مع انهيار المعنويات الشامل وانتشار اليأس والبؤس والإحباط، وغياب أية مخارج نظرية أو عملية من هذا الانحطاط الشامل، أقترح خمسة كتب عظيمة على القراء، كي يستمتعوا بها هذا الصيف، وكي يحاربوا بها اليأس.
هذه الكتب مسلية جداً، وصغيرة الحجم. لذا، لن تشعر بالملل عند قراءتها، ولا بأنك مخدوع ومحاصر كما يحصل عندما تقع في شراك روايات طويلة مليئة بالحشو، أو كتب فكرية تحتاج إلى أشهرٍ من الدراسة لفهم محاججاتها المكثفة العويصة. كما أن هذه الكتب بعيدة عن الحرب والثورات؛ بل لا يوجد فيها سياسة إطلاقاً، أي أنك ستهرب فيها من هزائمك. وهذه الكتب، أخيراً، تجمع ما لا يمكن جمعه: كتب سهلة، وعميقة، في آن. أفضل أنواع الكتب هي تلك المكتوبة كي تتلقاها القارئة ببساطة ووضوح، ولكنها، في نفس الوقت، تقول كل ما يجب قوله عن الحياة، بشكل مباشر وأصيل. عدد مثل هذه الكتب السهلة العميقة ليس كبيراً، في المكتبة الكونية، للأسف.
كيف ستساعدك هذه الكتب في التغلب على الإحباط؟ الجواب بسيط: ستجعلك تفهم نفسك، أولاً، وتفهم العالم، ثانياً، بطرق متعددة متنوعة. وبهذا، ستساعدك على التغلب على الإحباط الكبير: ليس بمواجهته مباشرةً، فهذا الأمر يكاد يكون مستحيلاً اليوم، ولا معنى له؛ ولكن، بفهم نفسك، وبفهم العالم، ستكون محصناً، وقادراً على النظر في قاع المأساة، بدون أن تسقط فيها.
على العموم، في هذا فقط تكمن قيمة الثقافة حقاً.
١- «كانديد»، رواية. تأليف: فولتير. ترجمة: عادل زعيتر
اشتهر هذا الكتاب بشكل رئيس بوصفه هجوماً على مقولة اللاهوتيين: “هذا العالم أفضل العوالم الممكنة”، والتي تبناها الفيلسوف الألماني لايبنتز. يرى فولتير، على العكس، أن العالم مليء بالشر والمآسي؛ وأنه، على العموم، مكان موحش قذر. ولكن، باستطاعتنا تغيير ذلك. لذا، تعتبر الرواية الصغيرة هذه رواية فلسفية: الفلسفة تأتي في سياق مغامرات مسلية، ومضحكة، وصادقة. لا يوجد شخصيات مملة تتكلم بأفكار كبيرة، كما نرى أحياناً عند سارتر وبرنارد شو. بل نجد رحلة طويلة فيها سلسلة من المصائب التي تتكرر باستمرار على رأس البطل، الذي يتساءل عن معناها وعن أسبابها: يعجز البطل، وفولتير، والقارئ، عن الإجابة، ويبقون في حيرة من أمرهم: لا يدركون معنى الحياة والروح والعقل والمادة ووجود الشر، وغيرها. ولكنهم يتابعون الحياة، بأمل وحماسة، بدون أجوبة، مدركين قصورنا البشري وجهلنا الأصيل العميق، الذي لا يمكن اختراقه!
٢- «ديوان البيت الواحد»، مختارات شعرية. تأليف: أدونيس
إن كنت تشعر، مثلما أشعر، بأن الشعر العربي القديم ممل جداً، فهو يقتصر تقريباً على وصف الفرس والجمل والأطلال، بطريقة مكررة؛ أو على مدح سخيف لمجموعة من الخلفاء والولاة المجرمين والمتعصبين؛ ولكن، مع ذلك، يخزك ضميرك الوطني الصاحي في ثورات الربيع العربي لأنك جاهل تماماً بكل تراثك الأدبي: فهذا الكتاب الصغير الساحر سينقذك.
يجمع أدونيس هنا أبياتاً منفلتة من الماورائيات، فيها حكمة تصلح لكل زمان ومكان، كالنصوص المقدسة و«نقد العقل المحض». تعكس الأبيات حالة عالية من التجريد، من التحليق في الأعالي، بجمال اللغة الرباني. لا تشكل المختارات لوحة صادقة موضوعية لجمال الشعر العربي، بالطبع، بل لوحة لما يختاره أدونيس: لوحة تجريدية تماماً، كعالم أدونيس الشعري والفكري نفسه: لوحة مختارة بعناية فائقة، وجديرة بتراث مربك مختلط ضخم، يصعب فهمه وتذوقه.
٣- «خلوة الغلبان»، مقالات أدبية. تأليف: إبراهيم أصلان
نفس الحساسية المتأملة لليومي، للعادي، للبسيط، التي تجعل روايات وقصص إبراهيم أصلان محببة لكل الناس، تملأ هذه المقالات بجمال لا يخطئه إلا المتعجرفون.
يكتب أصلان مقالاته كأنه يتحدث إلى صديق في مقهى: يكبتها بصدق وبراءة، ولكن، أيضاً، بصنعة الفنان: الصنعة التي تأتيه بيسر وسهولة، كونها تنبع من روحه البريئة الصادقة.
تستحق هذه المقالات نفس المكانة التي تشغلها قصص وروايات أصلان في وجدان القارئ: مكانة خاصة فريدة تماماً، كصوت أم كلثوم ساعة السحر!
٤- «راقصة إيزو»، مجموعة قصصية. تأليف ياسوناري كاواباتا. ترجمة: بسام حجار
ينقسم الكتّاب إلى قسمين: أولئك الذين يكتبون روايات عظيمة وقصصاً قصيرة عادية، مثل نجيب محفوظ؛ وأولئك الذين يكتبون قصصاً قصيرة ساحرة وروايات سيئة، مثل موباسان. كاواباتا، وحده، يكتب روايات عظيمة و”نوفيلات” عظيمة وقصصاً طويلة وقصيرة عظيمة ساحرة.
هذه المجموعة القصصية، ومعظمها قصص طويلة، تتكلم عن الوحدة والحب والعائلة والموت، وعن شك يجرحنا بصمت طيلة الوقت. صوت كاواباتا المتفرد يجعل من الطبيعة عنصراً فاعلاً في الحياة؛ ويجعل البؤس البشري ملموساً، كالطاولة التي أكتب عليها الآن تماماً: صوت هادئ متوازن، لا يغضب ولا يعلو، حتى عندما يضيع في التيه: كأنه صوت قديس شرقي، ولكن، بارتيابه في الأجوبة، أكثر جلالاً من الحكمة التقليدية!
٥- ما الذي أؤمن به؟ مقالات فلسفية. تأليف: برتراند راسل. ترجمة: د. عدي الزعبي
يجمع هذا الكتاب مقالات شعبية حول الدين والحرية والعقلانية. الحجج الموجودة هنا هي ذاتها الموجودة في أصعب الكتب: الفارق يكمن في طريقة العرض فقط. والحجج هنا، كلها تقريباً، صحيحة تماماً.
خورخي لويس بورخيس، في معمعة انتشار الفاشية في الحرب العالمية الثانية، زكّى مقال راسل الطويل “التفكير الحر والبروباغندا الرسمية”، الذي تجدونه في كتابنا هذا، كوصفة فعالة: نشر العقلانية لمواجهة التعصب. نحن اليوم بحاجة لهذه الوصفة، كما كان أجدادنا وآباؤنا بحاجة لها، بالضبط.
ولكن، برتراند راسل، ابن التنوير الأصيل الملتزم، يعرف جيداً أن العقل وحده لا يكفي كي ننشر التسامح والمحبة، وأن على الإنسان أن يفتح قلبه للمحبة الغريزية الأصيلة الكامنة في صدره، بدون أن يتخلى عن العقل. يختصر راسل مذهبه الفلسفي في جملة ناصعة بسيطة ساذجة، تجيب عن كل الأسئلة:
“الحياة الجيدة هي تلك التي يلهمها الحب وتقودها المعرفة.”
وختاماً، نتمنى لكم صيفاً معتدلاً، مليئاً بالمحبة، وبالمعرفة، وبالسعادة.