لا ينحصر عمل أحمد العطار في الإخراج المسرحي… هو قبل ذلك ممثل مسرحي وهو من مؤسسي فعاليات ثقافية ذات أهمية في القاهرة ك دي-كاف مهرجان وسط البلد للفنون المعاصرة والذي بلغ سنته السابعة هذا العام، وستديو عماد الدين وتولى إدارة مسرح الفلكي وغيرها. انشغل في الآونة الأخيرة بالتحضير لـ “ماما” الجزء الأخير من ثلاثية حول ديناميات السلطة في العائلة. رمّان التقت أحمد العطار في مهرجان أفينيون وأجرت معه الحوار التالي حول مسرحيته الأخيرة التي تمّ عرضها في المهرجان.
عرض “ماما” هو امتداد لثلاثية حول العائلة والسلطة الأبوية أو الذكورية. في “ماما” تركز على المرأة الأم ودينامية السلطة والعلاقات التي تحاول بناءها حول نفسها ضمن العائلة. لماذا هذا التحوّل إلى الأم؟
فكرة العرض أتت عام ٢٠١٤ بعد عرض “الحياة حلوة” وإثر عودتي من نيويورك، كنت جالساً في المطار ورأيت امرأة كبيرة في السن ومعها زوجة ابنها التي تقول لها “أجيبلك شاي يا تانت” وتجيب تلك الأخيرة “لأ يا حبيبتي ميرسي”. حينها رأيت، من مجرد طريقة تبادل الكلام بين هاتين السيدتين، زيف الأشياء والنفاق الذين كانا واضحين لي على الأقل لي. منذ تلك اللحظة، بدأت أعمل على هذه الفكرة. في عروضي السابقة تعاملت مع الرجل المهيمن على العائلة الذي لديه قدسية معينة كما لو أنه ملك.
بدأت أعمل على فكرة منبع هذه السلطة: من أين تأتي سلطة الرجل؟ لماذا يحس الرجل أنه إله على الأرض؟ استنتاجي الشخصي هو أن المرأة المصرية والعربية عامةً هي امرأة مقهورة… هناك استثناءات ولكن عموماً المرأة مقهورة. أنا أرى أن هذه المرأة لأنها مقهورة من أبيها من قبل ومن ثم هي مقهورة من قبل زوجها وفيما بينهما قد تكون مقهورة من أخيها، عندما تلد ولداً، هذا الولد الذي يمثل استمرارية العائلة، وبصفتها فاقدة للماضي بسبب سلطة والدها وفاقدة للحاضر بسبب زوجها، الأمل الوحيد لديها هو في المستقبل أي في ولدها الذي سيصبح الأب المستقبلي. لذا عبر غريزة إنسانية أنا أسميها غريزة انتقامية وعبر سيطرتها على الولد وأساليب الإبتزاز العاطفي، هي تنتقم نوعاً ما وهي تكرّس سلطوية الرجل لأن الأم عندما تمارس نفس السلطة التي مورست عليها، ابنها سيكون حتماً مشوهاً ومعاقاً عاطفياً. الرجل العربي هو رجل يكره أمه ولكن لن يستطيع أن يقول ها هذا الأمر لأن الأم مؤلّهة تماماً. وبالتالي هو يفجّر كبته هذا في سائر النساء. إذاً نحن أمام حلقة مفرغة. في عرضي، أحاول أن أظهر العلاقات هذه. أنا أرى أن المرأة هي مفتاح التغيير في العالم العربي لأنه بحكم موقعها في العائلة، هي تحتكر إدارة البيت وتربية الأطفال وهذا باعتقادي فرصة للمرأة لأنه من الممكن أن تساهم في خلق جيل مختلف… لأن مشكلة المجتمع الأساسية هي شكل السلطة الأبوي.
كيف تمت عملية كتابة نص “ماما”؟
أنا أعمل أولاً مع الممثلين لخلق إحساس الـ Ensemble أو “المجموعة”، وثم أعمل على شخصيات من دون نص. كل ممثل يعرف أنه سيجسد دور هذه الشخصية ولكنهم لا يملكون أية نصوص. وعندما أبني شخصية لا أبني شخصية بخلفية وتاريخ كما هو معتمد في منهج ستانسلافسكي التمثيلي ولكن أبني الشخصيات بناءً على سمات جسدية أو عاطفية. فمثلاً نقول أن الشخصية الفلانية “لا تثق بنفسها لكنها متسلطة وهي عرجاء”. ومن هنا، أبني الشخصيات من هذه الخطوط الثلاث عبر التدريبات والارتجال… وعندما يكون لدي شخصيات تتحرك أبدأ بكتابة النص وحينها أسلّم كل يوم جزءاً منه. أنا أبني نصي مع الشخصية التي أراها أمامي خلال التمارين. أعتقد أن هذا الأمر يخلق مشهدا ًقريباً من الواقع ويؤسس لنص قريب من الممثل لأنه منبثق عنه. طبعاً هذه طريقة عمل فيها خطورة لأن الطاقة النفسية والعاطفية للممثلين موضوعة على المحك تماماً لأنهم يمشون في الظلام: تخيلي أن ممثلاً لا يعرف لمدة شهور إن كان كشخصية سيموت أو يبقى حياً… وعليه أن يكتشف معي يوماً بيوم. هذا أمر متعب جداً. أنا أقدّر كثيراً الممثلين الذين يعملون معي. عرض “ماما” اكتمل وبانت عناصره في ١ يوليو (تموز) والعرض في ١٨ تموز واليوم الأخير للتمارين كان ١٠ تموز… أضيفي إلى ذلك أن شكل العمل الفني أيضاً يظهر تدريجياً من خلال كل تلك السياقات. الموضوع مرهق لأنني أنا أيضاً لدي شكوك.
في إحدى المقابلات تقول أننا نعيش الحياة كما لو أنها عمل روائي خيالي. ألأجل هذا الأمر تركز في عروضك على الأحاديث اليومية الهامشية وتحمّلها المعنى؟
بالضبط. لو تخلينا عن عمل الديكور والإضاءة، والشغل على الشخصيات، وإذا ما نظرنا إلى النص بمفرده نجده نصاً يومياً هامشياً لا قيمة له بحد ذاته. لأن أبعاد النص تأتي من كل العناصر الأخرى مجتمعة مع بعض المعاني الكامنة بين سطور النص طبعاً… أنا لا أحاول فقط أن أنقل الواقع ولكن من خلال نقلي للواقع هناك بنية اجتماعية وعلاقات سلطة ضخمة ورهيبة جداً تظهر تحت الكلام. هناك إشكالية كبيرة في المجتمع المصري والعربي عموماً أنهم مجتمع من المظلومين. ما أحاول قوله من خلال عروضي أيضاً أن الناس مظلومة… طبعاً هناك نوع من الفساد الإنساني وهو أهم من الفساد المالي لأن الناس تقبل هذا الظلم وعدم المساواة بشكل طبيعي جداً. قدرة المجتمع العربي على الانغماس في الفساد الإنساني وبلا وعي هو أكثر ما يؤلمني.
من خلال إدارتك للممثل، هناك نمط أداء واقعي ولكن في نفس الوقت تلعب على الغروتسك Grotesqie وعلى الكاريكاتور وغالباً ما يكون هذا الأمر عبر الأداء الصوتي وليس بحركة الجسد أو الجستوس… لماذا هذا الخيار الفني؟
أنا أحب دائماً أن أكسر مسرحة الحدث… الموضوع تمثيلية مصرية جداً، هي تتطور ويخرج منها أمور لن نراها أبداً في تمثيلية. أنا أكسر دائماً هذا الشكل عبر إدخال فريق العمل لوضع ديكور أو أكسسوار ما. أقوم بذلك كي أدفع المشاهد أن يخرج من فكرة أنه يحضر ومنغمس في مسرحية.
ما هو المسرح بالنسبة لأحمد العطار؟
بالنسبة لي، المسرح هو مخاطرة ورحلة جميلة ومرعبة في نفس الوقت. أنا لا أعرف أن أعمل أي شيء آخر سوى أن أكون على الحافة وأن أكتشف مع الممثلين احتمالات عروضي. لولا وجود المخاطرة والرغبة في اكتشاف أمور جديدة كل يوم، لا أعتقد أنني سأخوض تجربة المسرح.
قبل وصولك إلى أفينيون، تمّ منع مسرحية “قبل الثورة”. الرقابة طلبت حذف خمسة مشاهد من المسرحية وأنت رفضت. كيف تعاملت مع الموضوع وما موقفك من الرقابة في مصر؟
كما جيلي وكما أجيال أخرى، لقد عشت حياتي بوجود الرقابة. نحن نتعايش مع الواقع. أنا شخصياً أجد أن فكرة الرقابة سيئة للغاية ولا تؤدي الدور الذي يجب أن تؤديه ولكن العالم العربي يعيش تحت سطوة الرقابة… فنحن كجيل عربي نتعامل ونبدع ضمن هذه الظروف. أنا أرى أن هناك أمر إيجابي في الموضوع لأنه يدفعنا كمبدعين أن نفكر أكثر كي نقول ما يجب قوله أو جزء منه دون الوقوع تحت سلطة سيف الرقابة. الآن، موضوع العرض مرتبط بأحداث سابقة في مصر: حيث تم حبس مسرحيين وكان هناك إنتخابات آتية… أعتقد أن هناك ضغوطات في البلد في وقت قدمت فيه للرقابة عرضاً بعنوان “قبل الثورة” والوضع كان متشنجاً جداً رغم أن العرض لا علاقة له بالثورة. هناك أحداث معينة خلقت تشنجاً ما… لا أعفي الرقابة من مسؤولياتها طبعاً… وتلك السلوكيات تجعل موقفهم أسوأ مما هو عليه.
كيف يعمل العطار والفنان في مصر عموماً في ظل التضييقات التي يمارسه نظام السيسي مثلاً: قانون تنظيم الحفلات والمهرجانات الذي يشترط موافقة وزارة الداخلية وثماني وزارات أخرى.
أنا وبعض الفنانين من جيلي نعتبر أنفسنا أكثر حظاً، لأنني بنيت مساري المهني وباتت عروضي تجول في أوروبا وأميركا وتعرض في مهرجانات كمهرجان أفينيون. أنا أفكر في جيل الفنانين الأصغر مني. وضع هؤلاء الشباب أصعب بكثير وهذه مشكلة، لأنني أعتقد أن السلطة الموجودة، في مصر أو في أي بلد عربي آخر، غير قادرة على الفهم أن هذا الضغط الشديد ليس له أي مجال آخر سوى توليد الإنفجار… الفترة المقبلة ستكون قاتمة جداً للفنانين للأسف.