السينما السورية بفئاتها المختلفة تحضر بقوة في الدورة الثانية من مهرجان الجونة السينمائي، ومع غياب فريق عمل بعض تلك الأفلام بسبب عدم الحصول على تأشيرة دخول إلى مصر لأسباب غير معروفة، وتحتار بسببها لأنك من السهل رؤية ممثلين وصحافيين سورين متواجدين أيضاً في المهرجان ذاته، ذلك الغياب تم ترجمته من خلال خطاب قدمته المخرجة السورية سؤدد كعدان صاحبة الفيلم الروائي الطويل “يوم أضعت ظلي” المشارك في المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة، وقرأته بالنيابة عنها المخرجة التونسية كوثر بن هنية، وكان ختام بيانها هو الرسالة الأقوى بحيث قالت “من حقنا كسوريين أن نسافر ونقدم أفلامنا في البلاد العربية على الأقل، إذا لم يستطع فريق عمل فيلم فائز في فينسيا الدخول إلى مصر، كيف يستطيع للسوري أن يزور بلداً عربياً” في المقابل ينافس في مسابقة الفيلم الوثائقي الفيلم الوثائقي الثاني للمخرج السوري طلال ديركي، الذي يحمل عنوان “عن الآباء و الأبناء” والذي من الواضح أنه أشبه بجزء ثان لفيلمه الأول “العودة إلى حمص” الذي خلق نوعاً من الحيرة في تحديد ما تؤول اليه حكاية الفيلم، لكن من شاهد فيلمه الأول ويعرف ديركي همّه السينمائي في نقل ما يحدث في سوريا، يدرك تماماً أنه يريد أن يحكي عن كل ما له علاقة بما تسبب به النظام السوري، ولو كان هذا الشيء على شكل لحى طويلة تؤسس لجيل يحمل السلاح تحت راية الجهاد، وليس الثورة.
“الحبل السري”
ومن ناحية أخرى يظهر اسم الليث حجو صاحب التاريخ الطويل في صناعة الدراما التلفزيونية، ينافس فيلمُه القصير الذي يحمل عنوان “الحبل السري” في مسابقة الأفلام القصيرة. هذا الفيلم -الذي سنبدأ الحديث عنه قبل العودة إلى الفيلمين السابقين- حمل صدمة لطيفة لفيلم مصنوع بعناية وذكاء، مكتمل العناصر، بين صورة مرئية وحضور في التمثيل والأداء، إضافة إلى حبكة تستطيع أن تجذبك في 20 دقيقة وتكفل أن تخرج من الفيلم وأنت تحمل ابتسامة نصر المشهد الأخير حتى لو كان ذلك المشهد بين قتل ودمار وسلاح قناص موجّه لكل شيء يتحرك ولو كان على شكل رغيف خبز.
الفيلم يأخذك إلى سوريا، في مشهد مألوف لدمار مدينة كاملة، تتعرف من خلالها على ندى التي تحمل طفلاً في بطنها، وزوجها، ونرى حبلاً مربوطاً بين شرفات البيوت لنقل الأغذية بين الجيران في حضرة القناص. ترصد من خلال تلك الدقائق القليلة، حكاية يأس على الوجوه، وخوف، وقلق، وحرمان حتى من نفَس سيجارة، يتم صناعتها من ورق العنب. تفاصيل دقيقة في شريط قصير، تلمس من خلاله كل شخصية ظهرت فيه ولو بلمحة كفيلة أن تنقل حالة السوري في حضرة الحرب، وفي الفيلم تلمسها في حضرة قناص لم يستمع إلى أنين زوج يترجاه أن لا يقتله وهو ينقل زوجته التي جاءها المخاض فجأة، لكن القناص لا يأبه لصراخة ولا صراخ الجيران، فيقرر الزوج أن يقوم بمهمة توليد زوجته بناء على تعليمات جارته.
“عن الآباء و الأبناء”
أما بالنسبة للوثائقي الطويل “عن الآباء و الأبناء” للمخرج طلال ديركي السوري المقيم في ألمانيا، تكمن أهميته بنقل صور واقعية، من الممكن أن يراها البعض أنها تخدم نظام الأسد، لكن من يتمعن في تفاصيل حكايته يدرك أن المخرج يريد حتى ولو بشكل غير مباشر أن يقول للعالم أن هذا ما صنعه الأسد، وهذا ما آلت إليه شكل ثورة تم إجهاض حراكها السلمي.
يؤمن ديركي تماماً أن هذا الشكل لن يدوم مثله مثل الديكتاتوريات، تلمس وجعه وهو الذي أقنع عناصر من تنظيم القاعدة أنه معهم كي يعيش يومياتهم، في منزل أبى أسامة، الذي يتفنن بإطلاق أسماء قيادات إرهابية على أبنائه، تراه أباً حنوناً، متفهماً، متعاوناً، لكن أثناء تقديم ابنه قرباناً تحت راية الجهاد، يظهر الوحش في داخله، ويطغى على كل مشهد حميمي جمعه وأبناءه.
يريد ديركي إيصال خطورة تلك الشخصيات المتطرفة، وقدرتها على جذب المتلقي من خلال معاملتهم الطيبة، لكنه وبذكاء أراد للمتلقي أن ينتبه فالرجل ليس عاطفياً إلى تلك الدرجة، هو ينجب الكثير من الأبناء كي يؤسس لجيل جهادي قادم، يحمل السلاح وهو في عمر السادسة، انتبه أيها المتلقي وحاول أن تفهم ما حدث تماماً في سوريا، انتبه لظلم وقع على شعب ذنبه أنه أراد الحرية والكرامة، فتم التصدي له على شكل براميل واعتقالات وموت تحت التعذيب، وعلى شكل لحى مخيفة ومرعبة لا تتوانى أبداً عن قتل كل من يعارضها حتى لو كان جاراً.
يمنحك ديركي تلك المساحة التي لا تراها في خطابات ذات توجه واحد، هو يدرك أن الحرية لا تتجزأ، والمجرم حتى لو كان في صف المعارضة يجب أن يتم كشفه للناس لأن خطورته لا تقل عن خطورة النظام، هو يريد أن يقول أن سوريا لا تستحق كل هذا الجرم، وأن ما زال أمامها الوقت الكثير لتتخلص من كل هؤلاء، هو يدرك ضرورة تقديم سلسلة للتاريخ، بدأها مع فيلمه ”العودة إلى حمص“، والمشهد الأخير تحديداً وأنت ترى الساروت يحمل الياس معه وينتقل عبر شاحنة ترف بأعلام السوداء، هو ما يشبه مشهد النهاية في فيلمه الجديد حيث الطفل أسامة يرتدي بزته العسكرية الخاصة بداعش ويركب شاحنة بأعلام سوداء، هذا الطفل أسامة الذي يستطيع ديركي لمس تمرده على الواقع، حتى أنه في يوم كفر بالذات الإلهية حسب شقيقه، لكن ومع هذا خضع أسامة للتطرف حتى لو كان رغماً عنه.
فيلم ديركي المبهر بتقنية الصنع والتطور في طريقة إدارته، يختصر ما قاله بصوته في بداية الفيلم بأن والده علّمه في صغره، أن يكتب كوابيسه على ورقة، حتى لا تعود مجدداً، وها هو يكتب الآن أطول كابوس عاشه على الإطلاق.
“يوم أضعت ظلي”
في المقابل يقوم الفيلم الروائي الطويل “يوم أضعت ظلي” للمخرجة السورية سؤدد كعدان، على فكرة ذكية في اللعب على الظلال، هي تريد أن توصل رسالة أن عالم لا يرى سوى ظل الجيش السوري أو ظل المتطرفين، وبنَت شخصياتها الأساسية التي تتوق للحرية دون أجندات، بدون ظل، لذلك الموضوع أشبه بلعبة كشف الانتماءات من خلال تتبع ظهور الظل واختفائه، وأنت تعيش رحلة سناء التي أدت دورها بحرفية الممثلة سوسن أرشيد إلى جانب سامر إسماعيل، رحلة بحث عن جرة غاز لتضمن لأبنها الذي ينتظرها في المنزل وجبة طعام، رحلة تسبب فيها شاحنة تحمل أفراداً من جيش النظام قرروا أن يأخذوا جميع جرات الغاز التي ينتظرها طابور من البشر، لكن ثمة طفل جائع يجعل من أمه أن تخاطر وتلتحق بشاب وأخته قررا البحث عن جرة غاز في مكان أبعد، هنا تبدأ حكاية سناء مع ظلها، الذي يبدأ بالاختفاء مع كل حدث في الفيلم، إلى أن ينتهي تماماً، هي شهدت الرعب على وجه السائق الذي يخبئ في صندوق سيارته كاميرا قال أنها تنقل الحقيقة، وهو يهرب من حاجز، وشهدت رعب كل شخصية حضرت في الفيلم، سواء معتقلة سابقة، أو عنصر من الجيش، أو وجوه في منزل إسلامي.
تجري أحداث الفيلم في 2012، تدرك معها أن من فقد ظله وهو الأصدق لا يأبه العالم له، بل يرى فقط من ساهم في دمار سوريا سواء على شكل جيش نظلم، أو على شكل لحى استغلت شغف كل من نادى بالحرية، تدرك ذلك عندما توفي الشاب الذي أدى دوره سامر إسماعيل، بعد حالة إنسانية عميقة عاشتها معه، وتدرك الحلم في صوت شقيقته المتحررة وهي تطلب من الشخصية الإسلامية في الفيلم أن ترافقه للمظاهرة لثقتها أن ما يجمعهما واحد، وتعي ما حدث عندما تعود سناء إلى طفلها بسيارة الإسلامي الذي استقبلهم في منزله، وتنظر إليه لتتأكد أن لا ظل له، ويكون العكس فظله واضح مثل ظل عناصر الجيش السوري، هنا فقط أرادت كعدان من خلال شريطها أن تلفت الانتباه إلى من لا ظل لهم، إلى الذين لم يسمع صوتهم أحد، تنهيه في مشهد اللقاء بين سناء وابنها، يجلسون لتناول الطعام أمام شمعة تكشف أنها باتت هي الأخرى بدون ظل بعد أن لمست طعم الحقيقة، تزامن ذلك مع وقع خطوات عديدة لجيش النظام تعي كمتلقي أنه جاء ليعتقلها، تنظر إلى ابنها و تقول له: ”لا تخاف“.
لا شك أن المواضيع متنوعة، لكنها تجتمع على تقديم وجهات نظر تنقل وجهاً واحداً لمن تسبب بكل هذا الموت، تنقل شكل السوري في حضرة علاقته ووطنه الذي يراه كل يوم وهو يهدم، تلمس الوجع من خلال نص ومن خلال أداء ومن خلال تساؤلات عديدة، على ما يبدو أن السينما وحدها القادرة على البحث عن إجابات لها.