ثمانية أفلام من إنتاج “مؤسسة الدوحة للأفلام” تشكل بتجمعها برنامج “مسرّات قطر”، وتقدم صورة بانورامية لواقع السينما القطرية، على تفاوت مستوياتها فنياً، وتعدد مضامينها، وانحياز جلها نحو الاجتماعي كثيمة أساسية تجمعها، وتقدمها للمشاهد وجبة متعددة النكهات ووجهات النظر في طريقة طهي الأفلام على نار هادئة أو لهيب حارق، لتبقى في نهاية المطاف، ولو ليس في كلّيتها، تجارب مهمة قد تحدث مع التراكم علامات فارقة على المستوى العربي.
نكهة هوليوودية
يرصد فيلم “شهاب”، حكاية آمنة، تلك الطفلة التي تحلم بمشاهدة نجمة، وتبدو متمردة على التقاليد الاجتماعية، حيث ترى في رائحة السمك ما يثير الاشمئزاز، وتستغرب طرح أمها الرافض لسلوكها، ومحاولات الأم اليائسة بالبدء منذ الصغر بتأهيلها كي تكون “زوجة مثالية” في المستقبل، تحضر الطعام لزوجها، وهو ما ترفضه مشيرة بأن زوج المستقبل عليه أن يطهو لنفسه، وأن “الطبيخ” ليس مهمتها بالضرورة.
وبتقنيات سينمائية عالية، تسير الفتاة في إطار لا يغفل استخدام العناصر الجمالية للبيئة الخليجية التقليدية، بل والبدائية، وهذا يسجل للمخرجة أمل المفتاح على مستوى المضمون، الذي يضع الفتاة في إطار من المنظومات القيمية المخالفة لطموحاتها، والمبرر ضمن بيئتها، وعلى مستوى الإخراج، والتقنيات المرافقة من إضاءة وموسيقى تصويرية، بحيث تجعل منها أقرب إلى تلك الشخصيات الأسطورية في أفلام الرسوم المتحركة الهوليوودية، بينما لا يخلو الفيلم من أساطير على شكل حكايات تسردها الأم، كحكايات الجدات المتوارثة، تبعاً للجغرافيا والواقع الاجتماعي والثقافي.
وعلى مدار ثلاث عشرة دقيقة، تحاول الطفلة الخروج من عباءة الأنثى التي كانت ولا تزال ترافق كل المحيطات بها على اختلاف أجيالهن، فتمتطي مركب والدها قبل أن ينطلق إلى البحر، ويقرعها شقيقها سلطان ذات مرة، على سبيل المثال، هي التي تمارس أحلامها في ليل النائمين، وحين يُكتشف أمرها يتبدل حال الأخ إلى حام ينسب ممارساتها الليلية في الخروج من المنزل، وغيرها، إليه، كي لا تُعنف، ولو لفظياً من والديهما الصيّاد، بل ويشاركها رحلتها المسائية بحثاً عن نجمة تهوي، فتقود مركب الأب بمفردها إلى حيث الأمواج التي كانت تبدو ساكنة، وهنا يحدث التحول الأبرز في الفيلم، فلا تسقط غريقة في البحر، بعد أن كادت، في حين تحقق أمنيتها بأن تكحل عينيها بمشهد الشهاب وهو يهوي إلى البحر، أو إلى حيث يشاء.
التجريب ما بين كشف وتغطية
لا يمكن للمشاهد إلا أن يُعجَب بما قدمه المخرج مهدي علي علي في فيلمه “المسرح المكشوف” الذي كتب السيناريو له أيضاً، فالفيلم ممتاز بلا مبالغة، في من التجريب والتجريد والأنماط السينمائية المتعددة ما يؤهله لذلك، الخليط هنا بمذاق يجعلك تدمنه، وتريد مشاهدته أكثر من مرة، لتكتشف سر الخلطة.
على ضفاف الحي الثقافي “كتارا” في العاصمة القطرية، وفي قلبه، يضرب علي في خلاطه السينمائي، مَشاهد يمكن للمُشاهد تجميعها لا على الترتيب، وفي كل الحالات سيخرج بفيلم مذهل، ليس على مستوى الصنعة السينمائية التي هضمت السينما العالمية بكل حداثتها وما بعد حداثتها وطوعتها لخدمة أطروحات جدلية حول الكشف والتغطية، على مستوى الوجه بالخمار أو البرقع، والجسد بالعباءة، والصوت بكتمه، وليس بعيداً عن تطويع تقنيات العصر كعصا “السيلفي” والدراجات النارية الحديثة، وتقنيات السينما “البازل”، وسينما التركيب، أو سينما “الليغو”، وسينما الخط المستقيم، والخط المتقطع، وحتى الدائرية، وهي ربما مصطلحات دراجة لا على مستوى الطرح النقدي الأكاديمي، ومنها ما هو مبتكر أو مستوحى من أوصاف أطلقها سينمائيون وكتاب مراجعات ونقد انطباعي وصحافة نقدية عالمية، حيث تسقط الأقنعة كلها، أو شيئاً منها، ويستحيل السواد ألواناً على أجساد البشر، بينما الأكياس السوداء تغطي الجمادات من مطر بدأ أو على وشك، في حين كان المسرح المفتوح مساحة للآهات الجوانية والبرّانية الخارجة من حنجرة من خلعت سوادها، وارتدت الحياة كما تريد.
مكبلو الأقدام
في فيلم “وقتنا يمضي” للمخرجة مريم مسراوة، والمنتج كغيره في هذه الباقة المتنوعة من “مؤسسة الدوحة للأفلام”، مساحة من التجريب المذهل، حيث اسئلة الوجود، والحرية، ومقاومة الاستبداد، عبر مجموعة يافعين في منطقة نائية، كلهم مكبلو القدم اليمنى، ويتحكم في مصائرهم الحاكم “فا”، ويحمل كل منهم كما الحاكم اسماً من حرفين كـ”نا”، و”فا”، و”ما”، ويتحدثون بلهجات مختلفة كالفلسطينية والأردنية واللبنانية والسورية والمصرية وغيرها، في محاكاة سينمائية فائقة الجودة، وإن كان أداء الممثلين يهبط بالفيلم قليلاً.
الفيلم يتحدث عن “الخلاص” بشتى أشكاله، وهو ما ينجح في تحقيقه “نا” الذي يعاقب لمخالفته أوامر الحاكم “فا”، ويجد صديقه قد سبقه إلى حيث الشق الذي يبدو رمزاً للسجن الأزلي، وحين يهم باختراق تلك المنطقة الضيقة فيه، والتي يوهمون بأنها “غير آمنة”. يجد خلاصه إلى حيث الماء بعيداً عن يابسة الصحراء والحبال ونيران العقاب، فيَفك قيد رجله اليمنى، ويعبر الماء الضحل إلى يابسة مخضرّة قليلاً، لكنها ليست الجنة، وإن كانت ليست جهنم التي كان يعيشها، وترك فيها الخانعين.
عندما تضيق غرفة الذاكرة
وفي “مجرد ذكرى” لمريم الذبحاني، تبدو الصورة على المستوى الاجتماعي مغايرة، فالمرأة تتابع أخبار الحرب في بلدها اليمن، وزوجها يمارس الطهي، إلا أن الفيلم بالأساس يتناول الأوضاع في اليمن، والحرب الدائرة فيها، دون الانحياز لأي من أطراف المعادلة المعقدة هناك، بقدر الانحياز للضحايا، أي اليمنيين عامة، وإلى ذكريات المكان الذي كان يكنى بالسعيد، وبات تعيساً، وذكريات الشابة اليمنية المغتربة فيه.
ويؤخذ على المخرجة أنها لم تتمكن من التعاطي مع حيز تصوير الفيض الضيق بما يشغله على المستوى البصري، وكأنها لم تدرك أنها تخوض باقتصار التصوير في غالبية مشاهده داخل مساحة ضيفة مغامرة كبيرة على المستوى السينمائي يتطلب منها تعبئة فراغات الحكاية بما يقنع المشاهد على المستوى البصري، وعلى مستوى تماسك عناصر السرد داخل الفيلم، وهو ما لم توفق به، فبدا متقشفاً، رغم محاولات فتح نوافذ عبر محادثات الفيديو واستعراض الصور الفوتوغرافية، أو عبر المشاهد الواقعية للحرب التي تطاردها في خلفية كوابيسها، وفي خلفية الشاشة، أو حتى في أحشائها، فهي محاولات لم ترق لتكون عناصر جاذبة باتجاه فيلم يحقق عنصر الإبهار، رغم أهمية جدلية الواقع والذكريات، ليتحول الفيلم مع الوقت إلى أشبه بتقرير تلفزيوني طويل في أربعة عشر دقيقة، لم تشفع له رسائله الإنسانية.
“السوبر هيرو”
وليس بعيداً عن فكرة “لن أعيش في جلباب أبي” تدور أحداث فيلم “أنا مب أبوي” (لست أبي) للمخرج نايف المالكي، والحاصل على منحة “صندوق الفيلم القطري”، حيث العلاقة الجدلية ما بين الطفل “جاسم” ووالده، فالأول يسعى لأن يخرج من المربع الذي يسعى الثاني لتوريثه إياه، أي البقاء في إطار العمل كـ”ميكانيكي سيارات”، وهذا يظهر منذ المشهد الأول حين يعنف الأب ابنه الراغب بدراسة الهندسة عند الكبر، بل ويسخر منه بأن لا ينقصني إلا أن تصم آذاني بطموحات أكبر كأن تصبح طبيباً أو وزيراً، وهو الأب الذي يمارس القمع اللفظي والتعنيف تجاه طموحات ابنه، بل ومحاولات التعبير عما يراه ويجول في خاطره!
وفي مشهد “روبن هودي” ينجح جاسم في تحقيق البطولة التي يحلم بها في وعيه ولا وعيه، حين ينتصر لزميل له يتعرض لتعنيف من آخر داخل غرفة الصف، فيتعرض لتعنيف الأب مجدداً، بل وتزداد الجرعة هذه المرة بحبسه في غرفته ورمي دفتر رسوماته وكتاباته على الأرض، قبل أن تحدث تدخلات الأم نجاحاً لا يدوم طويلاً في حوار ما بين تشديد الأب على الدراسة، وتفكير الابن بـ”السوبر هيرو”، قبل أن يتحقق له ذلك حين يكتشف الأب رسمة لابنه تقود الشرطة إلى لص في الحي كان اكتشف الطفل أمره، وحال قمع الأب دون الحديث في الأمر، وتحدث المصالحة بين الاثنين في فيلم بسيط لكنه عميق الدلالات، وسر نجاحه خلوه من الحشو الزائد، وإن خلا أيضاً من الإبهار على المستوى البصري.
المضمون والبيئة
وليس بعيداً عن غالبية الأفلام في الانتصار للمضمون أولاً، والرسائل التي تتضمنها، يأتي فيلم “القبقب” للمخرجة نوف السليطي، الذي وعبر شخصية الطفلة “جواهر”، وخلال رحلة صيد “القباقب”، ينتصر لفكرة تقبل ريادة الأنثى على حساب الذكر، والإيثار، والكرم، والشجاعة، في رحلة بصرية تسلط الضوء على طقس خليجي تقليدي.
ويظهر فيلم “التبييض” للمخرجة إيمان ميرغني، الدوحة الحديثة ببناياتها الشاهقة، وشوارعها النظيفة، والجانب الحداثي فيها بالمجمل، عبر حكاية سودانية مصرية تقيم في الدوحة تناقش موضوع “العنصرية” من زاوية خاصة، فهي تبحث وراء أسباب محاولات نساء بشرتها الساعيات لتغيير في أشكالهن وتحديداً لون بشرتهن الداكنة، ولماذا لا يقبلن بأنفسهن كما هن. هنا تبدأ رحلتها في إعداد فيلم داخل فيلم عن هذه “الظاهرة”، كما تراها هي، فتقابل العديد من النساء أولهن اسمها حباب التي رفضت التصوير قبل تبييض وجهها ويديها بنوع معين من الكريمات المخصصة لذلك الغرض، بل كانت عدائية تجاه المخرجة داخل الفيلم ونزعت عنها هويتها السودانية، لتواصل رحلتها مع “التبييض” الذي أجبرت عليه صغيرة بطريقة أو بأخرى، وباتت ترفضه، لقناعتها بأنه يخدش بل يجرح عميقاً تكوينها الإنساني كما خلقها الله، في حين يرينه الأخريات وسيلة للانخراط في مجتمعات عربية تطلق عليهم بوعي أو بدونه لقب “عبيد”.
أما فيلم “ناصر يذهب إللى الفضاء” للمخرج محمد المحيمد، الذي راوح ما بين الرسوم المتحركة والروائي القصير، فإنه وقع أيضاً في متاهة المضامين، فانتصر لفكرة تأثير الانفصال ما بين الوالدين على الأطفال الذين يهيمون ما بين واقع وخيال، ولا يدركون كل ما يحدث حولهم، كما في حالة “ناصر”، فكانت الفكرة سيدة الموقف على حساب العناصر السينمائية الأساسية منها والمساندة، وهو حال عديد أفلام “مسرّات قطر”.