مضى ست سنوات وهيام عباس ترنو بمحبي المسرح في فرنسا إلى فضاء وطرحٍ مسرحيين مغايرين. تقوم بذلك بصحبة شريكها في العمل جان بابتيست ساستر. العمل الأول لها معه كان “فيدرا”. هي كانت ممثلة وهو كان مخرجاً. تعتبر أن ارتباطها بالعالم العربي يبقى ارتباط دم. هو أكبر منها. لذا لم تتردد للحظة واحدة في لعب دور أم يزن السورية في فيلم “عائلة سورية”…
اليوم تتشارك وجان بابتيست إخراج عمل “فرنسا ضد الروبوتات ونصوص أخرى” للكاتب الفرنسي جورج برنانوس الذي عرض في مهرجان أفينيون أوف والذي يتناول نصوصاً كتبها الكاتب بين عامي ١٩٣٨-١٩٤٥ ينتقد فيها المجتمع الصناعي وابتعاده عن جوهر الحياة وينبّئ فيها بفاشيّات جديدة. هنا لقاءٌ مُسهب لرمان مع هيام عباس وغوصٌ في المسرح والسينما و… التقاليد.
كيف تمّ التعاون مع جان بابتيست ساستر على عمل “فرنسا ضد الروبوتات ونصوص أخرى” للكاتب جورج برنانوس؟
أنا وجان بابتيست نعمل معاً منذ ست سنوات. كونه مخرجاً، اختارني كممثلة في عمل “فيدرا”. الجميل مع جان بابتيست أن أعماله المسرحية تشرك أفراداً من المجتمع مهمشين عانوا إما عاطفياً أو سياسياً أو اجتماعياً. في عمل “فيدرا” مثلاً كان هناك مجموعة من الأفراد يلعبون دور الكَورَس. قدمنا “فيدرا” بعدة لغات وفي عدة مدن: فعرضناها باللغة الإنكليزية مع أطفال الشوارع في لوس أنجلوس، عرضناها باللغة العربية مع شباب مخيم بلاطة في فلسطين، عرضناها بالألمانية… استمر العرض لمدة سنتين حيث كان هناك عدة “كَورَسات”. ومن ثم عملنا سوياً على نص للشاعر أبولينير وهذا هو عملنا الثالث. عادةً، عند نهاية كل عمل مسرحي، نبدأ بالتفكير حول العمل المقبل. جان باتيست كان يرغب أن يعمل على الكاتب جورج برنانوس. وبدأنا بقراءة مجموعة من كتبه إلى أن وجد جان باتيست نص “فرنسا ضد الروبوتات…” ودُهش به. كلانا لم يصدّق أن هناك رجل قادر أن يكون رؤيوياً إلى هذا الحد حول ما نعاني منه اليوم. وهكذا، تواصلنا مع جيل برنانوس، حفيد الكاتب، للحصول على حقوق عرض العمل، فدخل جيل معنا وتولى هو وجان عملية اقتباس النص. طبعاً أنا كنت متورطة أيضاً في عملية الاقتباس ولكن كان نظرتي خارجية للأمور…
هذا الغريب. وأنا أحضر العرض اليوم، لم أتمكن أن أخرج من ذهني الشبه الذي يطال الزعماء العرب فيما يتعلق بالدكتاتوريات التي تنشأ عن دكتاتوريات النازية: كثيراً ما تحدث برنانوس عن هتلر لأنه عاش الحربين العالميتين الأولى والثانية. والفظائع التي نتجت عن الحرب العالمية الثانية أثرت على الإنسانية ولكننا نذكر أيضاً كيف أجابت الديمقراطية على الفاشية الهتلرية بالقنبلة الذرية. هذا كان جواب الديمقراطية على الهتلرية آنذاك. نص برنانوس يقولها: “هتلر والهتلرية لم تعودا موجودتان ولكن إشارة النازية ظاهرة على جبين الكثر من هذا العالم”… لقد تنبأ برنانوس بالفاشيات الجديدة…تحدث عن الجماهير التي تمنح نفسها طغاةً بما معناه أن الجماهير هي التي تخلق طاغيتها…
لماذا ليس هناك من إضاءة على أعمال هيام عباس المسرحية في العالم العربي؟
لأنني عدت إلى المسرح منذ ست سنوات… كُتِب عن بعض الأعمال المسرحية لي ولكنها لم تصل إلى الجمهور العربي لأنني مستقرة في فرنسا وطبيعة الأعمال السينمائية تصل إلى الجماهير أكثر… على كل حال، نحن نعمل حالياً على ترجمة العمل إلى اللغة العربية وسنعرضها في مسرح الحكواتي في القدس حيث بدأت مسيرتي المسرحية. سأقوم أنا بتمثيل الدور بدلاً عن جان باتست ومن المرتقب أن تبدأ العروض في شهر نوفمبر. سوف نحاول الترويج للعمل في العالم العربي ولكن تعرفين الصعوبات الإنتاجية…
لا أعرف الإجابة عن هذا السؤال. حقيقةً لا أعرف. لأنني أدخل كل تجربة من مكان أُنظّف فيه نفسي من كل التجارب السابقة على أساس رغبتي في اكتشاف وتعلّم شيء جديد من المخرج الجديد الذي أعمل معه. لكن لدي عاطفة خاصة للمخرجة رجاء العماري لأنه مع رجاء تخطيت مرحلة تمثيل في حياتي ولعبت دوراً جريئاً: كانت المرة الأولى لي في دور أساسي وحملت هذا الدور على أكتافي كما يقولون. وكانت التجربة قوية لكلينا لأننا أردنا من موقعنا كنساء أن نتخطى ونتحدى الحواجز في حياتنا وأن نأخذ على عاتقنا أسئلة صعبة كمسألة العري، الجرأة وقدرة تقبل المجتمع لهكذا موضوع… أنا ورجاء أتينا من نفس المكان… ولا أنسى فضل يسري نصرالله، لأنه جعلني أصل كفنانة إلى سوريا لأول مرة في حياتي. هنالك مخرجون كثر. مؤخراً عملت مع فيليب فان ليوو في فيلم “عائلة سورية” ولا أنسى جهود هاني أبو أسعد في فيلم “الجنة الآن” وقدرته على التصوير في نابلس رغم كل الصعوبات آنذاك لأن السلطة كانت جديدة وكان هناك نوع من فوضوية. أستطيع القول أن كل مخرج عملت معه أضاف إلي أمراً ما وكل فيلم بالنسبة لي هو تجربة خاصة: كل لقاء مع كل مخرج هو لقاء خاص من نوعه. هناك كذلك أمر أقدره كثيراً في عملي مع جان باتيست في المسرح وهو قدرته على الغوص في أعماق الممثل كإنسان أولاً: برأيي لا يستطيع كل المخرجين أن ينحون هذا المنحى. جان باتيست لديه طاقة وقدرة وجرأة، خاصةً أنه عمل مع غير ممثلين واستطاع أن يخرج منهم لحظات سمو وجمال على الخشبة.
بالنسبة لي، عندما أقارب شخصية ما كممثلة، أدخل إلى عالمها. يرتبط عمل الممثل أيضاً بعلاقته مع المخرج وعلاقته مع النص. عندما تقرأين القصة فأنت ترتبطين بشخصيتها ولا يبقى إلا أن تفتحي احتمالات ذاتك كلها وأن تقبلي نفسك وأن تقبلي أن تلك الشخصية ستكون أنتِ لأنه جسدك في النهاية هو الذي سيتقمص هذا الدور وفي النهاية عليك أن تجيدي الاستماع لرغبات ورؤية المخرج الخاصة لتلك الشخصية التي تلعبين دورها وألا تكوني في تناقض مع أفكارك الخاصة حول الشخصية. هذا يعني أنك لا تستطيعين إطلاق أحكام على الشخصية قبل البدء بلعب الدور… هنالك من الممثلين حين يقاربون شخصية يقررون مسبقاً: “سوف أقوم بكذا …وسوف أقوم بكذا…”. لا أعرف العمل بهذه الطريقة.
عندما أجسد شخصية، بالنسبة لي، هذا التجسيد يعني فهم سايكولوجي لهذه الشخصية، لمسارها منذ البداية حتى النهاية، هو أيضاً فهم لكيف كُتب هذا المسار في السيناريو، وأيضاً هناك فهم لمحيط هذه الشخصية: من أين أتى هذا الشخص؟ من هو؟ ماذا يفعل؟ إلى أي مجتمع ينتمي… ومن ثمّ الأمر مبني على التعاون الفني مع المخرج. لذا لا أستطيع القول أن العمل مع رجاء عماري في “ساتان روج” هو ذاته العمل مع فيليب في تجسيد شخصية أم يزن ولكن في نفس الوقت أقول أن، تقنياً، المسار هو ذاته. الأمر مرتبط حقيقة بالعلاقة مع الشخصية وبالعلاقة مع المخرج.
ليس كثيراً ولكن في نفس الوقت لدي هذا الإحساس أن كل الشخصيات التي رسمتها في هذا الفيلم هي شخصيات أعرفها في الواقع. تنطلق فكرة “إرث” أكثر من تقاليد عيشنا وتأثيرها على الفرد وكيف يستطيع الفرد أن يحافظ على علاقته العائلية دون أن تكون التقاليد هي القيد الذي يكبل هذا الفرد. عندما تخرجين من قيود اجتماعية معينة فأنت ترفسين علاقات محبة وطيدة… قد يطال هذا الأمر والدك، أخوك، قريتك… مجتمعك… هناك في الفيلم شابة صغيرة تود أن تكون مسؤولة عن خياراتها وطبعاً هناك عائلتها تحاول منعها عن ذلك. إذا ما قارنّا هذا الشيء مع حياتي الخاصة وزواجي من بريطاني في سن الـ ٢٢… أجل هناك تقاطع مع حياتي الشخصية ولكنه ليس تقاطعاً قوياً، هو أكثر وظيفي… في الفيلم تلك الشابة لم تتزوج البريطاني. أردت استخدام فكرة العلاقة مع البريطاني لأذهب بخيارات هذه الفتاة إلى أقصى حد ممكن للعائلة رفضه. أردت أن أذهب بهذا الصراع بين الفتاة وأخيها وأبيها ومجتمعها إلى أقصى حد ممكن.
لأن التقاليد كثيراً ما كبّلتنا. أنا تربيت في مجتمع أجبرت فيه على تحمل التقاليد بالإضافة إلى عبئ القضية السياسية. أنا أنتمي إلى الجيل الأول من فلسطينيي ٤٨. نصف أهلي لاجئون يعيشون في الدول العربية ولا أقدر أن أراهم وأن أسافر. الآن لدي رفاهية السفر تلك. ولكن عندما أكبر وأنا أشاهد جدتي تبكي طوال الوقت خساراتها: التهجير، خسارة الأرض والمنزل… عندما أشاهد والدتي التي أُبعدت عن أختها التي تعيش في مخيم اليرموك، عندما أعرف أن إخوة وأخوات جدتي الذين يعيشون في الأردن، وأن جدتي الأخرى هي الوحيدة التي بقيت من عائلتها في فلسطين… تخيلي أنك طفلة وتحاولين استيعاب كل هذا، تحاولين تركيب كل هذه الأجزاء والحكايا المتقطعة من حياتك، من أين أتوا وكيف؟ كان لدي الكثير من التساؤلات ولم يكن لدي أجوبة. في سن الثالثة عشر أو الرابع عشر فهمت أن هنالك أمراً ما يجب أن ينكسر. إن كان من الناحية السياسية، على الإنسان أن يقف وأن يحارب وأن يعبر عن أفكاره وألا يقبل كل هذا الاضطهاد… هذا الاضطهاد أنا ورثته في يومياتي المليئة بالخسارات: كيف خسرنا البيوت؟ جدتي تبكي وجدتي الأخرى تبكي… هذا جزء من مجتمع كامل يبكي أنت تكبرين وتقولين “ما هذه المأساة..” وفي نفس الوقت هناك منع ورفض لك لأنك فتاة… ”ممنوع أن تذهبي… ممنوع أن تلبسي هذا الشيء… الخ”. في الآخر أقول: “أين أذهب بنفسي؟ فأنت أمام خيارين: إما الرضوخ أو التخطي”، وهنا تبدأ المشاكل.
ألأجل هذا في القسم الأكبر من أدوارك السينمائية، تجسدين دور المرأة القوية والمتمردة؟
ممكن. لا أعرف. أترك هذا لحكم للمشاهد. أنا لا أحمل عالمي وأدور فيه ولكن بما أن تركيبتي هكذا فارتباطي الأول لأدواري متعلق بتجاربي الذاتية وبما عشته من أمور شخصية.
جميلة جداً. لقائي الأكبر كان مع ستيفن سبيلبرغ ومع طوني كوشنر كاتب السيناريو. ولطوني مبادئ سياسية واضحة فيما يتعلق بالاحتلال الإسرائيلي ومعاملة الإسرائيليين للشعب الفلسطيني ولديه رؤيا أتلاقى معه فيها. لأجل ذلك، طلبوا منى في لحظة معينة أن أراقب ماذا يجري بالنسبة لعدالة الأمور في تمثيل الوجه العربي في الفيلم. أذكر أن ماري كلود همشري المرأة التي ألعب دورها إتصلت بي بشكل شخصي، لم أعرفها قبل ذلك، وشكرتني. أحست أننا كرمنا هؤلاء الفلسطينيين الذين كانوا ضحية لائحة غولدا مائير.
عندما قرأت السيناريو قلت لنفسي من المستحيل ألا نقوم بشيء ما لتصوير الفيلم. لم أتردد لثانية. بالنسبة لي، ارتباطي بالعالم العربي يبقى ارتباط دم. الأمر أكبر مني. أعود لكلمات جورج برنانوس: ارتباطي بهذا الكاتب آتٍ من نفس المكان. لا نستطيع اليوم أن نغمض أعيننا. كل إنسان مسؤول عما يحدث في هذا العالم… لا أعرف كيف من الممكن أن نفصل مشكلة اللجوء عن الاستعمار.. لا أعرف كيف من الممكن فصل مشكلة اللجوء عن مشاكل محلية بدوَل معيّنة حيث ممنوع على بعض الأفراد التواجد فيها لأن هنالك خطر على حياتهم.. لا تستطيعين فصل مشكلة اللجوء عن حرب سوريا وعن لبنان ومشاكل اللاجئين هناك وحرب العراق… إذا ما نظرتِ إلى تاريخنا الذين عشناه: منذ اليوم الذي وُلدت فيه حتى الآن لم يتوقف هذا التاريخ عن القول لي أن كل يوم هناك مشكلة جديدة وكل يوم هناك إنسان يخسر أرضه.
أعتقد أننا نحتاج كثيراً لهذا النوع من النصوص: ينقصنا الكثير من المسرح الفكري للأسف. هناك من يعتقد أنه إذا وضعتِ موسيقى هنا وفيديو هناك فهذا جميل… المسرح اليوم فيه نوع من فاشية تشبه فاشية الميديا التي نعيشها على مدار الساعة. أنا أحس أن هناك مسؤولية تقع على عاتقي، إن كنتُ مرتبطة بأدب كاتب ما، فسأضع النص بشكل حميمي وبسيط حيث أُبرز الكاتب قبل أن أبرز نفسي كمخرجة. هناك أيضاً مشكلة كبيرة في الفن اليوم هي بدل أن نخدم الكاتب، نحن نستخدم الكاتب كي نبرز صورتنا كفنانين. لا تهمني صورتي، لا يهمني إبراز صورة جان بابتيست. مسؤوليتنا الأولى، قبل كل شيء، هي إعادة إحياء كاتب العمل وليس إحياء الإيغو الخاص بنا كفنانين.