“للشعر وظيفة واحدة هي “الدفاع عن إنسانية الإنسان في هذا العالم” كما يقول الشاعر فوزنيسنسكي. والفنان المبدع هو الإنسان الصافي. وسعيه نحو النضج هو سعيه نحو هذا الصفاء… نحو أن يكون “الكل” في نفسه. أنه السعي نحو كشف الحقيقة: حقيقة نفسه… حقيقة كونه “إنسانًا” حقيقة إنسانيته، ولهذا يتساقط الكثيرون في طريق النضج.. وذلك حين ينفصل التطور الشكلي عن التطور في المضمون.. أو عندما تكون أفكارهم الجديدة ملصقة على حياتهم ولا تكون نابعة منها”*
عند بداية الثورة السورية عام 2011 وبينما كانت تتهاوى أسماء أدبية كبيرة، كان متوقع منهم موقف معبّر عن سخطهم من الواقع المتردّي في سورية قبل الثورة من خلال «التنظير» الذي لا يخلو عند بعضهم من نبرة استعلاء وفوقية، وهم يشرّحون تاريخ «التخلّف»، عند الشعوب العربية. بالمقابل كان هناك حالة من استحضار و«استدعاء» كتّاب وأدباء سوريين، أموات منهم، وأحياء، ممن يعبّر نتاجهم الأدبي والفكري، عن رفض للاستبداد، والقمع، وغياب العدالة.
والشاعر ممدوح عدوان كان من أبرز الكتّاب السوريين، ممن حضروا بنتاجهم الأدبي في السنوات التي تلت الثورة، ليس فقط في شعره، وهو الذي كانت تجربته عابرة للنوع، ليكون حاضرًا روائيًا، ومترجمًا، وباحثًا ومتأملًا.
فكتابه «حيونة الإنسان» والصادر عام 2003 ستصبح قراءته ضرورة، لفهم آليات القمع، التي تمارسها السلطة المستبدة، على المجتمع والفرد. وكان قد سبقه كتاب من ترجمته وهو «التعذيب عبر العصور» لبرناديت ج هروود.
أتى كتاب «خارجي قبل الأوان – ممدوح عدوان – قصائد» اختيار وتقديم: صبحي حديدي، والصادر عن دار ممدوح عدوان للنشر عام2017، في أوانه ربما. إذ أن الناقد السوري صبحي حديدي أراد بهذا الكتاب أن يُلقي الضوء على التناص الذي يجري ما بين نصوص وكتابات عدوان، والاحتجاجات، وردّ فعل السلطة عليها في السنوات الأخيرة، وفي معرض كلامه في مقدمة الكتاب عن كتاب آخر هو «حيونة الإنسان»، يقول حديدي: “… وثمة فصل بعنوان «السلبطة السلطوية»، كتب قبل اندلاع الانتفاضات العربية، لكنه بعدها اكتسب دلالات بالغة الخصوصية، لأنه ببساطة أثار شخصية «البلطجي» و«الشبّيح»، وأدوار كلّ منهما في تحريك آلة القمع، ورسم لكلّ منهما قسمات مفصّلة جعلت المقالة معاصرة تمامًا، تكاد تصف بدّقة عالية ما فعله «البلطجية» في مصر، وما فعله ويفعله «الشبيحة» في سورية”.
لكن، الكتاب لا يستحضر عدوان بزخم إنتاجه الأدبي، العابر للنوع، كما أشرنا أعلاه فحسب، بل بتجربته الشعرية، والتي لوحدها، من الممكن، أن تكشف عن شاعر متفرد؛ كانت قصيدته دائمًا كاشفة وحاضرة، لتشتبك مع المناخ السياسي، والاجتماعي، في سورية، وترى الواقع وتحولاته وأزماته بعين بصيرة.
يشير صبحي حديدي في ختام مقدمته، بأن ما اختاره من قصائد “قد نهض على مزيج من ذائقة شخصية” ويوضح أيضًا أن اختيار قصائد دون سواها “خضع لعامل تقني محدد: أي الاستعاضة عن القصائد الطويلة، لصالح تلك المتوسطة أو القصيرة، وذلك لإفساح المجال أمام عدد أكبر من النصوص المعبّرة عن التجربة، وبما يتناسب مع الحجم المقترح للمختارات”.
وبالفعل ساعد هذا العامل التقني في الاختيار، أن يسمح للقارئ أن يقرأ قصيدتين أو ثلاث، وأحيانًا أربع قصائد، من كل ديوان لممدوح عدوان، بدءاً من ديوانه البكر «الظل الأخضر» 1967، حتى ديوانه الأخير «حياة متناثرة» 2004. لنكون أمام موضوعات مختلفة، وأشكال وأساليب متعددة أتبعها عدوان في شعره، وبالأخص القصائد التي ترمز إلى الواقع السياسي، أو تحيل لمآلاته المأساوية. فنرى في قصيدة يرثي فيها الشاعر نهر بردى يقول:
“في كل مجرىً جفّفوه، وجرّبوا بالسرّ إحراقه
حقنوه بالأقذار، دسّوا فيه ذاكرة بلا ذكرى
دسّوا عليه هوية أخرى
قنّوه في باحاتهم
وتسامروا ليلاً على أنّاته
غسلوا به الأقدام والمخدع
وتداولوه فقطّعوه وأرجعوا الأشلاء للمجرى”
سيشير صبحي حديدي أيضًا في معرض مقدمته إلى ما سماه “ميل عدوان الدائم إلى «تسييس» موضوعات قصائده”، فيقول: “أن جماليات القصيدة عند عدوان ليست، البتة، مترفعة عن هواجس السياسية، أو الاجتماع السياسي في معنى أدقّ؛ ابتداءً من مختلف أزمات الحياة اليومية، مرورًا بمشكلات الحرّية والتحرّر والتحزّب والانحياز، وليس انتهاءً بالقضايا الكبرى المحلية والوطنية والكونية.”
في قصيدة «النسر» من ديوان «كتابة الموت»، هناك اشتغال على الكتابة الرمزية، فـ«النسر» في هذه القصيدة، إشارة واضحة إلى «الرئيس» الديكتاتور. وهنا مقطع من القصيدة:
“بغتة رف جنحيه،
ضاق به البيت
حوّل كل أثاثٍ لدينا حطام
صار عبئًا ثقيلًا علينا
وفي بيتنا صرت أشكو الزحام
سقفنا واطئ
والفضاءات ما بين جدرانه ضيّقه
وهو لا يدخل القفص المقتنى لينام
وهو حين يرى كارهًا
لا يداري
فيفضحنا…”
وفي قصيدة «لا بدّ من التفاصيل»، والتي تبدأ بجملة “إلى أمل دنقل بلا مناسبة”، تكون النبرة السياسية أعلى. وإعادة تعريف معنى الوطن/السجن/السجان/الجهاد، في لغة ترثي تارة، وتسخر سخرية سوداء تارة أخرى، كأن يقول عدوان:
“هذا وطن الفقراءْ
هذا وطنٌ عادَ
لكي يغسل يُتمَ الأبناءْ
قلنا: نفتح بابَ جهادٍ
كي نلجَ الوطنَ
فيورق تحت ظلال سيوف الشهداءْ
عشر سنين نزرع فيه ونتعبْ
نشقى
وتكون حصيلتنا طحلبْ
نزرعه ليلًا
يحصده الجابي للوالي
“قبل صياح الديكْ
هناك إشارة واضحة لفساد الدولة، وازدهار طبقة اجتماعية معينة على حساب انهيار باقي شرائح المجتمع في سورية، وهذا الطبقة التي تضم أيضًا رجالًا في الدولة، والتجار المستفيدين من الوضع القائم، التي يرمز لها عدوان بمقطع من قصيدة بحي أبو رمانة الراقي في دمشق، والذي لا يبعد كثيرًا من مقر القصر الجمهوري في دمشق، فيقول:
“عشر سنين
لم يتوسّع فيك سوى جرح وخيانهْ
لم تزدَدْ إلا أسعارُ الخبز،
وأسباب الخوفْ
لم يزدَدْ غير بهاءِ (أبي رمّانهْ)
لم نضمن في أزمة هذا السكن الخانِق
إلا أن صار لكل منا زنزانهْ”
وإذا عدنا لمقدمة ديوان «لا بد من التفاصيل» 1981، والتي هي أشبه ببيان ثوري غاضب، تستحق الوقوف عندها، والتي أعيد نشرها في كتاب ممدوح عدوان «دفاعًا عن الجنون – مقدمات» سنجد أنه عنون تلك المقدمة بـ«لا بد من الشعر» يقول في مطلعها: “ولماذا الشعر الآن؟! نحن نعيش في عصر الخيانات والمؤامرات والاغتيالات. نلهث عبر أربع وعشرين ساعة مزدحمة قاتلة في إطار من الزمن الممطوط المهمل الذي لا يعطي أية أهمية لحياتنا كلها. نعيش دوامات ومتاهات واستلابات. نعيش القهر والخوف والجوع. فلماذا الشعر الآن؟!… » بالطبع هنا عدوان يتحدث ساخرًا من خطاب السلطة وتفريغها لمعنى الأدب والثقافة، والتقليل من أهميتهما، في زمن “المؤامرات”. في المقطع الثاني سيجيب عدوان عن هذا التساؤل: “هم ليسوا مهتمين بتثقيف الناس… هم لا يريدون أن يتعمق وعي الناس، ولا يريدون أن تكون حساسية الناس مرهفة مشحوذة لأنهم لا يريدون شعبًا مساهمًا ومتسائلًا. بل يريدون رعية تابعة.”
وإذا كان طموح كتاب «خارجي قبل الأوان»، هو دفع القارئ لقراءة شعر ممدوح عدوان، إنما يتحول إلى فاتحة لقراءة تجربة ممدوح عدوان ككل، إذ أنه جعل، بشكل من الأشكال، تجربته بأكثر من حقل معرفي، عصية على التجزئة. وبالأخص عند قراءة المقدمة الشاملة التي قدم فيها صبحي حديدي المختارات، والتي تساءل فيها: “هل من الممكن تخيّل المشهد الأدبي السوري المعاصر، بدون هذا الرجل؟”
* مقطع من مقدمة ديوان «الظل الأخضر» 1967. وأعيد نشر المقدمة في كتاب«دفاعًا عن الجنون- مقدمات» – دار ممدوح عدوان