سأبدأ هذه المداخلة ببعض دعابات حول الصورة وتشكلها، فلعل ذلك يضيء، بشكل مبسط، الفرق بين الكتابة عن القدس من الداخل والكتابة عنها من الخارج.
لما عاد راوي رواية الطيب صالح من لندن سأله أهل قريته عن الإنجليز، فأجابهم بأنهم بشر مثلنا يحبون ويتزوجون ويمرضون. ما قاله الراوي وهو قولٌ صدرَ عن معاشرة الإنجليز يختلف عن الصورة المتخيلة لهم في ذهن سكان القرية.
ولما سافر أحد معارفي إلى ألمانيا لم تستقبله الألمانيات استقبال المرأة الرجل الوحيد على الأرض، فلم يجد أصلاً امرأة في استقباله ليروي ظمأها، وحين تعرف إلى طالبة أدب ألماني أنفق معها وقتاً ولم ينل منها شيئاً، فاستغرب، إذ إن الصورة المتخيلة في ذهنه للمرأة الألمانية والأوروبية مختلفة عما رأى، فقد كان يعتقد أنه ما إن يصل إلى هناك حتى يجد الفتيات يتمايلن عليه.
ثمة اختلاف إذن بين الصورة المتخيلة والصورة الحقيقية، وهذا الاختلاف هو ما لاحظه ثيودور هرتسل منّظر الحركة الصهيونية.
كانت صورة القدس في ذهن هرتسل مستمدة من العهد القديم ومن الأشعار التي كتبها الشعراء اليهود في المنفى عنها، وهي صورة جميلة مشرقة صادرة عن بنية ذهنية متشكلة من قراءات ومن بؤس حياة المنفى ومن علاقتهم بمكان روحي، فلما زار المدينة أصيب بالخيبة، إذ رأى قدساً أخرى. لقد رأى مدينة شوارعها قذرة يكثر فيها المتسولون وينتشر الذباب على الطعام فيها، فتساءل:
– أهذه هي مدينة الآباء والأجداد؟
وحلم هرتسل بإعادة بناء المدينة لتضاهي منطقة الريفيرا في فرنسا وأحياء فيينا الراقية. ما يخلص إليه المرء من خلال تصورات القدس في رواية هرتسل هو أن الصورة المتشكلة، عن بعد ومن خلال القراءات، تختلف عن الصورة المتشكلة من المشاهدة والمعايشة والإقامة في المكان لفترة طويلة.
ما سبق يعيدنا إلى دكارت. لقد هجر هذا الكتب والمدرسة وما تعلمه فيها وأراد أن يعتمد على ما يعيشه ويجربه. أراد ببساطة اختبار الأشياء من خلال معاينتها.
في القرن التاسع عشر درس الناقد الفرنسي هيوبولت تين الشعر الإنجليزي معتمداً على ثلاثة عناصر هي المعيش (البيئة) والمشاهد (العصر) والموروث (العرق). إن ما يشاهده المرء وما يعيشه يترك أثراً في نصوصه.
في العام ١٩٨٢ كتب الفرنسي جان جينيه «أربع ساعات في شاتيلا» عن قرب. كان في بيروت وتسلل صبيحة يوم المجزرة إلى المخيم وكتب، ورأى أن الكتابة من داخل المخيم، عن المحزرة، تختلف اختلافاً كلياً عن الكتابة عنها من باريس اتكاءً على الصورة، فالصورة لا يمكن أن تنقل رائحة الجثث مثلا ً
في الكتابة عن الفرق بين رواية القدس التي تكتب من الداخل وتلك التي تكتب من بعيد -ولكي أقنع كتاباً كباراً- لا بد من استقراء النصوص الروائية وقراءتها قراءة داخلية وملاحظة الاختلافات بينها، فثمة كتاب يصرون على خطأ ما أذهب إليه، وحجتهم أن هناك كتاباً مشهورين؛ عرباً وغير عرب؛ قديماً وحديثاً، كتبوا عن أماكن لم يقيموا فيها ولم يعرفوها إلا من خلال الكتب.
سوف أقرأ أكبر قدر ممكن من الروايات التي أنجزت عن القدس وحصلت عليها، لألاحظ مدى التشابه والاختلاف بينها. إن المنهج الاستقرائي هنا يسعف إلى حد بعيد. وهو ما كان على أية حال. لقد التفت وأنا أقرأ الروايات المتوفرة إلى الآتي:
– صورة المكان وعنصر الوصف ودقته.
– اللغة الروائية واللهجات وأهمها اللهجة المقدسية – أعني التعدد اللساني.
– تصور الذات وتصور الآخر؛ اليهودي وغير اليهودي
فماذا لاحظت؟
لو قارنا بين وصف المكان وحركة الشخصيات فيه، في روايتي عارف الحسيني «كافر سبت» و «حرام نسبي»، وبين وصفه في روايات واسيني الأعرج «سوناتا لأشباح القدس» وعلي بدر «مصابيح أورشليم» وحسن حميد «مدينة الله»، لوجدنا اختلافاً بيناً واضحاً، فعدا عن الدقة في تحديد الأماكن ووصفها هناك حركة الشخصيات فيها.
ولو تتبعنا التعدد اللساني في روايات المقدسيين أبناء القدس مثل عارف الحسيني وعيسى عيسى القواسمي «عازفة الناي» وقارناه بالتعدد اللساني في روايات الأعرج وبدر وحميد للاحظنا أن اللهجة المقدسية تظهر لدى الحسيني ولا نطالعها في روايات الثلاثة المذكورين. مرة استضفت عارف الحسيني في مساق “القدس في الأدب العربي” ليتحدث عن روايتيه وسألته إن كانت هناك لهجة مقدسية خاصة ظهرت في روايته، فأجابني مؤكداً، وضرب لي مثلا ً.
قال لي عارف إن لفظتي “الوشتي” و”شت لي” لفظتان مقدسيتان بامتياز ، ولن تجدهما في روايات غير المقدسيين، وينسحب على اللهجة المقدسية حضور اللغة العبرية التي تجري على لسان الشخصيات دون افتعال، ولا أذكر مثلاً حضور مفردات مقدسية وعبرية فيما كتبه حميد والأعرج. لقد أحصيت في روايتي الحسيني عشرات المفردات العبرية التي كان ورودها عفو الخاطر نتيجة احتكاك الشخصيات المقدسية بالشخصيات اليهودية.
ويبقى حضور شخصية الآخر
إن روايات المقدسيين تحفل بشخصيات يهودية مختلفة عن تلك الشخصيات التي تظهر في روايات كتاب المنفى، ويمكن النظر في روايات القواسمي وجميل السلحوت وعارف الحسيني وعزام توفيق أبو السعود، ومقارنتها بما ورد في روايات كتاب المنفى. في روايات الأولين نقرأ عن هيلدا الألمانية واشتيفاني البريطانية وهنري الإنجليزي والعلاقات التي نشأت بينهم وبين سكان القدس وكيف نشأت وتطورت وإلى أين انتهت. ثمة علاقات حب وزيارات عائلية وسفر إلى بريطانيا وألمانيا. أما في روايات كتاب المنفى لا نحصل على نماذج مشابهة، وإن عثرنا على شخصية ألمانية لدى الأعرج وشخصية روسية لدى حميد فإن حضورها أقل إقناعا. ويمكن قول الشيء نفسه عن الشخصيات اليهودية، والكتابة تطول.
من المداخلة التي أُلقيَت في مؤتمر “القدس في الرواية العربية” الذي عقد في جامعة البترا في الأردن في يومي ١٣ و ١٤ / ١١ / ٢٠١٩.