جانب كونه شاعراً مرموقاً“
د. درّاج: دراسة رحبة معمّقة ..
في تقديمه للكتاب يرى د. فيصل درّاج أنّه “ينطوي على ثلاث قضايا هي: التعريف بدرويش وهواجسه الشعرية المستمرة، التي كانت تملي عليه الانتقال من طور إبداعي إلى آخر، والعمل الهادئ على صوغ شبه نظرية للإيقاع وتطوّره في الشعر العربي، ما يفصح عن طموح في إنشاء نظرية للإيقاع، تحتضن الشعر العربي كله، والقضية الثالثة، وهي امتداد للقضيتين السابقتين، ماثلة في حيّز النثر في مشروع محمود الشعري، الذي لازم الشاعر طيلة حياته، واحتجب وراء صيغ فنية مختلفة”.
ويبيّن د. درّاج أنّ “صاحب الكتاب توقف أمام (شخصيّة درويش الشعرية)، متحدثاً عن الشاعر في فترة صباه، حيث بدأ بكتابة الشعر وهو طالب في المدرسة الثانوية، وعن موهبة شعرية، أقرب إلى السليقة، دعاها درويش (السليقة المهذبة، أو الموهبة التي يصقلها العمل)، كما أشار إلى أنّ بروفيسور سليمان أوضح في كتابه: “أنّ درويش استمر في صقل هذه الموهبة مدة نصف قرن من الزمن، كما أنّ ارتباطه بقضية وطنية، يكافح شعب بأسره من أجلها، خلق له شهرة الشاعر، فغدا أسطورة، أو ما هو قريب منها، ذلك أنّ قسطاً كبيراً من شهرة الشاعر، تعود إلى فلسطينيته، التي أسبغت عليه صفة شاعر فلسطين، أو شاعر المقاومة، ومع ذلك فإنّ درويش الذي أخلص لسليقته المهذبة، لم يكن يُرحب كثيراً بصفة تستعير أهميته من خارج شعره، ذلك أنّه هجس، بأن يكون الشاعر، بلا حذف ولا إضافة، وهو ما أضاءه جبران في هذا الكتاب”.
ينوه صاحب «ذاكرة المغلوبين» أيضاً، إلى أنّ “جبران قدّم، وهو يلاحق التغيير الحقيقي في إيقاع القصيدة في العصر الحديث، ملاحظة لامعة، ذلك أنّه فسّر الظاهرة بعاملين أساسيين أحدهما: “أنّ استهلاك الشعر في العصر الحديث انتقل تدريجيّا من استهلاك سماعيّ إلى استهلاك (قرائيّ)”، وثانيهما: أنّ “الإنسان العربي المعاصر، غدا أرقى حساسيّة وأرفع ذوقاً منه في القرون الغابرة بحكم الثقافات والمعارف الحديثة”. لم يقرأ جبران تطوّر الشعر (من داخله)، كما لو كانت (الكلاسيكيّة القديمة) تحمل في ذاتها، لزوماً (الإحياء الشعري) القادم، بل اشتقّ تجدّد القصيدة العربية من عوامل (تقنيّة) إنْ صحّ القول، مشيراً إلى القراءة في عناصرها الجديدة، المؤلّفة من الكتب والمجلات والصحافة بشكل عامّ.”
كما أوضح د. درّاج في مقدمته، أنّه إضافة إلى دور التحوّلات الاجتماعيّة في التحوّلات الأدبيّة، أكّد جبران “دور (الآخر) في توليد ذائقة فنيّة لدى الإنسان العربي المعاصر، والشاعر بوجه خاصّ، اعتماداً على الترجمة، وعلى جهود مثقّفين منفتحين على الثقافة الغربيّة. انتبه الأستاذ جبران إلى الفرق، في عمليّة التأثّر بالثقافة الغربيّة، بين الشعر والأجناس الأدبيّة الأخرى، مثل الرواية والمسرحيّة. فقد جاء تأثّر الشعر متأخّراً عن غيره”. متابعاً أنّه “على خلاف الأجناس الفنيّة – الأدبيّة التي أُخذت عن الغرب، ولم تكنْ معروفة في الثقافة العربية، فإنّ الشعر، وهو (ديوان العرب)، له هيبته وتاريخه التليد، إنْ لم يعتبره البعض خاصّة من خواصّ العرب دون غيرهم من الأمم. لا غرابة، والحال هذه، أن يكون تجديد الشعر العربي، في فترة محدّدة، ارتداداً إلى الدولة العباسيّة، التي شهد فيها الشعر (عصره الذهبي)، وأن يحاول بعض الكلاسيكيّين الجدد -محمود سامي البارودي على سبيل المثال- محاكاة فحول ذلك العصر وتقليدهم. قدّم جبران ملاحظات نيّرة وهو يشير إلى الجهود المحدودة (للمجددين)، شعرياً، في عصر النهضة”.
ويشيد د. درّاج بالباحث الأكاديمي سليمان جبران الذي أفرد صفحات، غير قليلة، من بحثه، لموقف الشاعر القلق من «قصيدة النثر»، كما لو كان يعترف بالقصيدة ويرفضها في آن: يعترف بها انطلاقاً من تصوّر حداثي يطالب (بالتنازل) عن شيء من الموروث الشعري، ويرفضها انتصاراً منه للموروث الشعري نفسه، الذي احتشد بثروة إيقاعيّة لا يجوز التصرّف بها، باستسهال كبير.
ويلاحظ الناقد الفلسطيني أنّ جبران في تقصّيه لموقف درويش من قصيدة النثر، فإنّه “يعلن عن أمرين: علاقة درويش الشاعر بذاته، إخلاصه لصورة كوّنها عن ذاته، وهو الذي تآلف مع قصيدة قوامها الإيقاع والوزن، وأخلص لها إخلاصاً لا يسهل نكرانه، هذا من ناحية، ومعرفة جبران العميقة بدرويش، وهو الذي أراد أن يكون ما يريد أن يكون، لا ما أرادت له (فوضى الشعر) أن يكون. فبعد أن استبعدت قصيدة النثر الوزن الخليلي، غدا الشعر مجالاً (مباحاً)، يمارسه من يحسن كتابة الشعر، ومن لا يحسنه أيضاً، وذلك في «مناخ كتابيّ» أقرب إلى التسيّب”.
في سجاله، إن صحّ القول، مع موقف درويش (القلق) من قصيدة النثر، أنجز جبران دراسة رحبة معمّقة، بل تكاد أن تكون نموذجيّة، بحسب د. درّاج، حيث “أبان فيها علاقة الشاعر(المعقّدة) مع قصيدته، وعلاقة الناقد العارف مع القصيدة”.
في الختام يؤكد د. درّاج أن سليمان جبران “أنجز دراسته مرتاحاً، مزوّداً بثقافة شعريّة عالية، وبمعرفة بالشعر العربي الحديث، تمتدّ من (المهجريين) إلى بدر شاكر السيّاب، ومن أدونيس إلى شوقي بزيغ، ومن ملاحظات عبّاس بيضون المتكاملة إلى إلياس خوري وتصرّفه بالديوان الأخير لمحمود درويش”. كذلك يرى أنّ الباحث “أنجز، وهو يقرأ درويش في مستويات متعدّدة، دراسة تتميّز بالمعرفة والموضوعيّة، من دون تكلّف، وبوضوح يحتضن البساطة، أو ببساطة لا ينقصها العمق والإشارات اللامعة. انتهى إلى ما يرغب أن ينتهي إليه كلّ باحث جادّ، وإلى دراسة يحتاجها المشغولون بقضايا الشعر، وبشعر محمود درويش بخاصّة”.
جدير بالذكر أنّ بروفسور سليمان جبران هو ناقد وباحث أدبي معروف، ولد في قرية البقيعة ويقيم حالياً في حيفا. كان أستاذاً للأدب العربي الحديث في جامعة تل أبيب ورئيساً لقسم اللغة العربية وآدابها في الجامعة في الفترة ما بين (1998– 2002)، وهو من مؤسسي مجمع اللغة العربية في أراضي الـ48.
صدر له العديد من كتب الأبحاث والدراسات الأدبية النقدية من أبرزها كتابه عن أحمد فارس الشدياق: «الفارياق: مبناه وأسلوبه وسخريته»، جامعة تل أبيب، 1991. (صدرت طبعته الثانية عن دار قضايا فكرية، القاهرة 1993)؛ وكتابه عن محمد مهدي الجواهري: «صل الفلا: دراسة في سيرة الجواهري وشعره»، جامعة حيفا، 1994. (صدرت طبعته الثانية عن المؤسّسة العربية للدراسات والنشر، بيروت وعمّان 2003)؛ و«على هامش التّجديد والتّقييد في اللغة العربية المعاصرة»، مجمع اللغة العربية، حيفا؛ و«المبنى واللغة في شعر عبد الوهاب البيّاتي» دار الأسوار، عكا 1998؛ و«نظرة جديدة على الشعر الفلسطيني في عهد الانتداب»، منشورات الكرمل، جامعة حيفا، ودار الهدى – كفر قرع، 2006؛ و«نقدات أدبية»، جامعة تل أبيب، 2006. (طبعة ثانية: دار الفكر، عمّان، 2007).