يعالج برتراند راسل في كتابه “دروب إلى الحرية”، الذي يناقش الفوضوية وسبل تطبيقها، حياة الكتاب والفنانين في ظل النظام المشتهى. أحد الأمور التي يرغب راسل بالتخلص منها، بشكل كلي، هي الجوائز والمسابقات، بكل أنواعها. هذه الممارسات، بحسب الفوضوي الإنكليزي، تشجع أسوأ ما في الإنسان من مشاعر: الغيرة والحقد والحسد والتنافس الشرس الهمجي: أي أنها، باختصار، تقدم لنا خلاصة الإنسان الرأسمالي الفرداني الجشع الخائف.
ما البديل؟ ببساطة، أن يحصل الكتاب والفنانون، كما سيحصل كل الناس، على راتب ثابت شهري يكفي لسد الرمق. هذا الاقتراح، الذي دافع عنه كروبوتكين بحمية، رفضه الماركسيون والليبراليون وقتها، بسبب عجزهم عن فهم أفضل ما قدمته الفوضوية: رؤية أصيلة واثقة متفائلة للطبيعة البشرية. يصر الفوضويون على أن الناس لا تحب الكسل، وعلى أن جوهر الفرد يتحقق بالعمل الذي يريد الفرد نفسه القيام به: لن يجلس الناس في بيوتهم متكاسلين عندما يطمئنون إلى أن حاجياتهم الرئيسة متوفرة. على العكس، سيسعى الناس إلى تحقيق ذواتهم، بدون خوف من الجوع والفاقة.
يعتقد راسل أن نظام الجوائز فاسد، جملة وتفصيلاً. ليست المشكلة في هذه الجائزة أو تلك. أي متابع لنظام الجوائز يعرف النميمة والاغتياب والغضب والرشاوى والمحاباة التي ترافقها. على المرء أن يتوقف عن انتقاد جائزة بعينها، مشيداً بغيرها ومقارناً بينهما: في الحقيقة، كل الجوائز فاسدة وفاشلة، بلا استثناء. بالأصل، لا يمكن لجائزة أن تكون موضوعية، لأنه لا يوجد موضوعية في أذواق الناس وفي خياراتهم الأدبية والفنية. كل الجوائز جزء من منظومة رأسمالية، تحتفي بأفراد محددين، فيما مئات آلاف العاملين في المجال، مثل الصحفيين والنقاد وعمال الطباعة وغيرهم، يُهمّشون بظلم فاقع، معنوياً ومادياً، في حالة نموذجية لعمل الرأسمالية.
في غياب الجوائز سيتحرر الكاتب والقارئ: ستصبح للكتابة كرامة من نوع آخر: يكتب الكاتب لأنه يحب الكتابة، أولاً وأخيراً: بوجود راتب ثابت أولي، ومع تحرره من المنافسة، سيعيش الكاتب للكتابة؛ وسيضطر بين حين وآخر للعمل اليدوي أو الذهني في قطاع الثقافة أو في قطاعات أخرى، ككل الناس في النظام الفوضوي. العميد طه حسين أيّد مثل هذا التوجه، رافضاً أعطيات الملوك والوزراء للشعراء في العصور السابقة، وجوائز الدولة في العصور الحديثة: مثل الفوضويين، يؤمن العميد بأن الإنسان لا يسعى فقط للربح، ويستشهد بالفقر المدقع الذي يعيش فيه الكتاب والمترجمون، ولكنهم يستمرون في الكتابة، كي يحققوا ذواتهم، حتى عندما يكون المردود المادي معدوماً تقريباً.
برتراند راسل نفسه حصل على جوائز عديدة، لم يرفضها، ومنها أشهر الجوائز على الإطلاق، جائزة نوبل في الأدب. الجائزة الغريبة العجيبة هذه، جائزة غربية بامتياز، نشأت في السويد لأن الملياردير السويدي غريب الأطوار، ألفرد نوبل، أنّبته نفسه قليلاً على الثروة الهائلة التي جمعها بسبب اختراع الديناميت، ذلك الاختراع الذي بحث عنه لعقود، عارفاً بنتائجه، وتسبب بمقتل أخيه في تجربة تفجير حماسية متفائلة فاشلة. تكاد تقتصر الجائزة على كتّاب غربيين: رُشّح العميد أكثر من عشر مرات للجائزة، ولم يحصل عليها: بل حتى في الغرب، تستثني الجائزة المشاغبين الذين سيُحرجون الجائزة لو تجرأت وقدمتها لهم: غابت الجائزة عن تولستوي وبورخيس وجويس، وحصل عليها كتاب من الدرجة الثانية والثالثة لا يذكرهم أحد اليوم. تعكس الجائزة ولع الغرب بتقديم نفسه على أنه كوني جامع، ومحب للثقافة، وحيادي موضوعي: تعكس كل ما يريدنا الغرب أن نصدقه عن نفسه، في حجم الجائزة المالية وما يرافقها من دعاية وتقديس لأفراد مميزين فعلاً، ولكنهم يعملون ضمن منظومة متكاملة: منظومة فشلت في كل شيء: في نشر الديمقراطية وفي الحفاظ عليها، وفي محاربة الاحتباس الحراري، وفي رفع الحصار عن غزة.
كتب خوليو كورتاثار روايته “الرابحون”، ساخراً من جوائز بدت أشبه بلعنة في نهاية الرواية. لعنة لم يتذمر منها الرابحون، ويسعى إليها دوماً الخاسرون. بلؤم ومرح وحرية، رفض صنع الله إبراهيم جائزة الرواية العربية في مصر، وانتقده الطيب صالح على هذا الرفض. أنا، عن نفسي، أقدم باستمرار طلبات على كل الجوائز والمسابقات، الجيدة والسخيفة، التي أحبها وأحترمها والتي لا أحبها ولا أحترمها، مؤملاً أي مردود مادي يأتي من مهنة الكتابة: يأكلني الحسد والغيرة عندما يحصل غيري على ما أعتقد أنه يخصني: أضبط نفسي كي لا أصرح بآرائي علناً. أغلي بغضب، ثم ألوم الناس واللجان على ذوقهم المتحجر: يحبون الروايات المليئة بالحشو، والأعمال المسيّسة، والواقعية الفجة، والفانتازية التي أصبحت تقليدية في العمق. بعدها ألوم نفسي على تقوقعي وعزلتي، فأنا المسؤول عن غياب اسمي المغمور عن الساحة الفنية والأدبية: فاشل تماماً في العلاقات العامة، بل وفي الخاصة أيضاً. في النهاية، أهدأ بعد أيام قليلة، ناسياً الجوائز، مكتفياً بحياة الزهد والوحدة، فرحاً بكتّاب القصة والمقال الذين أعود إليهم وأحبهم وأتتلمذ على أيديهم، راضياً قانعاً بمحاولاتي البسيطة المترددة المتواضعة لإضافة زينة صغيرة على قالب الحلوى الكبير الذي خبزوه لنا: أكثر من ذلك، أنا في الحقيقة أحب خساراتي وأفخر بها، وأحب الخاسرين عموماً: أحب اللاجئين الذين يفشلون في الاندماج، والمطلقين والمطلقات، والوجلين الذين يركضون للسلام على المشاهير ثم لا يجدون ما يقولونه، والرماديين الذين لم يتخذوا موقفاً سياسياً جبناً وخوفاً وضعفاً، والكتّاب الذين تجاوزهم الزمن أو تجاهلهم النقد: وأحب الخسارات التي لا تعني الكثير: فتاة تنتظر نصف ساعة فتاها الذي سرقه النوم منها، والنوم سلطان كما نقول في الشام؛ طفل أسقط البوظة على الأرض وانفجر ببكاء لا عزاء يواسيه؛ زوج عرف أن الوجبة التي أمضى نصف اليوم يعمل عليها في المطبخ لم تعجب أحداً؛ أستاذ الرياضيات يجزع من إجابات طلابه الغبية في الامتحان: أحب الخاسرين، وأعرف أن الجوائز لعنة يسعون إليها باستمرار، لعنة لم يتذمر منها الرابحون يوماً.
تحكي جدتي عن ورقة يانصيب شهيرة في تراث العائلة: الورقة الوحيدة التي اشترها جدي في حياته، مناصفة مع ابن عمه. لم يؤمن جدي بالحظ: رجل عصامي عاش حياة هادئة كموظف مرموق. ألصق نصف البطاقة على باب البيت، ساخراً من ابن عمه. ربحت البطاقة الجائزة الثانية. فكّ جدي الباب وذهب لاستلام جائزته.
أنا، كجدي، لا أؤمن بالحظ: ولكنني، على العكس منه، أشتري باستمرار بطاقات يانصيب، والبطاقات التي يحكها المرء كي يربح: أنا وملايين الفقراء واللاجئين: ننتظر يداً إلهية كي تساعدنا. نعلم أننا سنخسر، ولكننا نسمع بقصص جدي وغيره من أولئك المحظوظين، فيتخلخل إيماننا العقلاني الهادئ، لنشتري بطاقات كثيرة تتراكم فوق الخطايا الأخرى التي سيشاورنا فيها منكر ونكير قبل عذاب القبر. للأسف، لم أربح مرةً. لم يؤثر هذا في عاداتي: بقيت أشتري البطاقات، كأولئك المؤمنين بآلهة سماوية: ينتظرونها بصبر: تحت قصف الطائرات، في الأعياد والأعراس والجنازات، في مخيمات اللجوء: ينتظرون العمر كله: هل هناك بديل عن الانتظار؟
أفكر في جدي سعيد الحظ، الذي لم يطل انتظاره: فك باب البيت، وركض به كي يستلم جائزته: تاركاً بيته مشرّعاً مفتوحاً لعابري السبيل، ينظرون بفضول داخله: عائلة بسيطة تعيش حياتها اليومية، بدون باب يحميها، بعد أن ضربتها لعنة الرابحين!