” ليس هناك أي حصن يحمينا من القدر، لذلك علينا أن نبني دفاعاتنا في دواخلنا، إذا كان حصننا منيعاً وآمناً يمكن مهاجمتنا، لكن لا يمكن احتلالنا.”
الفيلسوف سينيكا
“وقْع الحافر على الحافر” مقولة تفيد عند العرب توارد الخواطر (والتي يتم التعلل بها أحيانا لتغطية السرقات الأدبية)، وكم تكون المفاجأة لطيفة عندما نكتشف هذا التوارد بين شخصين لا رابط بينهما، بحيث يعبّر كل واحد منهما عن الفكرة ذاتها لكن بأسلوبه الخاص. وذلك راجع أساسا لما يسمى “الحقائق الأبدية” التي يُعنى بها الإنسان أينما حل وارتحل. وأود الإشارة في هذا الصدد إلى قصيدة محمود درويش الشهيرة “إلى أمي” والتي يقول في أحد مقاطعها: “وأعشق عمري لأني إذا مت أخجل من دمع أمي”، فالثيمة الأساسية هي عدم استحباب مغادرة الأبناء الحياة قبل آبائهم وأمهاتهم.
وقد وجدت لدى الفيلسوف الروماني سينيكا ثيمة مشابهة، ففي رسالة إلى صديقه لوسيليوس يقول متأففاً من مرضه المزمن: “في البداية تجاهلت المرض، كنت شاباً، كان بإمكاني تحمّل المشاق والتعامل مع المرض بحزم. لكنه تغلب عليّ في النهاية، لدرجة أن كل عظامي بدأت تتسلل من داخلي، فهزلت وانكمشت. وغير مرة راودتني فكرة أن أنهي حياتي، لكن شيخوخة أبي الحنون منعتني من فعل ذلك. لم يكن هاجسي كيف سأموت بشجاعة، إنما كيف لن يتمكن أبي من تحمّل فقداني بشجاعة، لذلك قررت أن أواصل حياتي. أحياناً يكون البقاء على قيد الحياة عملاً شجاعاً بحد ذاته.”
الفيلسوف الرواقي سينيكا رائع، فقد أحببت إيجابيته طويلة النَفَس عندما اطلعت على رسائله إلى صديقه لوسيليوس حاكم صقلية، والتي كان يحثه فيها على ترك منصبه والتفرغ للفلسفة كما فعل هو. وكأنه كان يعني نفسه عندما قال في إحداها: “تذكّر أن لا شيء رائعاً غير النفس، وعندما تكون النفس عظيمة، ليس هناك ما هو أعظم منها”. وتتجلى عظمة سينيكا في فلسفته التي تبعث على الراحة النفسية، وفي مسيرة حياته، خاصة موته التراجيدي. فهو لم يكن أديباً وفيلسوفاً فحسب إنما كان سياسياً تبوأ مناصب رفيعة في الامبراطورية الرومانية، لكنه لسوء حظه عاش في عصر مضطرب خلال حكم الإمبراطورين كاليغولا ونيرون، حيث نفاه الأول عن روما بتهمة إقامة علاقة غرامية غير لائقة. أما نيرون فرغم أن سينيكا عمل مربياً ومعلماً له في صغره ومساعداً شخصياً عندما أصبح امبراطوراً، إلا أنه في النهاية أمره بأن يقتل نفسه، وهذا ما فعله سينيكا دون تردد. وكانت ذريعة نيرون المضطرب عقلياً لفعل ذلك اكتشافه مكيدة ضده لعزله عن منصبه، فانتقم من كل من حوله. ورغم أنه لم يكن هناك أي دليل على تورط سينيكا بالأمر لا من قريب ولا من بعيد، إلا أن نيرون ارتأى قتله على سبيل الحيطة. وعندما وصل أمر نيرون بكى أصدقاء سينيكا حزنا عليه فقال لهم: “لا أحد منكم ينكر أن نيرون قاسٍ ، فبعد أن قتل أمه وأخاه لم يبق إلا أن يقتل معلمه ومربيه”. رباطة جأش سينيكا وتقبّله للأمر يبعثان على الدهشة، لكنها سرعان ما تزول بعد أن نطلع على كيفية تدريب سينيكا لنفسه على تقبل كل ما يحدث له، سواء كان سلبياً أو إيجابياً. ولا أبلغ منه في التعبير عن نفسه إذ يقول في رسالة إلى أمه: “لم أثق قط بإلهة الحظ، حتى عندما خيّل إليّ أنها تمنحني السكينة والطمأنينة. كافة النعم التي أغدقتها عليّ -المال، المنصب العام، النفوذ- وضعتُها في مكان تستطيع منه أن تستعيدها دون أن يطرف لي جفن. فقد حافظتُ بيني وبين هذه النعم على هاوية سحيقة، بحيث أنها أخذتها مني ولم تقتطعها من أحشائي.”
وبالعودة إلى رسائله إلى صديقه لوسيليوس فإننا نراه يكرر فكرة تقبّله برضى أي واقع يفرض عليه بقوله:
“هل سأكون فقيراً؟ سأكون واحداً من بين كثيرين، هل سأُنفى؟ سأفكّر أني وُلدت في المكان الذي نفيت إليه. سيقيدونني بالسلاسل؟ وماذا في ذلك؟ وهل أنا متحرر منها الآن؟ فالطبيعة تقيّدني بثقل جسدي. هل سأموت؟ تقصد أن لا يتمكن مني المرض بعد اليوم، وأن لا أُسجن ولا أموت مرة أخرى.”
ولم يكن سينيكا غافلاً عن الخطر المحدق به من جانب نيرون المختل عقلياً، بل كان الأمر مثار تأملاته في العلاقة بين الرعية والسلطة، حيث يقول:
“نحن نخشى الفقر، ونخشى المرض، ونخشى ما سيفعله بنا الحكام. من بين هذه الآفات الثلاث لا شيء يزعزع نفوسنا أكثر من تهديد الآخر، الحاكم، لنا، لأنه يأتي مصاحَبا بالضجيج والصخب. الآفتان الطبيعيتان اللتان ذكرتهما، أي الفقر والمرض، تنسلان بصمت، ولا تعميان عيوننا ولا تصمان آذاننا بفزع شديد. أما المصيبة التي يباغتنا بها الآخر فإنها تأتي بمسيرة ضخمة محاطة بالسيوف والنيران والسلاسل والكثير من الحيوانات المفترسة المدربة على التنكيل بأحشاء البشر.”
أشرت قبل قليل إلى الحقائق الخالدة والتي تفسر ظاهرة “وقع الحافر على الحافر”، ونراها تنطبق على العلاقة الإشكالية مع السلطة والتي شغلت الإنسان دائماً وأبداً، وثقافتنا العربية لا تعدم التعبير عنها بدورها. وكمثال يمكن التطرق إلى كتاب د.هالة أحمد فؤاد الضخم والمعنون بـ “التوحيدي – الغفلة… الانتباه”، والذي استعرضت خلاله مقتطفات من آراء بعض المثقفين (منهم الجاحظ وابن المقفع ورخوان الصفا والتوحيدي طبعاً) الذين كتبوا عن العلاقة بين الحاكم والمحكوم، خاصة عندما يحصل تقارب يتيح التعامل اللصيق. فمثلاً يقول ابن المقفع في كتاب “الأدب الكبير” محذراً من هذه العلاقة الخطرة:
“لا تكونن صحبتك للملوك إلا بعد رياضة لنفسك على طاعتهم في المكروه عندك، وموافقتهم فيما خالفك، وتقدير الأمور على أهوائهم دون هواك، والاجتهاد في رضاهم، والتصديق لمقالهم، والتزين لرأيهم، وحسن الستر لمساوئهم، إنك لا تأمن أنفة الملوك اذا اعلمتهم، ولا تأمن عقوبتهم إن كتمتهم، ولا تأمن غضبتهم إن صدقتهم، ولا تأمن سلوتهم إن حدثتهم، وإنك إن لزمتهم لم تأمن تبرمهم بك، وإن زايلتهم لم تأمن عقابهم، إنهم إن سخطوا عليك أهلكوك، وإن رضوا عنك تكلفت من رضاهم ما لا تطيق، فالبعد عنهم كل البعد والحذر منهم كل الحذر.”
وكأنه ينطق على لسان سينيكا الذي يقول إن الحكيم “يبتعد عن صحبة الأقوياء القادرين على إيذائه، ويحذَر بوجه خاص من أن لا يظهر بمظهر الراغب في الابتعاد عنهم، فجزء كبير من الأمان يكمن في عدم إبانة الحرص عليه، لأن من يهرب من شيء إنما ينفر منه.”
والجاحظ بدوره يدلي بدلوه فيورد ما يتقاطع مع ما كتبه سينيكا بشأن “الصخب” المصاحب لتهديدات الحاكم، حيث يقول في كتاب “التاج”:
“إن أخلاق الملوك ليست على نظام، ومن أخلاقهم أن لا تكون أخلاقهم معروفة، فيُمتثل عليها، ويعامَلون بها، بطل القياس على أخلاقهم، ألا ترى أن الملك قد يغضب على رجل من حماته، والرجل من حامته وبطانته، ثم لا يُظهر له ما يوحشه حتى يقتله، فكم من فيل وطئ هامة عظيم وبَطَنه حتى بدت أمعاؤه، وكم من شريف وعزيز قوم قد مزقته السباع وتمششته، وكم من جارية كانت كريمة على قومها عزيزة في ناديها قد أكلتها الحيتان وطير الماء، وكم من جمجمة كانت تُصان وتُعل بالمسك والبان، وقد ألقيت في العراء، وغُيبت جثتها تحت الثرى.”
ويقول التوحيدي:
“أما الملوك فقد جلوا عن الصداقة، لذلك لا تصح لهم أحكامها ولا توفي بعهودها، إنما أمورهم جارية على القدرة والقهر والهوى والشائق والاستحلاء والاستخفاف.”
وكما خبر سينيكا اضطراب عقل نيرون فإن التوحيدي لاحظ لوثة الصاحب بن عباد الوزير البويهي، حيث يقول معرّضا به:
“قال الخليلي: نعوذ بالله من جنون موصول بانقياد الأمور وطاعة الرجال. سألت الخثعمي الكاتب ما الذي يمده على ما هو فيه، وبأي شيء يطّرد له ما هو عليه؟ فقال: لم يبق فوقه من ينتقد، ولا فيمن دونه من يزاحم، خلا له الجو، ولم يذل لأحد، وقد ذل له كل أحد، وأمر كل إنسان، وما نهاه إنسان، وصرع إليه كل محتاج، وما احتاج إلى غير، نشأ على البطر والجنون والخلاعة والمجون، فبهذا وأشباهه فسدت أخلاقه، وساء أدبه، وبذؤ لسانه ووقح وجهه، وغلط في نفسه غلطاً شديداً، وهكذا يفسد كل من فقد المخطئ له، إذا أخطأ، والموبّخ له إذا أساء، والمقوّم له إذا اعوج، لا يسمع إلا صدق سيدنا، وأصاب مولانا، وما له في الزمان من ثانٍ، ولم يُعرف فيمن تقدم له نظير.. وقال عنه القصار: رجل لو كان في المارستان مغلولاً لكنت لا آمن جانبه إذا كلمته، فكيف وهو مطلق مطاع؟ ونعوذ بالله من مجنون قادر ومطاع، كما نعوذ من عاقل ضعيف معصي.”
لكن سينيكا يستدرك في بعض رسائله إلى لوسيليوس في حديثه بشأن العلاقة بالسلطة، فهو كفيلسوف يقلب الأمور ويحاول موازنة المحاسن والمساوئ، لذلك نراه، رغم كل ما مر به، لا ينكر أن الفيلسوف يستفيد من الرخاء الذي يوفره الحاكم الذي يستتب الأمن في عهده، لأن هذه الظروف تتيح له التفرغ لتأملاته الفلسفية، ويبرر موقفه مخاطباً لوسيليوس:
“يبدو لي مخطئاً كل من يعتقد أن من يتفرغون للفلسفة عنيدون ومتمردون، ويستصغرون أصحاب المناصب، وينفرون من الملوك وساسة الدولة. فالعكس صحيح، لا حاجة عند الفيلسوف أشد منهم، وبحق، لأنهم يمنحونه نعمة عظيمة ألا وهي التمتع بحياة السكينة والفراغ.”
ويضيف:
“الحكيم يلاحظ من يتيح له أن يهنأ بالسلام والحرية، من ذا الذي لا يستدعيه لحمل السلاح، ولا يطلب منه التناوب على الحراسة، ولا الدفاع عن أسوار المدينة، ولا سائر المتطلبات الكثيرة والضرورية للحرب، ويشكر حاكمه. الفلسفة تعلمنا أن نعترف بجميل هذه النعم ونرده. أحياناً يكون الاعتراف بالجميل بحد ذاته هو رده.”
هذه الملاحظة افتقدتها في الأدبيات العربية التي اطلعت عليها، فالعربي مهموم بالسلطة الغاشمة والتي لا تتيح له التقاط أنفاسه. وبهذا الصدد لا بأس من التذكير بالحجاج كشخصية باطشة مارست العنف والقسوة على خصوم الدولة الأموية، حيث يروي ابن كثير في “البداية والنهاية” ما يلي:
“قدم الحجاج على عبد الملك بن مروان، وأخذ معه معاوية بن قرة، فسأل عبد الملك معاوية عن الحجاج فقال: إذا صدقناكم قتلتمونا، وإذا كذبناكم خشينا الله عز وجل. فنظر إليه الحجاج، فقال عبد الملك: لا تعرض له. فنفاه إلى السند”.