إلى رشا عباس
(1)
ما الشذرة؟
الشذرة، في الأصل، جملة أو أكثر لكاتب قديم اختفت كتبه، وبقيت لنا منه أقوال قصيرة منثورة في كتب الآخرين.
كيف اختفت الكتب؟
الإنسان عمل جاهداً للتخلص منها: أُحرقت المكتبات، وهوجم كل من يحمل رأياً مخالفاً، فاختفت الكتب، كما حدث مع معظم أعمال أبيقور، وزارادشت، وابن الراوندي، وغيرهم. بقي لنا شذرات ساحرة، هنا وهناك، منبثة فيما بقي من كتب لم تنجح يد الهمجية في إحراقها.
الشذرة، إذن، سليلة عائلتين كبيرتين تحكمان الوجود البشري: من جهة، الحظ الذي سمح لها بالوصول إلينا؛ ومن جهة أخرى، الانحطاط والتعصب والبربرية والخوف، الخوف الذي أحرق الأصول التي كانت فيها الشذرات جزءاً من عالم أبهى وأكمل وأجمل.
والشذرة، كصورة في غيمة، توحي ولا تقول: محاولات كثيرة لفهم المضمون، وتأويلات حزينة لنعرف ما الذي دار في خلد صاحبها.
الشذرة غموض مفروض علينا، غموض لا نحبه ولا نريده، ولم يرده صاحبها.
ولكن، يحب البعض الشذرات، يحبون الغموض والحرب والخراب والهمجية؛ يضعفون أمام النقاش العقلاني، ويلجؤون إلى الطلاسم.
اشتهر نيشته وفتجنشتسن بكتابة الشذرات. الفارق بينهما كبير: الأول قادر على كتابة كتب لها معنى، ولكنه، في أواخر حياته، مع خسارة عقله تدريجياً، أكْثر من الشذرات. الثاني لم يكتب يوماً كتاباً، بل كان دوماً صاحب شذرات، وعبقريته ليست مرتبطة بها، مهما ادعى أتباعه: على العكس، أسلوبه عقبة كبرى أمام هضم أعماله وتقييمها، والدليل إننا نقرأ ما كتب عنه في كتب عادية، كي نفهم ما قاله ونبني عليه.
أسلوب التفلسف الواعي الصحيح ولد مع آرسطو: النقد العقلاني وعرض آراء السابقين ومقارعة الحجة بالحجة: هنا أسلوب الفلسفة الوحيد الناجع، والأساليب الأخرى لا تعدو كونها محاولات فاشلة، سواء كانت شعراً أو محاورات أو شذرات.
ما ينطبق على الفلسفة ينطبق على الأدب: الجمل القصيرة والشذرات متناهية الصغر تثير الملل هنا أيضاً: ما يسمى القصص القصيرة جداً لأوغستو مونتيروسو، على سبيل المثال، أو مواعظ إدواردو غاليانو المتنكرة في شذراته، أو خواتم أنسي الحاج الرصينة الصارمة.
تكشف الشذرة عن روح بخيلة: حيلة جدية جداً لإقناع القارئ بأن الكاتب لا يهرف، ولا يمكن أن يخطّ قلمه إلا حكمة مختصرة موجزة مركزة، كحليب نستله المكثف المعلّب، أو، كنبوءات غضب إلهي في العهد القديم.
الشذرات، بذاتها ولذاتها، بالضرورة، سطحية جداً.
في حالات نادرة، تكشف الشذرات ما لا يُكشف بسهولة، عندما تتخلى عن القناع النبوي وتغوص في العارض المؤقت البشري. وبهذا الكشف تعمّق فهمنا: ولكن فقط على خلفية واسعة جداً من كتب كثيرة طويلة متماسكة بحق، بها تكتسب الشذرة عمقها المستعار دوماً من خارجها.
(2)
في خطاب تسلمه جائزة نوبل للآداب، يقتبس ياسوناري كاواباتا من أحد مقالاته القديمة، معلّقاً على انتحار أكوتوجاوا، أستاذ القصة القصيرة اليابانية، في سن الخامسة والثلاثين:
“مهما يكن الإنسان مغترباً عن عالمه، ليس الانتحار ضرباً من التنوّر. مهما يكن أحدهم مثيراً للإعجاب، لا يقترب من مملكة القديسين بانتحاره”.
ثم يضيف أنه لا يتعاطف مع المنتحرين ولا يعجب بهم.
بعد سنوات قليلة، سينتحر كاواباتا نفسه، تاركاً كلماته هائمة خجلى، كروح الشكّاك فوق جنّة القديسين.
…
قبل سنتين، حملت تلفزيوناً كبيراً مع صديقي البولندي من بيتي إلى مركز جمع التبرعات. أخبرني المسؤول إنه لا يقبل بهذا التبرع. لا يريد أحد تلفزيوناً ضخماً.
جلسنا نحن الثلاثة على ناصية الشارع صامتين، تمر أمامنا مجموعات من الناس، تتفرج على التلفاز الجالس بيننا بأسى: عمره عشرون سنة ربما، وهو رقم كبير في أعمار الآلات الحديثة.
ربتّ على كتفه بمحبة، ثم أخذته إلى مسلخ الإلكترونيات، حيث يكبسونه ويحولون بعض أجزائه إلى إعادة التدوير.
عدت إلى البيت أفكر بمصيره المحزن: ورثته عن جارٍ صربي لم أكن أوده، بالمجان، وقد ورثه بدوره عن خليلة إنكليزية تركته لتعيش مع رجل برازيلي كانت تخونه معه لأشهر، وهي ورثته عن أمها المتوفاة التي كانت تعيش وحيدة في منزل أهلها القديم الكبير في “نوريتش”. اشترت الأم التلفاز مع الأب الإيرلندي في بداية التسعينيات، قبل أن يحصل الطلاق سريعاً، لتبقى هي مع التلفاز والبنت، ويهاجر الأب الكاثوليكي المتعصّب إلى السعودية، ليعمل في شركة نفط في مجاهل الصحراء لعقد من الزمن.
شاهد التلفاز حيواتنا جميعاً، بحلوها ومرها، “بعجرها وبجرها”، بلغاتها المختلفة وعاداتها المتنوعة؛ وكإله الفلاسفة الأخرس، لم يتدخل في شؤوننا أبداً.
…
كان أبو نواس يكره النفاق: نفاق الخلفاء والوزراء والفقهاء، والأشاعرة والمعتزلة: في حين يؤكد هؤلاء أن مرتكب الكبيرة سيخلد في النار، يؤمن أبو نواس برحمة الله الواسعة. كما كان يكره النفاق في الشعر: مطولات فارغة مخادعة تقف على أطلال لا وجود لها يلقيها أبناء المدن والحواضر، أمثال أبي تمام والمتنبي بعده.
يقول شاعرنا:
مالي بدارٍ خلَتْ من أهلِها شُغُلٌ، / ولا شَجاني لها شَخصٌ ولا طَلَلُ
ولا رُسُومٌ، ولا أبكي لمَنْزِلَةٍ، / للأهل عَنها، وللجيرانِ مُنْتَقَلُ
ولا قَـطَـعْتُ على حَرْفٍ مذَكّرَةٍ / في مرْفَقَيْها، إذا استَعرَضْتهَا، فَتَلُ
بيْداءَ مقْفِرَة ً يوْماً، فأنْعَتها، / ولا سـرَى بي ، فأحكيـهِ بها ، جملُ
ولا شَتَوْتُ بها عاماً فأدرَكَني / فيها المَصيفُ ، فلي عن ذاكَ مرْتحَلُ
ولا شَدَدْتُ بها مِنْ خَيمَة ٍ طُنُباً، / جاري بها الضّبّ والحرْباءُ والوَرَلُ
لا الْحَزْنُ مني برأي العَينِ أعْرِفُهُ، / وليسَ يعرِفُني سَهْلٌ ولا جَبَلُ
لا أنعتُ الـرّوضُ إلاّ رأيتُ بـهِ / قَصراً مُنيفاً، عليهِ النّخلُ مشتَمِلُ
هذا فصِفْهُ، وقلْ في وَصْفِهِ / سدَداً، مُدّتْ لواصِفِهِ في عُمرِهِ الطّوَلُ
إنّي امـرُؤٌ همّتي، واللهُ يكـلؤني، / أمْرانِ ما فيهِما شرْبٌ ولا أكُلُ
حبّ النديم، وما في النّاسِ من حَسَن / كفّـي إلَيـهِ إذا راجعْتُـهُ تصـلُ
سخر الثوري الماجن هذا من التطير والسحر، ومن الزهد والتصوف، ومن العبادات المختلفة والطقوس الدينية. توحي أشعاره بإيمان عميق بإله عادل، على طريقة فولتير. شعره سلس شفيف غزير، كموسيقا شعبية في الأرياف النائية.
حبسه صديقه ونديمه الخليفة الأمين، قبل وصول أخيه الذي سيقتله شر قتلة، ولي العهد المأمون، إلى بغداد، بعد أن شهّر بالشاعر وبمجونه وبخمرياته خطباء المأمون في المساجد. لم يطلب الأمين من الشاعر أن يغيّر معتقده، بل فقط أن يتبع ما يمليه عليه الإمام: الإقلاع عن شرب الخمر لفترة. وهو ما فعله الشاعر، بحنكة وسخرية عميقة، مشتهياً الخمر، مادحاً لها، وللأمين، بمرح لم يتخل عنه، حتى في بعض قصائد السجن.
نافق الرجل الذي أمضى عمره في الصدق: نافق بفرح، مسلياً نفسه في حرب أهلية طويلة، لم يلتفت إليها على الإطلاق.
…
في واحدة من شذراته القصيرة جداً، يكتب نيتشة: “جون ستوارت مل: الوضوح الجارح.” لا أعلم إن كانت الترجمة العربية دقيقة. يبدو لي أن كلمة “مهين”، الواردة في الترجمة الإنكليزية للشذرة، أدق بكثير.
كان خلاف نيشته مع مل كبيراً، وأحد أوجهه الديمقراطية والمساواة: يكتب الألماني للنخبة، للخاصة، للمختارين، لجيل السوبرمان؛ يكتب الإنجليزي للعامة، لجميع الناس، للطيبين الذين سيرثون الأرض. من هنا وجد نيتشه في وضوح مل وديمقراطيته إهانة له ولأمثاله من أنصاف الآلهة.
على المرء أن يختار جمهوره، وأسلوبه، والمعركة التي سيضيّع عمره فيها.
…
في الطابق الأخير، المخصص للبحث والصمت الصارم، يقف شاب رياضي يقرأ بصوت عال آيات من العهد الجديد.
يهز برأسه، وينظر حوله ليتأكد من أننا جميعاً منزعجون من صلواته ذات الصوت العالي.
ينهي صلواته، ويغادر سريعاً.
سألت العاملين في المكتبة عنه.
قالوا إنه يأتي أحياناً ليلقي صلواته هذه. لم يؤذ أحداً يوماً، ولم يستعر كتاباً، ولم يكلم إنساناً. صلواته قصيرة لا تتجاوز ثلاث دقائق؛ وبعد نقاش مطوّل، قررت إدارة المكتبة السويدية أن تتركه وشأنه.
في اليوم التالي، راقبته بتدقيق مبالغ فيه.
مسحة من الذعر، في ارتجاف بؤبؤ العين الأخضر اللامع، تجعل الثقة التي يخاطب بها الله أكثر كآبة من الكنائس الفارغة في الشمال البارد هذا.
…
“من الواضح أنه لا يمكن وضع الأخلاق في كلمات.”
هذه إحدى أشهر شذرات كتاب “رسالة منطقية-فلسفية” للفيلسوف الألماني لودفيج فتجنشتين. الكتاب محاولة فاشلة تماماً لفهم اللغة والعالم، وقد فنّد دعاواه الرئيسة فتجنشتين نفسه بعد عقدين من صدوره، ولكنه احتفظ ببعض الجوانب من فلسفته المبكرة بدون تعديل: رؤيته للأخلاق على سبيل المثال.
سخر برتراند راسل من هذه النظرية، في المقدمة التي كتبها للكتاب، والتي لولاها لم يقبله الناشر، مشيراً إلى أن فتجنشتين يتكلم عن الأخلاق في الكتاب نفسه؛ ولكنه أضاف بأنها قد تكون صحيحة: في الأخلاق، الجوهري ليس القول، بل الفعل.
الفكرة نفسها قديمة جداً، وصحيحة تماماً: نجدها في تجوال يسوع وسقراط وبوذا لنشر الفضيلة، في تديّن تولستوي الزاهد العملي، في القرى والدساكر في أرياف العالم الثالث، وفي مخيمات اللاجئين، حيث يمارس الناس الأخلاق، بدون تنظير عميق، أو شذرات.
…
في مكتبة بيت مهجور على أحد خطوط الجبهة في حلب في 2013، وجدتُ مجموعة من روايات عبير، وقرآناً، و”يوميات نائب في الأرياف” لتوفيق الحكيم، و”خريف الفكر اليوناني” لعبد الرحمن بدوي، و”قالت لي السمراء” لنزار قباني.
على الأرض أقلام “فولماستر” ومقلمة وردية، ودمى منوعة رخيصة، ودفتر رسم سليم: فيه لوحات تقليدية جداً للغروب، ووجوه بشرية حنطية، وحقول خضراء، وقائمة مشتريات للمطبخ، وأرقام هواتف كتبت على عجل، وخريطة لسورية، خريطة مرسومة بشكل سيء وغير دقيق، رسمتها تلميذة في المدرسة الإعدادية اسمها سعاد.
“هذا من فضل ربي”، بخط عربي جميل على لوحة مكسور زجاجها تميل على حائط رصّعه رصاص كثيف؛ على الحائط المقابل صورة بالأبيض والأسود، مع شارة سوداء على الزاوية، لرجل بشوارب عريضة رمادية، وابتسامة دمثة، وعينين مليئتين بالأمل والألفة والثقة.
…
في الأغاني، يستطيع المرء قول الشوق الذي لا يُقال ببساطة: “أقولك إيه عن الشوق يا حبيبي؟”، أو “اليوم أله يومين ما مر عليا”، أو “طال المطال يا حلوة تعالي”.
في هذا الكلام العادي يلفحك الشوق كله، كموجة حر تُدمي الروح في الشمال البارد.
…
في رسالة إلى الاميرة إليزابيث (أكتوبر أو نوفمبر 1646)، ينصح ديكارت الأميرة المرهقة من عقابيل ومعضلات عملية حساسة، أن تتبع “الصوت الداخلي” الذي يهمس لنا دوماً بما هو صحيح، وأن تهمّ إلى أعمالها بروح مرحة، إذ إن النجاح يحالف أولئك الذين ينجزون بأعمالهم بسعادة. هذه السعادة تساند الحظ، بل توجهه أحياناً. يخشى الفيلسوف التصريح بهذه الأفكار، كي لا يجعل البعض يميلون إلى الخرافات.
ديفيد هيوم، من جهته، في الفصل الأخير من الكتاب الأول في سفره الضخم حول الطبيعة البشرية، ينصحنا بالتريض وتناول البيرة والثرثرة مع الأصدقاء مساءً، للتخلص من شكوكنا النظرية، شكوك لا حلول عقلانية للتخلص منها، ولكنها تظهر محدودية فهمنا وعجزنا البشري الأصيل. هذه الشكوك، تبعاً لهيوم، لا تؤثر على حياتنا العملية كثيراً، لأن طبيعتنا البشرية تميل إلى العمل، وإلى التسليم بوجود العالم الخارجي وبالأسباب والنتائج وبوجود الأنا وغير ذلك مما يشك به العقل.
ينصحنا الفيلسوفان بالإقبال على الحياة ببساطة وتلقائية وتفاؤل.
لا يملك أكثر الرجال حكمة في تاريخ الفلسفة الغربية نصيحة أعمق من نصائح مجلات الجمال، وقارئي الكف والفنجان، ورواد المقاهي والبارات، والجدات والأمهات الطيبات؛ وهذا الاتفاق مع الحكمة الشعبية علامة على فهم صادق للطبيعة البشرية: سمة الحكمة الحقة بساطتها المطلقة.
…
قالت لي صديقة إنها لا تريد أن تكون أماً، ولكنها تحلم بأن تصبح جدة.
لامعقولية هذه الأمنية تجعلها مشتهاة جداً، وجارحة في القلب، وصادقة كنص مقدس.
…
“كل حب جديد مجرمٌ؛
بدون أن يرف له جفنٌ،
يقتل كل حب سابق.”
بلاجا ديميتروفا، شاعرة بلغارية
…
فلسفة اللغة في القرن العشرين انشغلت بالأسماء: ما الاسم؟ كيف تسمّي شيئاً أو شخصاً؟ ما الفارق بين الاسم والوصف؟ بين الاسم والمفهوم؟ هل نسمّي الأشياء في العلم، أم أننا فقط نطلق عليها أوصافاً مؤقتة؟ هل يسمي الاسم الجوهر؟ أم أنه يلتقط شبكة علاقات مترابطة؟ إلخ.
يبدو الاسم ملتصقاً بالبشرية منذ نشأتها. الضمائر أيضاً. لا يوجد لغة بدون أسماء أو ضمائر، وإن تنوعت أشكالهما.
الأسماء تلتصق بأصحابها، تأخذ أشكالهم وطباعهم، ثم تستقل عنهم. عندما نسمّي الأولاد، أول ما نفعله التأكد من أننا لا نعطيهم اسماً لأشخاص لا نبحهم، أو لمجرمين مشاهير، أو لعشاق وعشيقات سابقين.
اسمي عدي، على اسم عدي صدام حسين. ولكنني دُمغت بالأحرف الثلاثة قبل أن يتحول الاسم إلى ماركة سياسية لإجرام البعث العراقي. اسم العائلة الزعبي، مرتبط بأكبر عشيرة في حوران، وبوالد جدي فارس بيك وزيجاته الغريبة، وبعزل محمود الزعبي وموته الغامض، وبما لم يحن الوقت بعد على مواجهته علناً أو سراً، وبنوال الزغبي التي يعتقد معظم المصريين، أولئك الذين لا يميزون بين الزعبي والزغبي -قاتلهم الله- أنها عمتي بالطبع؛ وبعشرات التفاصيل الأخرى تشدني إلى المكان بروابط مرئية، لغوية وعاطفية وتاريخية.
اسمي سُنّي، عربي، مشرقي بوضوح، غير عصري، موسيقي قليلاً: عدي الزعبي.
بدأ اسمي يبتعد عني، يهجرني عائداً وحده إلى دمشق. لا يثير في الناس أية أفكار أو روابط أو خيالات في الشمال البارد: اسم مجرّد كلغو أخرق فارغ: كاسم جديد مبتكر، لا يحمل معنى مستقل يضيفه للمسمّى، ولا يحمل معه معنى جديداً في كل مرة يستضيفه فيها أحدهم.
في الغربة تترك ما يحمله الاسم خلفك، إن لم يكن إسلامياً بوضوح: تتركه لتتحرر، فتضيع في عالم بلا أسماء: لتعيش واقعاً لا تصيده اللغة ولا تحكمه ولا تعقله.
…
أخبرتني طالبة درّستها اللغة العربية قبل سنوات أنها تخاف من الفيس بوك. تتمنى لو تشجعت، لو كتبت ما يدور في ذهنها كل يوم، ولكنها لا تجرؤ على ذلك.
تفضل أن تملأ الإنستغرام بصورها: هكذا، بدون كلمات أو تعليقات، صور كثيرة تقول ما لا يُقال بالكلمات.
أتمنى لو امتلكت شجاعتها، ووضعت صوري على حساب الإنستغرام ببساطة.
…
مات كافكا قبل أن ينهي رواية “أمريكا”، تلك البلد التي لم يرها قط.
بعد قراءة الرواية، لا يستطيع المرء ألا يسال نفسه: أليست الرواية مكتملة كما هي، بدون نهاية؟
….
لا تعرف حقيقة البطيخة، جوهرها، معدنها، إلا عندما تذبحها؛ ولا عودة بعد ذلك، لا تراجع: ذُبحت وسال دمها. تأكلها كلها أو ترميها جانباً، بحسب الجوهر المصون المكنون: حمراء أم وردية أم بيضاء.
كانت شيمبورسكا تسأل نفسها عن كينونة البصلة: طبقات فوق طبقات فوق طبقات، ولا جوهر صلب تمسكه، لا بذرة. يبدو أن تفسير قصيدتها البصلية هو التالي: كانت تخشى أن يكون البشر مثل البصل، أو، ربما، كانت تعتقد أنهم حقاً بصليون.
لا أتفق مع شاعرتي المفضلة: لا يشبه البشر البصل، بل البطيخ. لكل شخص جوهر عميق، لا يمكن الوصول إليه إلا في الملمات، أو العِشرة الطويلة الحميمة: القشرة الصلبة لا تخبرك أبداً عن الجوهر.