يخرج صوت مخرج المسرحية، لا مخرج الفيلم هنا، بكلمات من أشعار محمود درويش تختصر الحكاية “هم يسرقون الآن جلدك فاحذر ملامحهم وغمدك… كم كنت وحدك يا ابن أمي، يا ابن أكثر من أبٍ، كم كنت وحدك… القمح مُر في حقول الآخرين والماء مالح والغيم فولاذ وهذا النجم جارح، وعليك أن تحيى وأن تحيى، وأن تعطي مقابل حبة الزيتون جلدك… كم كنت وحدك يا ابن أمي، يا ابن أكثر من أبٍ، كم كنت وحدك.”
في منتصف طريق المسرحية، يرفض أحد الشابين هنا، على عكس مسرحية صمويل بيكيت الشهيرة، البقاء على المقعد والاكتفاء بمناجاة الله لعل الأمور تتحسن أو “تنفرج”، فيحمل حذاءه ويترك الثاني وحده على المقعد، ثم يعود إليه بعد حين لينتظران اللاشيء بعدها.
كان من المفترض إطلاق اسم “ناطرين فرج الله” على المسرحية أيضاً، لكن كان اسمها النهائي “جودو فرج الله”، وهي مسرحية يرى ممثلوها وكأنها تستنسخ واقعهم الصعب حد التسلح فقط بالانتظار، كما حال فلاديمير واستراغون في المسرحية الأم، والتي نعرف في سياق أحداثها، أن هذين الرجلين الصديقين منذ قرابة النصف قرن، طُلب منهما أن ينتظرا “غودو”، إلى جانب الشجرة في ضوء القمر، دون أن نعرف من قال لهما ذلك أو متى. إنهما فقيران من غير سبب، أما بالنسبة إلى “غودو”، فلا نعرف أيضاً من أو ما هو، ومع ذلك يبقى الصديقان على إصرارهما الشديد بلقائه، ويبقيان ينتظران لقاءه منذ مدة غير محددة، إلى مدة غير محددة أيضاً، وكأنه فعل مستمر، فعل سيرورة يتحول إلى فعل كينونة، أو تشكيل لقدَر ما.
وعلى عكس المسرحية الأم المفتوحة على التأويلات، يتنقل بدارنة في فيلمه “ناطرين فرج الله” ما بين خشبة المسرح، ومسرح الحياة، ليحكي كل من مخرج المسرحية و”أبطالها” حكاياتهم، وهواجسهم، وأحلامهم “المستحيلة”، فتأرجحت الكاميرا ما بين محمود أبو جازي، وإبراهيم حريفة، وعماد صح، وعدي غنايم، وعماد ياسين، ولمى نعامنة، وجابر قراقرة، وورد قراقرة، ودانا أبو شريف، وعبير نعامنة، وعادل دراوشة، وباسل بشير، ودارين كناعنة، وعلي حلو، وهلال صح، وطرب نعامنة، على خشبة المسرح، وفي كواليسه، وكواليس يومياتهم، حيث الحديث عن البطالة، وعن التفرقة العنصرية ضد العرب، وعن رخص البناء المستحيلة من السلطات الاستعمارية للعرب الفلسطينيين من أصحاب الأرض، وعن غياب الدعم للفعل الثقافي، واللامساواة مع اليهود حتى في هذا المجال، رغم كونهم “قاعدين في أرضنا”، على حد تعبير إحدى ممثلات المسرحية/الفيلم.
وبينما تحمل رائعة بيكيت تأويلات عدة، فهناك من وجدها تتحدث عن الموت، وهناك من رأى أنها تنحاز للحديث عن الفقر، وآخرون وجدوها مسرحية عن الحرب أو معسكرات الاعتقال أو حتى المسيحية، لتبقى صندوقاً أسود، أبى بيكيت فتحه، نرى فيلم بدارنة، وهو الوثائقي الأول له، واستغرق العمل فيه ثلاث سنوات، يذهب مباشرة ودون مواربة إلى التقاط عواطف وأحلام الممثلين الشباب، من الجنسين، والمراوحة ما بين أدوارهم في المسرحية وأدوارهم في الحياة، فكما قال أحدهم: “كلنا ننتظر المستقبل، ونتمناه أفضل، لكن لا يبدو أنه سيكون أفضل… يبدو الحلم هذا مستحيلاً”.
تظهر في الفيلم حكايات عدة تستحق عدسة مجهرية، كحكاية لاعب كرة القدم، وهو من بين ممثلي “جودو فرج الله” بطبيعة الحال، والذي يعيش حالة التباس على الصعيد الوطني، ما بين الطموح باحتراف كرة القدم، وما بين عدم رغبته الصارمة بالانضمام إلى منتخب إسرائيل لكرة القدم، الذي هو قمة هذا الطموح لأي لاعب في هذا المحيط المغلق، في وقت يمني العرب الفلسطينيون النفس بالانضمام إلى منتخب يحمل علم بلادهم، علم فلسطين، وهي جدلية صعبة، كالانضمام إلى الكنيست من عدمه، أي القبول بالتهميش وانتظار “فرج الله”، أو اقتحام هذه العوالم في ظل تفاقم حالة اللامساواة والعراقيل المتعددة، وتأنيب ضمير الهوية إن جاز التعبير.
ومن بين الحكايات، حكاية فرقة الدبكة في مدينة عرابة داخل الأراضي المحتلة العام 1948، حيث جغرافيا المسرحية والفيلم، والتي شاركت في عديد المهرجانات الدولية عبر مركز محمود درويش فيها، فبرزت “أزمة العلم”… كان لا بد من رفع علم الدولة التي تمثلها الفرقة، وهي لا تمثل فلسطين بشكل رسمي، ولا تمثل إسرائيل أو بمعنى أدق لا تريد الفرقة تمثيلها، فخرج أعضاؤها بفكرة رفع علم البلدية، أي علم مجلس عرابة المحلي!
وتجدر الإشارة إلى أنني آثرت الحديث عن موضوع الفيلم وارتباطاته بمسرحية صمويل بيكيت، أكثر من الغوص عميقاً في الفنّيات، فهي سينما متقشفة، بسيطة، أقرب إلى الأفلام التسجيلية، مع أنها لا تخلو من لمحات فنية، وباعتقادي لولا الاتجاه إلى المسرح داخل الفيلم، وهي تقنية ليست بالجديدة عموماً، لكان الفيلم أشبه بتقرير تلفزيوني طويل، البطل فيه للموضوع، وهو ما قد يأتي على حساب الصورة، وابتكار تقنيات جديدة مع الاتجاه نحو إعطاء بطولات متعددة للإضاءة والصوت وحركة الكاميرا، التي كانت ترتج مرّات ويعتريها الغباش مرات أخرى، كواقع الشباب أنفسهم.
لكن الفيلم أيضاُ، وعلى مستوى التوظيف المسرحي داخل السينما، لم يقدم ما هو جديد أو مبهر، وإن كان ما قدمه أصيلاً، تلقائياً، فلسطينياً بامتياز، وهو ما يحسب لبدارنة لا عليه، خاصة أنها تجربته الأولى. ولعل أبرز ما يؤخذ على الفيلم، أنه غير متعدد زوايا التصوير، ولم يراع في عديد المشاهد تلك المعادلات الدقيقة لجدلية الضوء والظل، علاوة على تكرار الفكرة على لسان أكثر من شخصية، وهو، وأمور أخرى، قد تسمح للملل بالتسلل إلى المشاهد عنوة، بكثرة أو دونها.
وفي النهاية، يمكن القول بأن فيلم “ناطرين فرج الله” يأخذنا في رحلة إلى ما وراء كواليس مسرحية من صنع مجموعة شباب فلسطين، بحيث تُعرّفنا على مجموعة متنوعة من الشخصيات: مخرج المسرحية والممثلين وغيرهم من الأشخاص العاديين المحيطين بهم، وبينما نتعمق أكثر في حيواتهم، يكشف الفيلم عن التوازي شبه المتطابق بين موضوعات المسرحية وتلك الخاصة، حيث انتظار الجميع لشيء ما، ينتظر أبطال الفيلم/المسرحية شيئًا قد يأتي أو لا يأتي.