تتميز الكاتبة والفنانة التشكيلية الفلسطينية/الأمريكية ابتسام بركات، بتجربة أدبية متفردة، فهي تكتب باللغتين العربية والإنكليزية، وتعيش وتعمل في الولايات المتحدة منذ عقود، وكان أن حازت على أكثر من ثلاثين جائزة وتكريماً، منها جائزة “جمعية القراءة الدولية” في نيويورك، لتكون الكاتبة الأولى والوحيدة من الكتّاب العرب التي تفوز بهذه الجائزة منذ تأسيس الجمعية في سبعينات القرن الماضي.
“رمان” تواصلت مع صاحبة «تذوق طعم السماء، طفولة فلسطينية»، المولودة في بلدة “بيت حنينا” شمال مدينة القدس المحتلة عام 1963، فكان هذا الحوار عن جديدها الإبداعي الصادر في فلسطين المحتلة، وعن مجمل مشروعها الأدبي الإبداعي الذي بدأته منذ أيام الطفولة.
كيف بدأت حكايتك مع الكتابة الإبداعية، هل بدأت موهبتك منذ الطفولة أم أنك اكتشفتها في مرحلة لاحقة؟
أرى أن الموهبة جزء من الإنسان، مثل الصوت. يكتشف الإنسان صوته عبر علاقته به. اكتشفت الكتابة الإبداعية وأنا ألعب مع الحروف واللغة وحين احتجت أن اخترع عالماً أوسع من العالم الضيق الذي كنت أعيش فيه تحت الاحتلال كطفلة.
حدثينا عن قصتك «الجرّة التي صارت مجرّة»، الصادرة عن “مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي”، رام الله 2019.
هي قصة مستلهمة من حياة الفنانة الفلسطينية الكبيرة في مجال السيراميك (أي الفخار المزجج والملون) فيرا تماري، قمت بكتابة نص عن الجرّة التي يمكن أن تضع فيها الزيت أو الماء أو القطين. أنا اخترت أن أملأ الجرّة بالخيال وحولتها إلى مجرّة.
ماذا عن قصتك «الفتاة الليلكية»، المستلهمة من رحلة الفنانة التشكيلية الرائدة تمام الأكحل؟
في هذه القصة عبّرت عن إحساس الإنسان الفلسطيني حين يمنع من العودة إلى بلده، عبر قصة الفنانة الفلسطينية الكبيرة تمام الأكحل حين حاولتْ زيارة منزلها القديم في يافا ولم تسمح لها امرأة كانت قد استولت على المنزل بالدخول. قمت بالانتصار لها بشكل فني لم يخطر على بال المرأة التي استولت على المنزل.
صدر كتابك «تذوق طعم السماء، طفولة فلسطينية» باللغة الإنكليزية في عام 2007، أي بعد أربعين عاماً من حرب حزيران/ يونيو 1967. ثم صدر كتابك «شرفة على القمر، بلوغ الرشد في فلسطين» في 2016 باللغة الإنكليزية أيضاً، ما هو سبب كتابة مذكراتك في وقت مبكر من العمر؟
هذه الكتب تبدو وكأنها مذكرات ولكنها ليست كذلك، كان عمري ثلاثة أعوام في حرب الـ 67 وتحطمت طفولتي فكيف أبني حياة على حطام طفولة؟ صارت حياتي كلها ورشة تصليح، أو “كراج لغوي” لإصلاح الحطام.
في هذه الكتب أجمع أطراف حياتي حتى تشفى طفولتي من الحرب. قد تكون عملية إنقاذ جرحى وهم اللغة العربية؛ شجر التين، شجر الزيتون، صوت الآذان في القدس، صوت الكنائس في رام الله، صوت أصحاب سيارات الأجرة العمومية، صوت المطر في فلسطين، جميعهم جرحى. طفولتي وقصاصاتها التي كانت ضائعة تطلبت أربعين عاماً من البحث وأطناناً من “الصمغ العاطفي” حتى أعيد صياغتها.
لماذا لم تترجم «شرفة على القمر، بلوغ الرشد في فلسطين» إلى اللغة العربية حتى الآن؟
كتاب «تذوق طعم السماء، طفولة فلسطينية» ترجم إلى لغات عالمية عديدة، وهو يُدرّس باللغة الانكليزية في عدد من المدارس والجامعات حول العالم، بما فيها فلسطين ودول عربية أيضاً، لكن الكتاب لم يترجم إلى العربية لأسباب واضحة في أحوال العالم العربي. هذا ينطبق أيضاً على «شرفة على القمر– بلوغ الرشد في فلسطين».
في الحقيقة أنا كتبت هذه الكتب باللغة الإنكليزية لأني فهمت مسؤوليتي ودوري في إيصال قصة شعبي الفلسطيني إلى العالم بطريقة يفهمها أيّ قارئ من أيّة مرجعية كانت، حيث وظفت أساليب الكتابة الأدبية في سياقات إطارها الإنساني الواسع. كتبت وكأني أتحدث مع شخص لا يعرف شيئاً عن فلسطين وقضية شعبها، وأريده أن يحس ويفهم ويعيش تفاصيل ما جرى ويجري وكأنه أنا. وحين يقرأ الفلسطيني ما كتبت يجد عالماً حيّا بكل التفاصيل. وصلتني رسائل كثيرة من فلسطينيين قالوا إنني كتبت عالم طفولتهم بحذافيره ولم يكونوا ليظنوا أن هذا قد يحصل عبر كتاب.
أنت من أبناء وبنات جيل الهزيمة/ النكسة الذي عاش بالضفة الغربية في سنوات الاحتلال الأولى، ما جعل ذاكرتك مثقلة بعسف الاحتلال. ما تأثيرات الاحتلال والاقتلاع من المكان الأول والمنفى على نتاجك الأدبي؟
قد تكون الهزيمة العسكرية والسياسية هي السمة الأوضح لكل أجيال القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين في فلسطين، لكن كلمتي هزيمة ونكسة أرفضهما رفضاً قطعياً.. نحن أبناء صراع متواصل على الحرية، وتلك الحرب أو أيّة حرب أخرى أو أيّة خسارات مهما كانت فادحة هي جزء من ضريبة ندفعها عبر رحلتنا الطويلة في دروب النضال من أجل الصحو الحضاري والخلاص من أغلال التخلف في مجتمعنا والتحرر من الاحتلال.
تأثير الاحتلال والاقتلاع جعلني أصارع من أجل أن “أحتل” مكاناً منيراً في عالم فن اللغة الأدبية خصوصاً، وأعطي للصوت الفلسطيني مكاناً مهماً. الاقتلاع جعلني أجد جذوراً في اللغة فأنا في غرام عميق مع جذور لغتي الأم.
في «شرفة على القمر» تسألين: هل سيكون العالم سعيداً لو لم يكن هناك فلسطيني أبداً؟ بدوري أوجه لك نفس السؤال فما هو جوابك؟
كل شعب هو عضو من أعضاء الإنسانية. الفلسطينيون ربما هم الإصبع الصغير في قدم العالم. لو قطع هذه الإصبع لفقد العالم التوازن وصعب عليه المشي. لهذا أعرف أنّ العالم لن يقطع إصبعه الصغير مع أنه تجاهله كثيراً.
أنت شاعرة وقاصة وروائية وكاتبة لأدب الأطفال ورسامة تشكيلية، كيف تنظرين إلى ترابط العلاقة بين الأدب والفن التشكيلي، وأثر ذلك في كتاباتك ورسومك؟
عالمي الإبداعي له منافذ عديدة. جميعها مترابطة من منطلق أنها رحلة متشعبة الأدوات حتى يوضع المحتوى المناسب في الشكل التعبيري المناسب. أحياناً الفكرة أو الإحساس يأتي على شكل قصة أو قصيدة أو لوحة فنية. لا يجب “حبس” العمل الفني في بيئة ليست بيئته الطبيعية. هكذا أمارس الحرية الرمزية.
حصلت على أكثر من ثلاثين جائزة وتكريم. ماذا قدمت هذه الجوائز لمسارك الأدبي؟
فاز كتاب «التاء المربوطة تطير» بجائزة أفضل كتاب عربي للأطفال من مؤسسة “الآنا ليند اليورو-شرق-أوسطية” في عام 2012، وكان يمثل فلسطين في ذلك العام. وصنف أيضاً كتوصية (رقم 2) من مئة توصية للكتب الأكثر إبداعاً في أدب الأطفال بالعربية في موقع “حكاية”، وسيتم إصدار الطبعة الثانية منه في هذا الصيف. أما كتاب «الجرّة التي صارت مجرّة» فقد أعطى “حملة القراءة في فلسطين 2019” عنوانها، وقمت بزيارة مدن عديدة لنشاطات مع أطفال ومعلمين ومكتبيين حول حملة تشجيع القراءة في فلسطين.
أنا مثل أيّ فنان ملتزم بموهبته بأمانة أكتب لنفسي. لكني حين أكتب لنفسي أعرف تماماً أنّ المجتمع جزء من ذاتي وأنا جزء منه. وهنالك حوار دائم بين الفنان والمجتمع. الفنان والأديب والمثقف الأمين على موهبته يقدم بوصلة أمينة لتطور المجتمع، أي لا يضلل شعبه في متاهات وإنما يقدم له نوراً فكرياً حقيقاً.
أتوقف معك عند فوز روايتك «تذوق طعم السماء، طفولة فلسطينية» بجائزة “جمعية القراءة الدولية” لأفضل رواية في نيويورك عام 2008، ماذا عنى لك ذلك الفوز؟
ساعدني في بناء ثقتي في أنني قادرة على الوصول إلى القارئ الغربي بصوت عربي يعيش في هذا العالم، ويكتب من منظور الحرية، ويعمل على توسيع مكانة فلسطين في مجتمع الأدب العالمي.
كانت جائزة “جمعية القراءة الدولية” لرواية «تذوق طعم السماء» هي المرة الأولى التي يفوز فيها كاتب أو كاتبة عربية منذ بداية تأسيس الجائزة في السبعينيات. وما زال الحال كذلك حين نظرت لأرى إن تغيرت هذه الحقيقة. طبعاً شجعني هذا على ممارسة عملي والذي اسميه “الفلاحة اللغوية”. أرى نفسي “فلاحة لغوية”. اقتلع أشواك الخوف من على الصفحة في كل يوم.
تواصلين الكتابة باللغة العربية إلى جانب الإنكليزية وأنت تعيشين في المهجر. ما الفارق بينهما عند الكتابة، وهل لهذا الأمر انعكاس على لغة السرد في قصصك ورواياتك؟
أنا بحاجة إلى اللغتين لأني أعيش في عالمين. علاقتي مع اللغة العربية هي أساس حبي لأشياء كثيرة. طريقة نطق حرف العين أو الغين أو الضاد هي عالم كامل بحد ذاته. هي رقصة تقوم بها الشفاه. هي متعة عظيمة. الفرق بين اللغتين شاسع مثل الفرق بين أمريكا وأفريقيا وآسيا. حين أكتب بالعربية أنا أكتب لإنسان يعرف المتنبي، ويعرف طعم التين، ويعرف متعة الدبكة والعود، ويعرف تاريخاً حدث في الشرق، ويكتب من اليمين إلى اليسار.
حين أكتب بالإنكليزية أكتب لقارئ يعرف شكسبير ولا يعرف المتنبي، ويعرف شهوراً طويلة من الثلج في الشتاء، ويعرف البيانو بدلاً عن العود، ويكتب من اليسار إلى اليمين، ويظن أنّ بإمكانه العيش من غير الشرق. ورقتي زورق بين العالمين. وقلمي مجذاف.
رأى نقاد أنّ “أحد العناصر الرئيسية للثقافة الأمريكية هو المكون العربي الأمريكي، وهو مصطلح جديد نوعاً ما يشير إلى مجموعة متنوعة من الأشخاص الذين يختلفون من حيث أصولهم الأصلية ودينهم وخبراتهم في الهجرة إلى أمريكا”. أنت واحدة من هؤلاء الكتّاب والكاتبات العرب إلى جانب الفلسطينيات نعومي شهاب ناي، نتالي حنضل، ليزا سهير مجج، سوزان أبو الهوى، رندا جرار وغيرهنّ. سؤالي: كيف استقبلت الصحافة والنقد في أمريكا إنتاجكنّ الإبداعي، وكيف استقبله القارئ الأمريكي أيضاً؟
صحيح. نحن في عالم غربي يعاني من علاقته مع الأقليات التي هي فعلاً الأكثرية في العالم، لكن صارت أقليات من ناحية التأثير المسموح لها. نجحنا في أن يصير لنا مكاننا، وهذا يعني أننا نعمل بأضعاف المجهود لأننا أيضاً نقاوم جدراناً غير مرئية تحاول أن تمنع صوتنا عن الوصول، ونواصل فتح أبواب كانت موصدة، نفتحها لأول مرة، نصارع من أجل أن يزداد علو الصوت العربي ويصير أساسياً في الحضارة الأمريكية والغربية، وهو آخذٌ في هذا فعلاً مع العمل المتواصل.
لكن المشكلة الحقيقة هي أن العالم العربي يجب أن يتطور أيضاً حتى يصير عالماً لا يخرج كتابه وعلماؤه وأهله المبدعون إلى بلاد أخرى ابتعاداً عن حال الحروب والقهر والظلم. كتبي عن حياتي في فلسطين دخلت المناهج الأمريكية في مدارس كثيرة. هنالك مئات الآلاف من طلبة الجامعات تعرفوا على فلسطين لأول مرة قبل 12 عام حين كان عمرهم عشرة أعوام وقرأوا كتاب «تذوق طعم السماء، طفولة فلسطينية» في المدرسة، لأنه فاز بجوائز كثيرة ولفت انتباه المدارس ودخل المناهج وواصل الانتشار.
هل نستطيع الحديث اليوم عن “أدب فلسطيني مهجري” إن جاز التعبير، أم تفضلين إدراج هذه الكتابات في سياق ما اصطلح على تسميته بـ”أدب الشتات”؟
من ينظر من منظور الهجرة يسميه “أدب مهجري”. ومن ينظر من منظور الشتات يسميه “أدب الشتات”. ولكنه من وجهة نظري هو “أدب عالمي عربي الجذور”. أو “أدب عالمي فلسطيني الجذور”. تماماً مثل جميع الآلات الوترية في أيّ أوركسترا غربية جذورها آلة العود الشرقية، والعرب لا يعرفون هذا إلا قليلاً والغرب لا يعرفون هذا إلا قليلاً. الأدب الذي ننتجه في لغات غير العربية ويعيش في العالم هو أدب عالمي ولكن هو أدب جذوره الحضارية عربية أو فلسطينية.
سؤالي الأخير، هل لديك كتاب جديد سيصدر قريباً؟
عندي رواية باللغة العربية أنهيت كتابتها قبل عدة أشهر وعلى الأغلب ستخرج إلى النور في العام المُقبل.