ثلاث سنوات قضتها الشاعرة الفلسطينية، دارين طاطور (36 عاماً)، ابنة قرية الرّينة، بين السجن، والإقامة الجبرية -بشروط قاسية جدًا- في “كريات أونو” منفية عن بيتها وعائلتها مدة سبعة شهور، ومن ثم الاعتقال البيتي مع “قيد إلكتروني” (ارتداء سوار إلكتروني على كاحلها)، وحظر الدخول إلى شبكة الإنترنت.. كل ذلك بـ”تهمة” كتابة قصيدة ضد جرائم الاحتلال عنوانها “قاوم يا شعبي قاوم”، ونشرها على جدار صفحتها في موقع (فيسبوك)، وادعاء “التحريض على العنف ودعم تنظيم إرهابي” عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
ومنذ يوم اعتقالها في الحادي عشر من شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2015 من بيتها في الرّينة، وحتى يومنا هذا ودارين لا تزال تناضل في أروقة محاكم الاحتلال من أجل حقها وحريتها في التعبير عن رأيها.
“رمان” تواصلت معها لتحدثنا عن معاناتها القاسية والطويلة مع سلطات الاحتلال الجائرة من جهة، ومن جهة أخرى مع المجتمع الفلسطيني في الداخل الذي خذلها بقسوته. فكان هذا الحوار:
بداية، ماهي آخر تفاصيل محاكمتك بعد جلسة الاستئناف الأخيرة، التي كان موعدها ٢٤ الشهر الماضي، ومن قبل ما هي تفاصيل قصة القصيدة “المتهمة”؟
هذه هي المرة الثالثة التي يتم تأجيل جلسة محكمة الاستئناف، وتعتبر التأجيلات سياسة يستخدمها القضاء الإسرائيلي كوسيلة ضغط وتعذيب للفلسطيني.
في هذه المحاكمة أنا من استأنف على كل القضية وعلى الحكم الذي قضته عليّ محكمة الصلح الإسرائيلية وذلك لعدّة أسباب منها، أنني اليوم محكومة بالسجن مع وقف التنفيذ لستة شهور ولفترة ثلاث سنوات. كما أنني أستأنف على كل الإدانة فأنا اليوم مع ملف جنائي وكل جريمتي فقط أنني كتبت قصيدة.
أنا لم أسرق، لم أقتل، لم أقترف أيّ جنح سوى أني كتبت قصيدة. لقد بدأت حكاية القصيدة المتهمة في 11/10/2015 حيث تم اعتقالي الذي استمر ثلاث سنوات تنقلت خلالها من سجن إلى آخر ومن معتقل إلى آخر. وكل ما في القصيدة أبيات ترفض الاحتلال وتفضح إرهاب الحركة الصهيونية ضد أبناء شعبي الفلسطيني، قصيدة تتحدث عن الشهيد الطفل محمد أبو خضير، والشهيد الطفل علي دوابشة وعائلته، والشهيدة هديل الهشلمون.
إنها قصيدة تتحدث عن الإرهاب الصهيوني وتحولت لقصيدة متهمة ومدانة بالإرهاب!
قصتك مع سلطات الاحتلال الصهيونية بشرطتها وقضائها طويلة، وهي تعود لثلاث سنوات خلت. ما هي أبرز محطات هذه المواجهة بين شاعرة سلاحها الكلمة وكيان مدجج بأعتى أسلحة القتل والدمار؟
أبرز محطات هذه المعركة أنّ القضاء والنيابة والشرطة الإسرائيلية حاولوا طوال هذه الفترة انتزاع اعتذار مني والإفصاح أني نادمة عما فعلته، إلا أنني فضلت السجن على أن أعتذر. هنا يظهر مدى قوة الكلمة ومدى ضعفهم أمام كلمات قصيدتي.
الشيء الأكثر تراجيدية وسخرية أنني سجنت واعتقلت ونكل بي طوال هذه الفترة وتركوا القصيدة حرّة ولم يتم حذفها وهي موجودة حتى اللحظة في كل مكان، ادّعوا طوال الوقت أني والقصيدة خطر على أمن الدولة فسجنوا الجسد وتحررت القصيدة أكثر وانتشرت بكل العالم بعد أن ترجمت لعدة لغات. وتحولت قضيتي إلى قضية رأي عام فضحت على الملأ أكذوبة ديمقراطية “إسرائيل”.
ما ميز هذه الفترة أيضاً، الدعم الدولي الذي تلقيته من الفنانين من كل أنحاء العالم حتى أنهم أطلقوا مشروعاً باسم poem on trial حيث لحنوا القصيدة المتهمة وغنت بعدة لغات.
كان لهذا التضامن العالمي معي أثراً في نفسي حيث أني تلقيت زيارات خاصة من خارج البلاد لرئيسة “نادي القلم الدولي”، السيدة جينيفير كليمينت. وتعرفت أيضاً على الكثير من الشعراء والفنانين والمثقفين والناشطين من البلاد وخارجها، بالمقابل وهذا مؤسف وصادم لي أن دعم الفنانين والمثقفين والشعراء العرب والفلسطينيين كان نادراً ومحدوداً جداً.
كان أن نفذتِ حكماً بالسجن لمدة خمسة أشهر، فأيّ أثر تركه فيك الاعتقال كإنسانة وشاعرة؟
كل شيء في السجن عشته تحوّل إلى قصيدة. كتبت أكثر بالسجن، فالواقع الذي وجدت به أنني موجودة في السجن بسبب قصيدة كان محفزاً لي للكتابة أكثر، وهذا ما حصل فعلاً.
تغير كل أسلوب كتابتي فجأة بدأت أكتب عن مواضيع لم أعتقد للحظة أنني سأكتب عنها يوماً ما في حياتي.
أسألك عن أوجه معاناة وقصص الأسيرات الفلسطينيات في سجون الاحتلال، من خلال معايشتك لأوضاعهنّ وما يتعرضنّ له يومياّ من عسف وإذلال من قبل سجانيهم؟
كثيرة هي مظاهر الظلم التي عشتها في السجن، والتي يعشنها الأسيرات وأقساها عدم تلقي العلاج المناسب، خصوصاً الأسيرات اللواتي يعانينّ من إصابات وأمراض مزمنة مثل الأسيرات إسراء جعابيص، مرح بكير، أمل طقاطقة، حلوة حمامرة، وشروق دويات.
رأيت إصابتهنّ بنفسي وقمت بالعناية ببعضهنّ أيضاً بتغيير الضمادات عن جروحهنّ، كان ذلك قاسياً جداً ولكن لا مفر من ذلك لأنهنّ لا يتلقينّ العلاج، فالأسيرات من يقمنّ بمهمة الطبابة والمساعدة ضمن ما هو متوفر.
أيضاً التفتيش العاري الذي نتعرض له كأسيرات مراراً وتكراراً، ومنع المكالمات الهاتفية خصوصا للأسيرات اللواتي لا يتلقينّ زيارات عائلية، خاصة الأسيرات من غزة، فهناك أسيرة اسمها نسرين حسن أبو كميل وهي أم لثمانية أولاد لم ترَ أبناءها وزوجها منذ اعتقالها قبل ثلاث سنوات، ومدة حكمها ست سنوات.
كذلك عدم السماح بالزيارات المفتوحة بين الأمهات الأسيرات وأبنائهنّ عند الزيارة، وهل هناك أقسى من مشهد طفلة تصرخ وتبكي من وراء الزجاج تريد احتضان أمها ولا يسمح لها بفعل ذلك، لينتهي اللقاء بقبلة على الزجاج العازل للصوت والجسد. الكاميرات المشغلة طوال الوقت، السجن بحدّ ذاته ومصادرة الحرية هو الظلم.
من خلال قراءاتك، كيف تقيمينّ “أدب السجون” في فلسطين؟
أظن أنّ “أدب السجون” في فلسطين مميز عن دون كل الدول، إلا أنه برأيي ما زال قليلاً نسبة لعدد الأسرى والأسيرات في معتقلات الاحتلال. من المهم جداً توثيق تجربة الاعتقال والسجن من قبل الجميع فهذا التوثيق هو إدانة لجرائم الاحتلال.
بالعودة إلى البداية، لعلاقتك الأولى مع الكتابة، ما هي الأشياء التي حملتك إلى هذا المكان؟
حب الوطن والانتماء لهذا البلد الذي به كل المشاعر هو الذي يميز علاقتي بالكتابة، فأنا حين أتكلم عن فلسطين المغتصبة والمحتلة أشعر أنني أتحدث عن دارين، دارين وفلسطين متشابهتين جداً لدرجة لا يمكن تصورها.
هل تعتقدين أنّ الكتابة عن المحظورات في بلد يعيش تحت الاحتلال ضرورية فعلاً؟
بالطبع، لا يمكن التحرر إلا بعد انتقاد كل المحظورات وعرضها والتحدي. نحن لا نملك إلا انتاجنا الإبداعي للتعبير عن الظلم، وهذا ضروري. ووظيفة كل مبدع أن يقاوم بإنتاجه الظلم والاستبداد وسلطة الاحتلال.
برأيك ما الذي تبقى من الأدب الملتزم/المقاوم. وما هو مفهومك للالتزام في ظل اتجاه الكاتب/ة الفلسطيني/ة نحو الذات أكثر فأكثر؟
بصدق أشعر أنّ هذا النوع من الأدب يتلاشى شيئاً فشيئاً، إلا أنه لن يختفي بل سيظل هو بصمتنا الواضحة على هذا الواقع. الكاتب الذي يتنكر لواقع وطنه يتنكر لأدبه، برأيي الشعر وكل الفنون وجدوا من أجل التغيير.
من يكتب الشعر المقاوم يكتشف ذاته أكثر. أنا أجد هويتي بالشعر المقاوم، وبالشعر السياسي، لأنّ مثل هذه القصائد تحكي وجع وطني الذي أحيا به وشعبي الذي أنتمي له.
ما الذي تعملين عليه الآن؟
أعمل على إخراج كل ما كتبته في فترة السجن للنور. فقد كتبت ديوانين شعريين ورواية.
الرواية سأقوم بطباعتها بثلاث لغات (العربية والعبرية والإنجليزية) لأفضح من خلالها ممارسات الاحتلال لكل العالم.
كما أنني كتبت نصاً مسرحياً باسم «أنا، دارين طاطور» بالاشتراك مع صديقتي المخرجة والممثلة اليهودية المناهضة للاحتلال، عينات وايتسان، ويتم عرضها اليوم على مسارح في البلاد وسنمضي بها قريباً نحو الخارج لنعرضها في عدة دول أجنبية.
كما أنني وخلال الاعتقال البيتي وثقت اعتقالي بالصور، وسيتم عرض كل هذه الصور التي صورتها في معرض سميته «أنا، أسيرة رقم (9022438)».
لك الكلمة الأخيرة في هذا الحوار.
لقد حاول المحتل إخراس صوتي بتخويفي بالسجن إلا أنني أكمل نضالي بكل الفنون المتاحة لي. مؤكدة لكم أنّ لا شيء يمكن أن يخرس صوتي الفلسطيني الحر.
كلمات القصيدة “المتهمة”
في قدسي ضمدت جراحي
وبثثت همومي لله
وحملت الروح على كفي
من أجل فلسطين العربيه
لن أرضى بالحل السلمي
لن أنزل أبدا راياتي
حتى أنزلهم من وطني
أركعهم لزمان آتي
قاومهم يا شعبي قاوم
قاوم أطماع المستوطن
مزق دستورا من عار
قد حمل الذل القهار
أوقفنا عن رد الحق
***
قاومهم يا شعبي قاوم
واتبع قافلة الشهداء
قتلوا الأطفال بلا ذنب
وهديل قنصوها علنا
قتلوها في وضح نهار
ومحمد قلعوا عينيه
صلبوه
رسموا ٱلآلاما
في جسد
صبوا الأحقادا
بعلي
شعلوا النيران
حرقوا آمالا في المهد
قاوم أخباث ٱامستعرب
لا تصغ السمع لأذناب
ربطونا بٱلوهم السلمي
لا ترهب ألسن “مركافا”
إن الحق بقلبك أقوى
ما دمت تقاوم في وطن
عاش الغزوات وما كلا
فعلي نادى من قبره
قاوم يا شعبي يا ثائر
واكتبني نثرا في الند
قد صرت الرد لأشلائي
قاوم يا شعبي قاومهم.
يُشار إلى أنّ دارين طاطور شاعرة ومصورة فوتوغرافية وناشطة، أخرجت للنور ديوانها الأول «الغزو الأخير». إبداعها في الكتابة والتصوير يحكي عن معاناة المرأة الفلسطينية ويعبر عن كل شيء تتعرض له والدعوة إلى كسر الصمت حول مواضيع حساسة في المجتمع العربي الفلسطيني بالإضافة إلى توثيق النكبة الفلسطينية والقرى التي تم تهجيرها عام 1948.
أقامت أول معرض تصوير فوتوغرافي لها عام 2012 حمل اسم «عن بلدي احكيلي»، وقد عرض في عدة مدن وبلدات وأماكن ومنها: الناصرة، حيفا، طمرة، الرينة، شفاعمرو، وفي مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين في سوريا، وفي الأردن، وكانت أن جهزت لإقامة المعرض في قطاع غزة إلا أن اعتقالها في 11/10/2015 حال دون تحقيق ذلك.
أخرجت وصورت فيلمًا وثائقيًا عنوانه «من قلب البقاء»، وهو يحكي قصة تهجير قرية الدامون الجليلية عام 1948.
في أيار/ مايو 2018، أدانت ما يسمى “محكمة الصلح” الإسرائيلية في مدينة الناصرة دارين بجميع التهم الموجهة ضدها وحكمت عليها بالسجن لمدة خمسة أشهر إضافية بعد أن قضت قرابة ثلاث سنوات في الاعتقال البيتي القاسي.
عادت إلى السجن مرة ثانية وأطلق سراحها أخيرًا في 21 أيلول/ سبتمبر الماضي بشروط مقيدة إضافية، وبسجن مع وقف التنفيذ لمدة ستة أشهر ولمدة ثلاث سنوات “إذا كررت فعل نفس المخالفة”.
تم عرض قصيدتها “المتهمة”، والتي اعتقلت بسببها في مهرجان إدنبرة الدولي للفنون. كما ترجمت قصائدها إلى 15 لغة ونشرت في العديد من البلدان الغربية.
من بين الجوائز التي حصلت عليها: جائزة “الإبداع المناضل” من مجلة “العين”، وجائزة الشاعر الدنماركي كارل شارنبرج، في آب/ أغسطس 2018.
في عام 2018 كتبت دارين مع المخرجة والممثلة وفنانة المسرح اليهودية اليسارية عينات وايتسمان مسرحية «أنا، دارين طاطور»، والتي أخرجها نيتسان كوهين، ومثلتها عينات بنفسها أيضًا، وقد بدأ عرض المسرحية في تشرين أول 2018 على مسرح تموناع في تل أبيب.