ورغم الانقطاع الجغرافي ما بين أعمال الطابقين، إن جاز التعبير، وما قد يخاله البعض في تنويعات المعرض، فإن التشابك والاشتباك حاصل في تكويناته: خوذات الجنود العابرين، والطبيعة الفلسطينية التي هي “لنا”، وجسد الأنثى زيتوني الجذور، في تناغم مفتوح على التأويلات، فالجنود المحتلون الراحل منهم والباقي منذ عقود لا يزالون يستبيحون الأرض والجسد الفلسطيني، وهو ما عبرت عنه تماري بجمالية تبدو سلسلة، لكنها صعبة في عمقها، فالتعبير الجمالي عن الحرب والاحتلال أمر في غاية التعقيد، ومغامرة كبيرة، نجحت الفنانة القديرة هنا في تجاوزها باقتدار العارفة لما تريد، والمالكة لرؤاها وأدواتها، والمؤسسة المتجددة.
ومن يمر في تفاصيل “محارب” فيرا تماري، يبدأ مع رقصة في قطعتين من قماش وأصباغ وألوان مائية كأنها البحر، وعلى جوارهما ثلاث قطع من ذات المواد تتأرجح ما بين “فجر” و”عبودية” و”الملاذ الآمن”، في معرض يشكل ما بين أعماله النحتية من السيراميك وأخرى تركيبية ورسومات نقطة تحول متعددة الأبعاد في مسيرة فيرا تماري الفنية الممتدة على قرابة خمسة عقود.
في معرضها هذا تتكئ تماري على ذاكرتها الحميمة ورؤاها الشخصية المضطربة والحميمة خاصة في تعاطيها مع المشاهد الطبيعية، بل تذهب إلى مساءلة الماضي لأرض هشة مثقلة بالنزاعات والحروب، في تأرجح فني مبدع ما بين تأملات الطبيعة الكلاسيكية منها والأقل كلاسيكية بجمالياتها، ودون أن تغفل، في ذات الوقت، العواقب القاسية للحروب المتتالية والمستمرة في وعلى الأرض المحتلة، كما هي عواقب الموت المجاني المتواصل منذ فقدان البلاد.
وتظهر تلك النوستالجيا في عديد تكوينات المعرض، كعملها “صباح مبكر في نوفمبر” المكوّن من تسعة صور وثلاثة فيديوهات، يعكس ذلك المشهد الذي كانت تراقبه تماري كل صباح خريفي عبر إطار نافذة بيتها لانعكاسات الشمس المتلألئة على أوراق شجرة المشمس في حديقة البيت، راصدة تلك اللحظات المرئية عبر سنوات مستعينة بهاتفها المحمول، حيث تموج بنا هي وصورها ما بين ضوء وظلال يوحي بصفاء داخلي، سرعان ما يزول، بعد أن تتذكر الفنانة “أن لدينا واقعاً مغايراً لذلك المشهد الهادئ… واقع يشوبه الفقدان والعنف”، والأمر ذاته ينطبق على سلسلة لوحات “يافا بحر لنا”، و”أمواج”، و”كما في حلم”.
في حديث لـ”رمّان” مع فيرا تماري، قالت: إن الطبيعة الفلسطينية لطالما كانت وشكلت جزءاً من أعمالي الفنية، لكن رسومات هذا المعرض باستخدام مواد جديدة، اكتشفت ذلك الكم الكبير من الحنين والشاعرية داخلها… عالجت كثيراً في السابق موضوع الأرض المهشمة بسبب الاحتلال وفعله المستمر لجهة تخريب التاريخ والذاكرة الفلسطينية بالأعمال الفخارية، لتكشف أنها، وبينما كانت تقوم بعملية بحث حول الطبيعة الفلسطينية، استوقفها شيء من شعر محمود درويش “ومر المحارب من هنا”، وهنا تساءلت تماري “وكم من محارب مرّ من هنا”، فكانت شرارة المعرض.
خوذ المحتلين
وليس بعيداً عن الحلم ينتصب المحاربون في عمل تركيبي يحمل المعرض اسمه “وكم من محارب مرّ من هنا”، وهو عبارة عن خوذ حربية متعددة الأشكال مصنوعة من الخزف، بحيث تمثّل مجموعات الجيوش المتعددة التي احتلت فلسطين عبر التاريخ، تتآلف مع لوحات تمثل الأرض وحقول الزيتون، والتي تعاني منذ قرون وإلى يومنا هذا من تشوه يتفاقم بفعل الحروب والاحتلال.
وأكدت تماري في حديثها معنا: صنعت الخوذ من مادة هشّة سهلة الكسر، أي الفخار أو السيراميك، وكأني آمل أن كل هذا التاريخ القاسي الذي مرّ على فلسطين، ومرّت فيه، من دمار وحروب على مدار قرون خلت، سهل الكسر.
أما الناقدة الفنية بيني جونسون، فرأت أن تماري مثلت العنف في هذا المعرض، من خلال عمل تركيبي لمجموعة من الخوذ الفخارية لغزاة الأرض الفلسطينية من العصر البرونزي إلى وقتنا الحاضر، وتساءلت “كم من محارب مرّ من هنا؟”.
جسد أنثوي زيتوني
توحي سلسلة الأعمال النحتية الخزفية السيراميكية التي حملت عنوان “جسد أنثوي”، بأن هناك اتجاه مغاير في مسيرة تماري باتجاه رصد جسد الأنثى الحسي الفاتن والمثير، لكن سرعان ما يتكشف زيف هذا الإيحاء لكون هذه التكوينات الجسدية النسوية ليست إلا محاكاة بصرية لتشكيلات رصدتها عين الفنانة من وحي أشجار الزيتون الفلسطينية التي تستباح على يد الاحتلال وعصابات المستوطنين، كما تستباح النساء في الحروب.
شددت تماري: أنا متعلقة جداً بشجر الزيتون، وأرى فيه عضوية رهيبة في طريقة التكوين، وامتزاج أشكال جذوع هذه الأشجار على وجه الخصوص، والتي كانت تتخذ في كثير من الحالات شكل الجسد الأنثوي، الذي يعبر بانحناءاته عن حياة تضج… منحوتات “الجسد الأنثوي” جميعها مستوحاة من هذه الانحناءات، وبالتالي هي ليست أعمالاً غريزية بقدر ما هي تعبير إضافي عن الأرض الفلسطينية المستباحة.
بدورها أشارت جونسون إلى أن الفنانة فيرا تماري جسدت اقتلاع الجيش الإسرائيلي والمستوطنين أشجار الزيتون في حقول فلسطين بشكل منهجي في تشكيل ست وستين شجرة من الصلصال لوّنتها بألوان فاتحة ونضرة في “حكاية شجرة” العام 2002، والآن في هذا المعرض تستعيد رؤيتها للطبيعة عبر تحوّل النساء إلى أشجار زيتون ملتوية أو بتفسير آخر تحوّل أشجار الزيتون إلى أجسام أنثوية حسيّة، لافتة إلى أن الفنانة هنا تحوّلت بشكل واضح لجهة التجريد.
وتضيف جونسون بأن فيرا تماري كواحدة من الفنانين ذوي الخبرة، تضع المتلقي المشاهد لأعمالها في معرضها الجديد ليس فقط أمام متعة من نوع خاص، بل أمام تحدّيات عديدة، سواء أكان الناظر لأعمالها من بين الزوار الذين تابعوا أعمالها على مدار عقود أم كانوا زوّاراً جدداً يتعرفون إلى أعمالها للمرة الأولى في “وكم من محارب مرّ من هنا”.
وفي النهاية خرجت فيرا تماري في معرضها الشخصي “وكم من محارب مرّ من هنا” بأعمال تنطوي على تأثيرات ومهارات متعددة الطبقات، تشكل نقطة انطلاق جديدة لها، كما خرجت بمزيج مبهر على المستوى الفني والتوليف ما بين العناصر المختلفة، وعلى مستوى البحث أيضاً، وكأن الاستباحة، كما ظهر في أعمال المعرض، تمتد إلى ما وراء الطبيعة والجسد، مؤكدة ما كانت تذهب إليه باستمرار باعتبار الحافز وراء إنتاج أعمالها سيبقى “تعزيز السعي وراء ما هو حقيقي وأصلي”، متسلحة بـ”الأحاسيس الحقيقية والشعور العميق بالالتزام”.