“كُنْتُ أَمْشي إلى الذّات في الآخرين، وها أنَذَا أَخْسرُ الذاتَ والآخرينَ”. محمود درويش
إن التغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في أي مجتمع، هي الكفيلة ببناء الصورة الأولى والأساسية عن الذات الفردية وتشكيلها، وبالتالي الصورة الجمعية. وفي معرض بشار خلف، يطرح أثر هذه التغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية على الفرد والمجتمع الفلسطيني، وكيف عملت هذه التغيرات، على مدار ستة وعشرين سنة من فكرة الدولة الفاشلة، على إلغاء الصورة الشخصية الذاتية وسحقها؛ من أجل البحث عن رمز وهوية وطنية وسياسية من جانب، وكيف حولت الرمز الوطني إلى سلعة تجارية، وفي بعض الحالات السلعة التجارية إلى رمز وطني من جانب آخر، ومقابل هذه التحولات أصبح حضور الإنسان العادي غير مرئي ولا محسوس.
التمزّق التشظّي
تمزّق الأيقونة (الرمز) تشظّي الذات (الفرد)
حكمت الشارع الفلسطيني على مدار سنوات وإلى الآن، ذائقة بصرية مصدرها الملصقات والبوسترات والشعارات الثورية في الشوارع الفلسطينية؛ سواء أكانت هذه الملصقات لأيقونة (رمز وطني) أم لسلعة تجارية. وفي بعض الأحيان يلتبس الأمر ويصبح من الصعب التمييز بين السلعة والرمز الوطني، وهنا يبدأ الانعكاس على الصورة الشخصية، ومن ثم التوهان وفقدان الذات الفردية. وفي معرض بحثه عن صورة شخصية، انطلق الفنان من هذه البوسترات والملصقات التي سكنت ذاكرة المجتمع والفرد واحتلتها في حالتيها الوطنية والتجارية، إلى دراسة أثرها على الصورة الشخصية الفردية والجمعية، حيث عملت على انصهار الذات الفردية وتأخر حضورها واختفائها تماماً، مقابل سطوة الرمز الوطني والتجاري وتمجيدهما.
في المستوى الأولى، ومع تكرار موت (فقدان) الأيقونة الرمز، تتكرر البوسترات والملصقات التي يأكل بعضها الآخر، وتتلاشى وتختفي، ولا يتبقى منها إلا الحواف المتشرذمة الحادة، وهنا حتى الأيقونة/الرمز ذاتها تفقد صورتها الشخصية، وتتمزق، تتآكل وتختفي، وهذا الفعل الجلي في أكثر من أربعة عشر عملاً فنياً، وكأن بشار يُصرّ على أن الهوية الفردية تشكلت من بقايا متشرذمة، مشوهة، في أقسى وأبشع حالات التشوه، والتمزق، والتشظي، والطبقات المتراكمة، والألوان المتعددة، وطرح هذا التشظي من خلال طبقات مختلفة وتعابير لونية؛ تارة في انسيابية مقصودة لتشعرك بكيف يترسب التشوه إلى ذاكرتك البصرية الفردية دون أن تدرك، منبهراً بالألوان والفكرة، وتارة أخرى كأنها تشتت الروح وتمزقها وتعلقها على حافة السلك الشائك، ولا طريق للخلاص أو الهروب من الإطار المشوه، وكأننا كلنا نعيش في إطار مشوّه تحكمه أشكال لا نهاية لها، تتكسر أحياناً، وتبهرك بألوانها، أحياناً تنساب لحظة تتعرج، لحظة وتعود مستقيمة أحياناً أخرى، وفي النهاية إطار من الفوضى والتهتك البصري.
من خلال مشاهدة الأعمال الفنية، تبدأ دون وعي بأن تبحث عن الرمز الوطني المفقود أو السلعة التجارية المختفية خلف هذا التمزق والفوضى، ومن ثم تبدأ بالبحث عن ذاتك داخل هذا الركام البصري، وتبدأ برسم حدود صورتك الشخصية، وهذا السؤال الذي ربما أراد الفنان أن تحمله بجعبتك للوهلة الأولى.
التآكل الاختفاء التلاشي
وفي مجموعة أخرى تصطادك الدهشة مرة أخرى عندما تشاهد مجموعة مكونة من ثلاثة أعمال تجسد أقوى حالات الانتصار والاختفاء تحت عبارة “سننتصر يا ابن اليهودية”، وهذا مستوى إضافي آخر من فقدان الصورة الشخصية، وفقدان اللغة. وفي هذه المرحلة، تتوقف فيها الذات عن إدراك مكان وجودها، واتجاه حركتها، بحيث تصاب بحالة من فقدان البوصلة، ومن ثم السكون والانعزال، وتصبح غير قادرة على الفعل، وتتحول الذات إلى سلعة أصبح خيارها الوحيد هو التلاشي؛ لدرجة تلاشي اللفظ اللغوي والفكري خلف الشعار.
الانهيار الهدم
المدينة الفقاعة المدينة الأصيلة هدم الهوية هدم البيوت
وفي مجموعة أخرى من الأعمال، يظهر لنا تراكم حالة التشوه وانتقالها من الفرد إلى المكان، وكأن كل التشوه السابق ينتج عنه بطريقة حتمية تشوهه المدينة.
البيت هو المكان الآمن الأول الذي يحتضن ويهدهد الصورة الشخصية (الذات)، وإذا صلح البيت صلحت الصورة، والعكس بالعكس، يتغير شكل المدن اقتصادياً واجتماعياً، وهذا ينعكس بشكل معماري على أي مدينة، وبطريقة منظمة، بحثاً على التطور، لكن المدينة الفلسطينية لديها طريقة خاصة بالتطور والتشوه، بحيث أصبح المجتمع الفلسطيني هو من يأكل تاريخه، إذ تتوسع المدن على حساب ماضيها وتاريخها وهويتها، وعندما تنهار البيوت القديمة، أو تهدم حاملة معها ذاكرة أصحابها وصورهم الشخصية، تبدأ الـذات الشخصية، هنا، تبحث عن مكان للتكون، وإذا استمر هذا الفعل (الهدم) تتلاشى الصورة الشخصية الخاصة بالمدينة في فترة زمنية قريبة، وهنا نجد أن الفرد فقد عنصراً آخرَ من عناصر تكوين صورته الشخصية، من خلال استبدال الحيز الأصيل للعيش، بحيز مكون من ورق جدران، وهنا يبهت شكل المدينة شيئاً فشيئاً، كما يبهت ورق الجدران، وتحل محل المدينة فقاعة من ورق الجدران.
وفي النهاية، استخدم بشار أدوات بصرية يومية قريبة من ذاكرة المجتمع ليطرح العديد من الأسئلة: أين الصورة الشخصية الذاتية من بين كل هذه الفوضى البصرية؟ كيف يمكن أن يكون شكلها في هذا السياق العام الطاحن والفوضوي؟ وإلى أي مستوى من التشوّه ستصل؟ وماذا بعد كل هذا الانحدار، حيث لا وجود ولا مساحة ولا مكان للعادي، فيجب عليك إما أن تكون رمزاً/أيقونة وطنية، وإما سلعة تجارية، لتصبح ذا حضور وصورة شخصية إنسانية، وذاتاً فردية مستقلة وواضحة المعالم.
“إلى أَيْن؟ أَيْنَ الطّريقُ إلى أيّ شيءٍ؟ أرى الْغَيْبَ أَوضَحَ مِنْ شارعٍ لَمْ يَعُدْ شارِعي”. محمود درويش