القيصر الأحمر
قبل ذيوع شهرته الثورية بصفته الرجل الحديدي أو الذراع اليمنى للينين، كان جوزف جوغاشفيلي قد بدأ مسيرته شاعراً رومانتيكياً واعداً، وُلِد ونشأ في مدينة غوري التي كان نصف سكانها جورجيين والنصف الآخر من الأرمن. كانت أمه تناديه “سوسو”، وانتقلت معه إلى تفليسي (تبليسي، عاصمة جورجيا الحالية)، حيث خالط الفتى المراهق في الأسواق باعة الماء والباعة الجوّالين والعتّالين والنشّالين واللصوص الذين يعرضون مسروقاتهم المنهوبة من أرمينيا، وشاهد قوافل الجمال والحمير المحملة بالحرير والتوابل الآتية من بلاد فارس، والفواكه والنبيذ من ريف جورجيا. كان “سوسو” المراهق قارئاً نهماً للأدب، يلتهم كتب إيميل زولا وفكتور هوغو وتولستوي، ولم يكمل دراسته. نشر قصائده الأولى بعمر السبعة عشر عاماً، تحت اسم مستعار هو “سوسيلو”، وكانت زاخرة بصور الأقمار والجبال والقيثارات. خمسٌ من هذه القصائد نشرها الأمير إيليا شافشافادزه، الشاعر الجورجي الأبرز في القرن التاسع عشر. كان شافشافادزه قومياً رومانتيكياً، وهو من أطلق على “سوسيلو” لقباً طارت شهرته فيما بعد: “القوقازي ذو العينين النارّيتين”.
بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وفتح ملفّات الأرشيف السرّي، تبيّن أن جوزف “سوسيلو” قد عاشر خمس عشرة عشيقة خلال عشرين سنة بعد وفاة زوجته سنة 1907، التقى بعضهنّ في منفاه السيبيري أثناء الحرب العالمية الأولى، وإذا كان هذا الرقم صغيراً في جو “الحرية الثورية” المتاحة و “لا يرقى إلى مصاف” زير نساء حقيقي، فذاك لأنه لم يكن يضع النساء على رأس أولوياته، إذ كنّ يأتين بعد الثورة والأنا الأعظم والمشاغل الفكرية والعشاءات التي يشرب فيها الكثير من الفودكا مع أصدقائه الرجال. إحدى هؤلاء العشيقات، وهي لودميلا ستال، ألهمته اسمه المستعار الثاني: “ستالين”.
العاطفيّون
يجمع لسان العرب في جذر واحد بين كلمتي “الصواب” و “المصيبة”، قلتُ لنفسي وأنا أنقل إلى العربية ما كتبته سيمون فايل: “ما أندر التعبير الصائب عن المصيبة”، وظنّي إن الشعوب المنكوبة في العالم الثالث تشاطر الروس جزءاً من الحصة المخصصة لهم من الأفكار المسبقة في أوروبا الغربية وأمريكا، ولنتذكر هنا مثالاً عن تداعيات صفة “روسية” في العالم العربي المعاصر، قدّمته ألكسندرا شريتح في روايتها “علي وأمّه الروسية”.
حين ألقت سفيتلانا ألكسييفتش محاضرتها “تاريخ الروح الروسية-السوفييتية” في جامعة أكسفورد حزيران 2016، استقبلت كلماتها بتلميحات ساخرة عديدة في الصحافة الإنكليزية، بيسارها ويمينها على السواء. أحد الصحفيين الإنكليز أبدى غثيانه من قصص العذاب الطويل وهو يقلّب صفحات كتبها، وكأنها جارةٌ تدوّن “فضفضة” جارتها، واستغرب الاكتشاف المباغت لأهمية النقود لدى كتّاب روس كثيرين تخلّصوا من الكتب التي خيّبت آمالهم ورموها إلى المزبلة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، فتراكمت مجلدات غوركي وماياكوفسكي عند حاويات القمامة، وامتلأت مكابس إعادة تدوير الورق بعدد هائل من نسخ الأعمال الكاملة للينين، وبين ليلة وضحاها تحول شيوعيون سابقون إلى كهنة أو “تجّار شنطة”. ثمة صحفي إنكليزي آخر ألمح إلى ما قالته ألكسييفتش عن “الحرية وفق جلالة الملكة “استهلاك”” بعد استرجاعها قصص النساء اللواتي قابلتهنّ وبكت معهنّ ذكريات الماضي السوفييتي، إذ تعذّبن “من دون أن يتحوّل عذابهنّ إلى حرية”. قد لا تبدو مثل تلك السخرية غريبة لدى عموم المستمعين في أوروبا الغربية، وأحسب أن هناك تاريخاً حافلاً من الاستخفاف بالروس “العاطفيين”، المؤمنين بالقدَر، المجاهرين بمشاعرهم الجياشة، المأخوذين بالكلام النابع من القلب، الفلاحين الأجلاف وعتاة السكارى، يضاف إليهم طبعاً أولئك السذّج الذين يحنّون إلى العهد الشيوعيّ، وهم يغنون حول طاولات مطابخهم أغنيات فلاديمير فيسوتسكي أو يستقبلون ضيفاً أتى في الثانية ليلاً ليستعير كتاباً.
يبقى صوت ألكسييفتش فريداً في الحقول الملغومة للتاريخ الشفوي، أياً كان تصنيف كتبها، سواء أكانت أدباً تسجيلياً أم تقريراً صحافياً. عماد أعمالها كلها هو الآخرون وعذاباتهم، وإن كانت تخفي عن القارئ أيّ الأسئلة طرحت على المحاوَرين والمحاوَرات وكيف اختارتهم ولماذا، وهل راجعوا النصوص بعد تدوينها. وإثر سابقة فوزها بجائزة نوبل للآداب سنة 2015، ذكرت إن أحد المصادر الأساسية التي ألهمتها في الكتابة هو الكاتب البيلاروسي أليس أداموفيتش، ولأن أحداً لم يسمع بالأخير في الغرب، فقد أضافت اسم كلود لانزمان، ونوّهت خصوصاً بعمله “المحرقة”. ألكسييفتش، البيلاروسية الأوكرانية، تكتب بالروسية، واختارت في معظم كتبها أصواتاً سوفييتية، وهي تدرك جيداً معنى صفة “سوفييتية” وتحولها أحياناً إلى نوع من “الوصمة”. تتذكر كيف كان والدها معلّم المدرسة يبكي فتيان الزنك، أي الجنود السوفييت الشبان القتلى في غزو أفغانستان وهم يُرسلون داخل توابيت من الزنك إلى قبورهم في تراب الوطن، فقالت له: “كلّنا قتلة”. صادف شبابُ ألكسييفتش مرحلةَ البيروسترويكا، ومعظم اللواتي قابلتهنّ يشبهنها من حيث إيمانهن باليوتوبيا السوفييتية وإمكانية إصلاحها. ولكن ما أخطر ظهور المخلّصين في غير أوانهم، وما أكثر الحروب التي بدأت بالإنقاذ وانتهت بأشنع الكوابيس.
أيّهما أوّلاً؟
حين استرجعتُ جانباً من الصورة المحتملة للروس في أوروبا الغربية، أو بالأحرى “روسيا” بين الكاريكاتير والكابوس، أرض الشساعة المحيّرة المضحكة المخيفة، المتأهبّة لابتلاع أوروبا واليابان، تذكرتُ كتاباً صغيراً لتوماس مان عنوانه “غوته وتولستوي”، يسترجع في مقدمته ما قاله نيتشه إن الألمان لا يحسنون استخدام حروف العطف. جاء في هذا الكتيّب ما يلي:
استأجر طالب جامعيّ وزميله غرفة تطل على حديقة منزل غوته. ذات يوم تسلّل الشابان، وتواريا بين الأشجار ليلتقيا بالكاتب الشهير، وحين لاح لهما واقترب منهما، ارتبكا ولم يجدا ما يجيبان به على سؤاله: “ماذا تفعلان هنا؟” أوصاهما بالانصراف إلى ما هو أهمّ، واكتفى بنصحهما الالتفات إلى دراستهما. أحد هذين الشابين صار أستاذاً جامعياً في اللغات الرومانسية. وفي أحد الأيام، انتبه خلال درس من دروسه إلى رجل يكبر طلبته الصغار عمراً وينصت إليه باهتمام. وعند انتهاء المحاضرة طلب منه الأوراق لينسخها ويعيدها إليه في الغد. كان هذا الطالب هو الكونت ليف تولستوي.
إذلال الشر
الكتب المترجمة لدى الدارين الغابرتين رادوغا (قوس قزح) والتقدم، مألوفة لدى قراء الأدب الروسي باللغة العربية. بالطبع، كانت تلك السلاسل الممتازة خاضعة للرقابة السوفييتية. لا أذكر مصادفة أسماء مثل بلاتونوف أو دولاتوف أو شالاموف، كما تأخرنا في التعرف إلى فاسيلي غروسمان وأوسيب ماندلشتام وإسحاق بابل وميخائيل بولغاكوف وجوزف برودسكي… القائمة طويلة، ونكاد نجهل الغالبية الساحقة من أسمائها.
كانت المفاجأة حين اكتشفنا اسماً آخر لم نسمع به، ألكسييفتش التي كرّست كتبها للمنسيين وقصص المعذّبين المطرودين من سجلات التاريخ، لكني سأعود هنا إلى مثال آخر معروف تبنّاه الإعلام الغربي وروّجه أيام الحرب الباردة.
حوكم جوزف برودسكي بتهمة الطفيلية الاجتماعية وتهم أخرى سنة 1961، قبل نفيه إلى معسكرات الأعمال الشاقة في سيبيريا، وقد سأله القاضي عن مهنته فأجاب: “شاعر ومترجم”، وحين سأله القاضي: “ومَن قرّر أنّك شاعر؟ مَن صنّفك بين الشعراء؟” أجاب: “لا أحد، ومَن صنّفك بين البشر؟”
يقول برودسكي إن الخيبة جزء من الوجود لدى المنفيين، ويسترجع في منفاه سنة 1982 هذه الذكرى:
قبل عشرين عاماً، في أحد السجون الروسية الشمالية، وقعت هذه الحادثة. في الساعة السابعة صباحاً، انفتح الباب ودخل المسؤول عن السجن متوجهاً بحديثه الى المعتقلين:
“أيها المواطنون! إدارة الأمن الوطني تدعوكم إلى المشاركة في المسابقة الاشتراكية لتقطيع الخشب المتراكم في الباحةالخلفية”…
لم تكن هناك تدفئة مركزية في تلك الأنحاء الشمالية البعيدة، وكانت وزارة الداخلية تعمد إلى استقطاع ضريبة من الجهات المنتجة للخشب تعادل نسبة عشرة في المئة من الإنتاج. وفي ذلك اليوم، كانت الباحة الخلفية للسجن طافحة بقطع الخشب الضخمة المتناثرة، المتكدّسة بعضها فوق بعض. وبالتأكيد كان لا بدّ من تقطيعها. إلا أنه لم يسبق لهم تنظيم أي مسابقة من هذا النوع.
-“وماذا سيحصل إذا رفضتُ المشاركة في المسابقة؟” سأل أحد المعتقلين.
-“ستبقى من دون طعام”، أجابه المسؤول.
جرى توزيع الفؤوس وبدأ العمل. انطلق المعتقلون والحرّاس يعملون وهم متحمّسون. وعند الظهيرة انهار معظمهم تعباً وجوعاً. أعلنوا عن استراحة الغداء. جلس الجميع لتناول الوجبة، ما عدا ذلك المعتقل الذي احتجّ مستفسراً عن المسابقة. استمرّ في تقطيع الخشب ولم يتوقف. بدأ الجالسون يتندّرون ويعلّقون ساخرين، وكان بعض التعليقات لاذعاً: “انظروا! يقولون إن اليهود ماكرون، ولكن انظروا إليه…” وبعد وقت قصير، استؤنف العمل ولكن بحماسة أقل. عند الساعة الرابعة، تغيّر طاقم الحرس وظلّت فأس واحدة تعمل من دون هوادة. ناداه المعتقلون والحرّاس أكثر من مرة: “كفى! توقّفْ، توقف…” إلا أنه لم يكترث بنداءاتهم، وكأن العمل قد استغرقه ولم يعد قادراً على التوقّف. انقضت ساعة واثنتان وثلاث، وهو لا يزال منهمكاً بتقطيع الخشب. حملق الجميع به، وسرعان ما انقلبت ملامح الاستغراب الساخر على وجوههم إلى إعجابٍ فغضبٍ واستهجان. عند الثامنة مساء، وضع الفأس جانباً، ومتمايلا مترنّحاً، شقّ طريقه صوب زنزانته وغرق في النوم.
خلال فترة اعتقاله الطويلة، لم يعد أحد إلى فكرة تنظيم مسابقة اشتراكية لتقطيع الخشب بين الحرس والمعتقلين، أياً كانت أعداد قطع الخشب التي تصل الى باحة السجن.
ربما نجح ذلك الشابّ في تقطيع الخشب لمدة ١٢ ساعة متواصلة لأنه كان شابّاً. ولعلّ الشباب جعله يدرك الحكمة الأزلية أكثر مما أدركها تولستوي أو غاندي. “مَن أخذ رداءك فلا تمنعْهُ ثوبَك أيضاً، ومَن سخّرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين”. لا تدعو مقولة الإنجيل هذه إلى الخنوع والاستسلام وإنما هي دعوة لدفع الشرّ وتحويله إلى عبث. المغزى كامن في إذلال الشرّ.
مقتطفات من “حكايات كوليما”
واحدٌ من المآخذ التي قيلت مراراً عن أعمال ألكسييفتش هو أنها تكتب عما لم تعرفه في الواقع، وتوثّق ما لم تعِشْه، وهي تستعير تجارب الآخرين وتحوّر ذكرياتهم وقصصهم، فالفارق شاسع بين الذين عاشوا جحيم التجربة وبين الذين ينقلونها. يقول واحدٌ من الذين قابلَتْهم، وهو يتحدّث عن الأهالي الذين تنكّروا لأقربائهم السجناء: “أنا رجل بسيط. لم يمسّ ستالين بسوء الناس العاديين أمثالي”. لكن القائد العظيم وأبا الشعب قد نكّل بأعداء الشعب من رفاقه السابقين والمثقفين المنشقّين. لنعد إلى ما كتبه الشاعر فارلام شالاموف الذي اعتقل في الغولاغ، أي معسكرات الاعتقال السوفييتية التي دشّنها ستالين، وأمضى سبعة عشر عاماً في شبه جزيرة كوليما في أقاصي سيبيريا الشرقية. كتب شالاموف إن “بروست أهمّ من النوم”، فالكتب الممنوعة مثل “بحثاً عن الزمن المفقود” كانت مسموحة في الغولاغ، كأن “السلطات كانت تعزّي السجناء في ما تبقى أمامهم من الدرب الطويل الذي قطعوه”. نتذكر طبعاً إن السجون السورية، في الثمانينيات والتسعينيات، كانت أكاديميات الأسد الاشتراكية لتخريج المثقفين.
هنا بعض مما رآه وشهده وفهمه شالاموف في الغولاغ:
– هشاشة الثقافة الإنسانية.
– تحوّل الإنسان إلى حيوان بعد ثلاثة أسابيع، في ظلّ الأعمال الشاقة والجوع والبرد والتعذيب.
– لا تُولَد الصداقة أبداً في الظروف الصعبة، المستحيلة في قسوتها. تولد الصداقة في الظروف الصعبة ولكن الممكنة.
– رأيتُ أن أول المستسلمين والمتبرّئين هم الأعضاء الحزبيون والعسكريون.
– فهمتُ لماذا لا يعيش الإنسان وعنده أمل، لأن الآمال لا وجود لها. إنه لا يحيا بالإرادة (عن أيّ إرادة نتكلم؟) بل بالغريزة وحدها، غريزة البقاء والدفاع عن النفس. مثل الشجرة، الحيوان، الحجر.
– اكتشفتُ أن قوتي الجسدية والروحية أشدّ مما ظننت.
– خلال هذه التجربة لم أخُنْ أحداً ولم أرسل أحداً إلى الموت ولم أكتب تقريراً عن أحد.
– رأيتُ أن النساء أقوى وأكثر شجاعة من الرجال. لم أرَ رجلاً لحق بزوجته، ورأيتُ نساء كثيرات لحقْنَ بأزواجهنّ…
– رأيتُ أن الروس شعب لديه ميول قوية نحو التذمّر والشكوى.
– فهمتُ أن العالم ينبغي تقسيمه إلى جبان وشجاع. 95% من الجبناء، وتحت تأثير أي تهديد مهما كان صغيراً، مستعدّون لارتكاب أفعال خسيسة مميتة.
– تعلمتُ أن أخطّط ليوم واحد فقط لا أكثر.
– فهمتُ أن مَن يسرق ليس إنساناً.
– فهمتُ أولئك الذين يقفون في الصفوف الخلفية، أولئك الذين يكرههم الجميع، المرضى، الضعفاء، أولئك العاجزين عن الركض حين يكون البرد قارساً.
– فهمتُ أن الانتقال من حالة المعتقل إلى حالة المفرَج عنه أمرٌ في منتهى الصعوبة، يكاد يكون مستحيلاً.
يتذكر شالاموف آنا أخماتوفا التي كانت تردّد: “كم أودّ الذهاب إلى باريس. هذا الحلم يراودني دائماً”. فأجابها ذات مرة: “ومَن يمنعك؟ بعد لندن، اذهبي إلى باريس يومين”. فقالت: “ماذا تقصد بمن يمنعني؟ هل مثل هذا السفر مسموح؟ لقد لازمتُ السفارة في إيطاليا، خوفاً من أيّ مفاجأة ليست بالحسبان”. يقول شالاموف إن أخماتوفا كانت تكرّر هذه الحماقات، لا لأنها كانت تفكّر “لن يسمحوا لي بالسفر في المرة القادمة”، فالمرء لا ينتظر طويلاً “مرة قادمة” حين يتجاوز عمره السبعين عاماً، وإنما لأنها، أي أخماتوفا، كانت قد فقدت المقدرة على التفكير بطريقة مختلفة.
الابن المأكول
في كلامٍ قد يذكّرنا بزياد الرحباني، تقول إحدى الشخصيات الذين قابلتهم ألكسييفتش: “الفوضى كبيرة. نحن بحاجة إلى ستالين”. مرة أخرى سأعود إلى أضحية معروفة من أضاحي الرجل الحديدي.
في ليلة ربيعية عام 1939، قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، داهمت الشرطة السرية منزل إسحاق بابل في موسكو، واعتقلت معه مخطوطاته التي أتلفت لاحقاً، وكان بينها قصص غير مكتملة ومسرحيات وترجمات وسيناريوهات أفلام قديمة صامتة. بعد أيامٍ وليالٍ في جحيم التحقيق، اعترف للمحققين بتهمة التجسّس الملفّقة ضده. أمضى شهوراً في السجن. وسنة 1940 اقتيد إلى حتفه وأعدم رمياً بالرصاص، وكان رجاؤه الأخير على منصّة الموت: “دعوني أنهي عملي”. ومَن سيكترث بموت كاتب سجين بينما رحى الحرب الكبرى تطحن أوروبا كلها؟ أعدم الرقباءُ اسمه أيضاً، فحُذف من السجلات والدوائر الأدبية، ومُنعت كتبه مثلما منع صاحبها من السفر في سنواته الأخيرة التي رفض خلالها أن يغادر موسكو.
عاش بابل طفولته وصباه في مدينة الأوديسة حيث شهد المجزرة التي ارتكبتها قوات القيصر؛ كتب القاصّ الجائع إلى الحياة قصصه الأولى عن قطاع الطرق واللصوص، رافق سائقي العربات والمومسات والمهرّجين، ووصف الفلاحين والجنود والكهنة والأحبار والأطفال والفنانين والممثلين والنساء من كافة الطبقات، وعرف الإفلاس والفقر. جازف بالانتقال إلى بطرسبورغ ليقيم قريباً من صديقه مكسيم غوركي، حين كانت إقامة اليهود أمثاله محظورة في هذه المدينة. ولما اندلعت ثورة أكتوبر 1917، انضمّ إلى صفوفها مثل كتاب وشعراء كثيرين، فقد تلاشت الرقابة وازدهرت الوعود. سنة 1920، ذهب بابل إلى بولونيا كمراسل حربي، خيّالاً رافق فوج الفرسان الحمر الذين عبروا الحدود لينقلوا في حملاتهم أمجاد الشيوعية إلى القرى البولونية العاصية. هذه الرحلة أعادت بابل إلى واقع آخر، فكتب في يومياته: “كلهم يقولون إننا نقاتل من أجل العدالة، وكلهم مأخوذون بالغنائم. قتلة. شيء لا يطاق. الوضاعة والجريمة… المجزرة. كنا أنا والآمر العسكري نسير بين السكك على ظهر جوادينا، متوسّلين إلى الرجال كي لا يذبحوا السجناء” (لنتذكر هنا ما قالته ألكسييفتش في كلمة تسلّمها جائزة نوبل للآداب، حين ذكرت نساء روسيات من “زوجات الجبهة” شهدْنَ اغتصابَ الرفاقِ الروس لنساء ألمانيات في الحرب العالمية الثانية، ثم عاونتِ الروسياتُ الصامتات الألمانياتِ الباكيات ليغتسلن وواسينهنّ: “إن هؤلاء النساء هنّ التعبير الأسمى عن المثال الشيوعي: أسمى من الثورة ولينين”).
بعد ست سنوات من تلك الرحلة إلى بولونيا، نشر إسحاق بابل عمله القصصي الأشهر “الفرسان الحمر”. لم يكن أسلوبه في غنائيته وسرياليته، في مزيج السخرية والعنف، ملائماً لمقاييس الواقعية الاشتراكية، بينما كانت الرقابة الستالينية قد وطّدت أطنابها في كل مكان. لازم بابل موسكو، وبات مقلاً في النشر، فاتُهم بالصمت، هو المسكون بالكتابة عما يقال ويعاش في الرعب.
نثرُ بابل الصافي بعيد عن اضطرابات حياته وفوضاها وعذاباتها ومغامراتها. كان يقول إنه مثل بوشكين يطارد “الدقة والإيجاز”، إذْ “ما من نصلٍ بمستطاعه النفاذ في قلب إنسان، ذاك النفاذ الجليدي، مثل النقطة الموضوعة في مكانها الصحيح”. هذه الرهافة اللغوية سبقها انخراط الكاتب الفعلي في البروباغندا الثورية؛ كان قد كتب في شبابه: “اذبحوهم يا مقاتلي الجيش الأحمر! دوسوا أغطيةَ توابيتهم العفنة إذا علَتْ رؤوسهم!” شيئاً فشيئاً تفاقم ارتيابه بالكثير من الأفكار التي كان قد اعتنقها، وتبدّد العديد من أوهامه، ثم حلّ النفور والاشمئزاز والصمت، إلى أن التهمت الثورة الحمراء ابنها الذي خاضها وذاد عنها.
لكن الأدب أبقى أحياناً، والخيال طريقٌ من طرق الخلاص القليلة. يظهر إسحاق بابل في رواية “الكاتب الشبح” لفيليب روث، ونراه “خيّالاً يمشّط شعره وعرفَ حصانه بالمشط نفسه”. عاد خورخي لويس بورخيس، في قصته “المعجزة السرية”، إلى كلمات بابل الأخيرة على منصة الإعدام. قد نرى في هذه القصة أشباح الإبادتين النازية والستالينية، حين يعتقل جنود الرايخ الثالث الكاتب اليهودي يارومير هلاديك في براغ ويحكم عليه بالإعدام، وليلة تنفيذ الحكم يدعو الكاتب ربّه أن يمهله عاماً واحداً كي ينهي مسرحيته “الأعداء” التي لم يكتب منها سوى فصلين اثنين، فيستجيب الربّ لدعائه. صبيحة اليوم التالي، أمام فرقة الموت، لحظة صاح الآمر “نار!”، يتوقف الزمن عن الجريان ويتجمّد كل شيء باقياً على حاله إياها، فيعي هلاديك أن الربّ قد وهبه سنة كاملة تكثّفتْ في لحظة واحدة لكي ينهي كتابة مسرحيته داخل رأسه، وقبل إضافة اللمسة أو الكلمة الأخيرة في عمله تدركه الطلقات ويموت. هذه ديمومة الأشياء من دون أن تتأثر بالزمن، وقد لا يروق مثل هذا التأويل لكثير من الماركسيين-الستالينيين أو المدافعين عن الواقعية في الأدب.