(1)
كان جيمس بالدوين، الكاتب الأسود من القرن الماضي في أمريكا البيضاء، يخشى المرارة: ليس مرارة الذل، ولا مرارة الهزيمة، بل مرارة الحياة ككل: أن يحيا الأنسان حياةً بأكملها وفي فمه طعم المرارة.
في جنازة أبيه (أو من يُفترض أنه والده)، يتأمل في معنى حياة الرجل الصلب القاسي المكسور تلك: حياة مليئة بالعنف، والتديّن، والقسوة على الذات، والزهد، والمشي على الصراط المستقيم: حياة عبثية حزينة ضائعة: المرارة سممت كل دقيقة في حياة القس الأسود.
ولكن، كيف يعيش الضحايا والمهزومون والعاجزون، بدون مرارة، في عالم واسع جميل مثير، متوحش، لا يكترث بهم؟ كيف يبررون ما حدث، وما يحدث، وما سيحدث، لهم ولذويهم ولأصدقائهم؟ كيف يبرر المرء حصار غزة المستمر منذ سنين، ولا يلتفت إليه أحد، كأنه معطى طبيعي، كخسوف القمر؟ كيف يعيش المرء مع صورة طفل مدمى يريد أن يخبر الله بكل شيء، أو صورة طفلة تصرخ مرتجفة: “أنا لسا عايشة”؟
يقول بالدوين إن علينا أن نقبل العالم كما هو، بكل هذا الشر الذي يحمله؛ أن نفهم ما حدث، ونكون جزءاً منه؛ وأن نفهم أننا أبناء هذا العالم. الشر موجود: عليك الاعتراف به، عليك النظر إليه في وجهه، كما تنظر إلى أبنائك، أو إلى أصدقائك، أو إلى من تشتهيه: أن تنظر إليه، لتحفظ ملامحه وحركات يديه، تلك الحركات التي لا يتحكم بها الإنسان عندما يضحك أو يبكي.
لا نستطيع البدء بتغيير العالم بدون قبول الشر. هذا صحيح تماماً، ومرهق جداً. الوصفة هذه ليست سهلة على الإطلاق. الاعتراف بالشر لم يكن يوماً مريحاً. الدرب الآخر مفتوح دوماً، ويسيرٌ، وجذاب: درب الروحانيين الجبناء، البوذيين والصوفيين وأمثالهم: أي أولئك الذين يرون أن الشر وهم. هؤلاء لا يقبلون بالشر، لا يعترفون به. يختبؤون في صوامعهم ومساجدهم، ويجلدون أنفسهم، كي يتحدوا بالله، كي يكلموه ويفنوا به، تاركين الشر وحده يمرح على الأرض. يُضاف إليهم بعض الفلاسفة العقلانيين واللاهوتيين المستسلمين للأمر الواقع، الذين يقولون لنا إن النظرة الجزئية قاصرة، وإن نظرة كلية على حياة كل البشر والكائنات ستثبت لنا أن ما نراه شراً، هو ضرورة لتوازن الكون؛ أو أنه خير، في المحصلة النهائية. هؤلاء العقلانيون أكثر ضرراً على من يريد مواجهة الشر من الروحانيين المختبئين في الصوامع، لأنهم يسلّمون بالشر، ويعيشون فيه برضا وطمأنينة.
تاريخياً، مشكلة الشر هي الأكبر والأصعب في فلسفة الدين: إن كان الله، القادر الكامل، الخيّر، خلق كل المخلوقات، لماذا ينتشر الشر في كل مكان؟ لماذا يعاني الأخيار والضعفاء؟ منطقياً، لدينا خياران فقط: إما أن الله خيّر ولكنه ليس كامل القدرة ولا يستطيع منع الشر؛ أو أنه قادر بشكل كلي ويستطيع وقف الشر، ولكنه لا يريد ذلك. الخيار الثالث، أي القول بأن الشر وهم، رفضه معظم المتدينين.
الغنوصيون والمانويون قدموا إجابة منطقية، مختلفة تماماً: الكون خلقه إلهان، متساويا القدرة، أحدهما شرير والآخر خيّر. برتراند راسل، اللا-أدري، أشار إلى هذا الحل كخيار منطقي مُقنع، لأولئك الذين يبحثون عن خالق. فولتير، المؤمن بالله والكافر بالأديان، رفض هذا الحل لمشكلة الشر؛ أبو العلاء المعري، المؤمن أيضاً بإله واحد قادر خيّر، في رسائله المتبادلة مع داعي الدعاة الفاطمي، رفض هذا الحل، ولكنه أشار إليه كأحد الحلول المنطقية؛ وآمن، كفولتير ومعظم اللاهوتيين، بأن حل لغز الشر محجوب عن البشر، مع تأكيده الكامل على ممارسة الرحمة على الأرض: الرحمة مع البشر، ومع الحيوانات، ولذا كان نباتياً.
جيمس بالدوين يعرف الشر، ويعترف به، ويعيش به: يواجهه، ويشرّحه، ويحاربه: ولكن بنوع غريب من الهدوء، من القبول، من التأمل الطويل في أهمية ألا يأكلك الشر: أهمية ألا تشعر بالمرارة من الحياة.
مجرد الاعتراف بالشر يعني تلقائياً أن تمتلئ بالكراهية والحقد والحزن والأسى. لا يوجد شر مجرد، لا يوجد شر صاف تعالجه بدون مشاعر: وبالدوين كان يخاف الكراهية والحقد، يخاف المرارة التي سيحملها كل هذا الشر إلى حياته، وحياتنا.
من المستحيل أن يقبل المرء العالم الشرير بدون شعور بالمرارة: ليس فقط لأن القادم أسوأ، ولأن الألم مستمر: بل لأن الماضي مضى: الظلم الذي وقع، لن يتغير، لن يعود الزمن بنا كي نواسي المظلومين؛ ولأن مواجهة الشر تتطلب مقداراً كبيراً من التحديق فيه، وبالتالي، من الكراهية المتجددة التي تسمم الروح.
على المرء، إذن، أن يعمل جاداً على تشريح الشر من جهة، وعلى تصفية روحه من الكراهية والمرارة، من جهة أخرى. وحدها هذه الوصفة، بوجهيها المتناقضين، ستساعدنا في مواجهة عالم أحمق جميل يحكمه الشر.
عملياً، يستحيل تطبيق الوصفة المزدوجة هذه، إلا بالمحاولة اليومية المستمرة للحياة بفرح وتمرد، في الصباح والمساء والظهيرة، كصلاة روحانية لآلهة لا تعبأ بنا.
(2)
قبل ألف وثلاث مائة سنة تقريباً، كتب الشاعر الصيني دو فو في منفاه قصائد هادئة يتأمل فيها حياته، ويحتفي بها، بحزن بسيط متواضع، في عالم مليء بشرّ لا مهرب منه:
“دروب السماء بعيدة، وحدها الطيور تعرفها:
بحيرات وممرات مائية إلى آخِر العالم،
وعجوز ضئيل وحيد على الطريق، يصطاد السمك…
بشعرٍ أبيض، أغني المدينة، فيما أنا أحني رأسي بأسف.”
ربما، علينا أن نتعلم حكمة العجوز الصيني: يغني الحياة، وقلبه مكسور!