سجّل يومُ ٢١ أيار/مايو احتفائية بإذاعة “هنا القدس” التي تمّ تأسيسها قبل ثلاثة وثمانين عاماً في ٣٠ آذار عام ١٩٣٦، جاء العرض استعادةً ونوعاً من بحث وتكريم لزمن من المهم اكتشافه وقد أخذ “مترو المدينة” في بيروت على عاتقه إبراز هذه المرحلة بعد أن تلقف فكرة سلوى جرادات وجرى تنفيذها مع مجموعة من الموسيقيين منهم سام دبول (قانون) وفراس العنداري (عود) وسماح أبو المنى (أكورديون) وخضر رجب (كمنجة) ولما قاسم (إيقاع) وراغد نفاع (تشيللو).
أصل الحكاية
أثناء دراستها في الجامعة الأنطونية في لبنان ولاحقاً في جامعة الروح القدس الكسليك، أثار انتباه سلوى جرادات تكرار “إذاعة القدس” كفضاء إنتاج موسيقي في أكثر من مكان في مسيرتها الجامعية مما أثار تساؤلات عدة لدى ابنة القدس التي ولدت عام ١٩٨٩ والتي عاشت في رام الله قبل أن تستقر في لبنان. أرادت أن تكتشف كيف كان وضع الموسيقى قبل النكبة وخصوصاً الموسيقى العربية الكلاسيكية. ماذا كان يقدم قبل عام ١٩٤٨؟ من كان الفنانون؟ وما هو الإنتاج الموسيقي الفلسطيني؟
من تلك الأسئلة انطلقت جرادات ببحثها المعمق. فعندما تأسست إذاعة “هنا القدس” عام ١٩٣٦ من قبل الإنتداب البريطاني والتي كانت المحطة الإذاعية الثانية بعد “هنا القاهرة”، كان الهدف منها التمهيد لقدوم الصهيونية وفكرة أرض اسرائيل ولكن السحر انقلب على الساحر: بسبب الطاقم الذي تمّ اختياره، ومنهم الشاعر إبراهيم طوقان الذي كان رئيساً لقسم المحاضرات واللغة العربية وعزمي النشاشيبي وغيرهم، لم ينجح المخطط بل أصبح منصة لدعم ثورة ١٩٣٦ وتغطية أخبارها بشكل يومي. هذا الأمر لم يرق للإنتداب مما أدى إلى اعتقال الصحافي أكرم الحسيني في سجن عكا ووقف عمله في الإذاعة، ثم تم إقالة إبراهيم طوقان بعد مدة ولم تنج المحطة من تفجير استهدف الإذاعة من قبل إحدى العصابات الصهيونية.
الأرشيف حمّالٌ للزخم والخوف
استمرت عملية البحث تقريباً سنة ونصف وهي توزعت على مرحلتين. في المرحلة الأولى تمّ جمع مواد ورقية حيث تواصلت سلوى مع مؤسسة خزائن وتمّ تزويدها بتسعة وثلاثين عدد لمجلة “هنا القدس” التي كانت تصدر بشكل دوري وتتضمن برنامج الإذاعة اليومي. من تلك المجلات اكتشفت سلوى جرادات أسماء رائدة كيحيى السعودي وثريا قدورة وماري عكاوي وهي مطربة وعازفة عود.
بعد مرحلة البحث في الأرشيف الورقي، دأبت سلوى على التمحيص في الأرشيف السمعي بعدما استعانت بمؤسستي “نوى” (المؤسسة الفلسطينية للتنمية الثقافية) و”آمار” (مؤسسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية). عملت نوى على الإضاءة على “دور الموسيقيين الفلسطينيين الرواد في النهضة الموسيقية العربية وعلى الإشارة الى مركزية هذا الدور في تشكيل المشهد الموسيقي العربي” فقامت بإصدار ألبومين يحملان نفس عنوان حفل “مترو المدينة” ( “هنا القدس ١” و”هنا القدس ٢”) وقد نقلا أعمال الفنانَين روحي الخماش ومحمد غازي. كذلك لجأت سلوى إلى مؤسسة “آمار” التي تولت رقمنة سبعة آلاف أسطوانة من تسجيلات عصر النهضة – من عام ١٩٠٣ حتى أوائل الثلاثينات.
أثناء سماعها للمرة الأولى، شعرت سلوى بوهج وزخم تلك التسجيلات. أدهشها صوت ماري عكاوي وقدرتها على العزف. لم تكن قادرة على أن تصدّق أن ما تراه أمامها يعود للثلاثينات ومن ناحية أخرى شعرت بالخوف وباتت تتساءل كيف ستترجم ألق هذا الزمن وهذه التسجيلات النادرة على المسرح اليوم، إذ يتطلب التعامل مع الأرشيف مسؤولية كبيرة، وقد حرصت سلوى على أن تمتد تلك المسؤولية إلى جوانب عدة فلا تنحصر فقط في إعادة احياء هذه الأغاني، إنما نقل الحالة بعناية ملتزمةً بأصغر تفاصيل أداء الأغاني وما يحيطها من روح الإذاعة.
على هذا النسق، تم تقسيم حفلة “مترو المدينة”، ليس فقط وفق المقامات الموسيقية إنما أيضاً حسب برمجة الفقرات عام ١٩٣٦ وفقاً لفترات محددة وثابتة كانت تذاع كل يوم. فتنوعت الأغاني بين مونولوغات وديالوغات، طقاطيق، قصائد وكان هنالك فقرة اسمها “مصر الحبيبة” حيث يتم الإضاءة على أعمال فنانين مصريين. فتم عرض أغنية “فرق ما بيننا ليه الزمان” لأسمهان و”على بلد المحبوب” لأم كلثوم و”يا دي النعيم” لمحمد عبد الوهاب وليلى مراد. كما افتتح عرض “المترو” بـ “سماعي حجاز كاركرد” لروحي الخماش تلاه توشيح “يا سامعاً” وموشح “ما بال عينيك تسأل”. وكان للور دكاش محطتان إحداهما أغنية ديو “بتريد أبقى بالأوضة” التي غنتها مع موسى حلمي، وهو مغنٍ لبناني، وقد لاقت رواجاً عام ١٩٢٨ بحيث قامت شركة “بيضافون” بتسجيلها على الفور. هكذا حاولت سلوى أن تنقل ما كان يُقدم تماماً على “إذاعة القدس”. لأجل هذا، كانت بعض الأغاني التي تغنى على خشبة “مترو المدينة” يسبقها صوتُ رخيم يعرّف بالأغنية بعد أن يقول “هنا القدس”. معظم ما تمّ تقديمه في برنامج “المترو” يعود لعشرينات وثلاثينات القرن الماضي مع إطلالة على الأربعينيات.
هنا القدس… وبلاد الجوار
من خلال بحثها وعبر الأغاني التي تمّ انتقاؤها للعرض والتي بلغ عددها اثنتي عشرة أغنية، لمست جرادات أن هنالك “وعي من قبل الفنانين وإدراك للاتصال العربي” ووجدت أن هنالك حس تقليدي مشرقي عربي جميل جداً وملموس موجود في القدس وهو متصل بشكل أساسي بمصر إذ أنه من المرجح أن أغلب الفنانين الفلسطينيين كانوا يدرسون في مصر ثم يعودون إلى فلسطين وكان هنالك هذا التواصل الدائم وبالتالي لم يكن ما يقدّم من قبل الفنانين الفلسطينيين في “إذاعة القدس” بعيداً عن الحالة الموسيقية العامة.
تذكر جرادات أن أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب كانا يأتيان إلى القدس لتقديم أغان تُبث وتسجّل على الهواء. وأغنية “آمنت بالله” للور دكاش تمّ تسجيلها في استديو الإذاعة. وتشكلت فرقة الإذاعة من أهم الموسيقيين من بينهم يحيى السعودي، فهد النجار وتوفيق جوهرية وغيرهم…
على مدى اثني عشر عاماً قدمت إذاعة “هنا القدس” برامجها وكانت مقصداً لأسماء لامعة في الثقافة العربية منهم الشاعر اللبناني بشارة عبدالله الخوري المعروف بلقب الأخطل الصغير ومحمد كرد علي رئيس مجمع اللغة العربية في دمشق وهو أول مجمع علمي تم تأسيسه عام ١٩١٩. لم يُكتب لـ “هنا القدس” أن تستمر. بعد عام النكبة، ١٩٤٨، انتقل مقر الإذاعة إلى رام الله ومنها إلى عمان لتندثر معالمها شيئاً فشيئاً وليتبدل اسمها إلى “إذاعة المملكة الأردنية”!