هدم الفكر، هدم الروح، هدم الجسد، تحرر الجسد فنياً وقمع الجسد سياسياً، مشاهد متعددة والجسد هو أداة التعبير الوحيدة القدس وبيتا ورام الله.
في القدس
على مدار عقود من الزمن وفي ظل صراع غير متكافئ من حيث الأدوات، كان ولا زال الجسد هو الأداة الوحيدة للإنسان الفلسطيني لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي الذي يمتلك جيشاً مدججاً بكل وأحدث التقنيات الحربية.
خلال الأشهر القليلة الماضية، كان من اللافت للنظر تعدد أشكال استخدام الجسد في مقاومة هذا المحتل، تحديداً في حي الشيخ جراح بالقدس، إذ أن البقاء الفيزيائي بالمعنى الحرفي لا المجازي دفع جسد المقاوم المقدسي إلى أساليب التطهير العرقي في القدس ليكون حاضراً وبقوة إذ أنه الأداة الوحيدة المتاحة مقابل سياسة التطهير. أن يظل الجسد ثابتاً في نقطة ما (البيت، الحي، الشارع) هي الرصاصة الوحيدة المتبقية بين يديه. غير أن “الثبات والسكون الممتلئ” (بلغة المسرح) معبأ بالفكر والإيمان المطلق والعميق بأحقيته في هذا المكان، أي القدس وكامل فلسطين، مقابل جيش مستعمر قائم على فكرة مفبركة، وليس أمامه إلا القتل والتهجير بكل أنواع السلاح. في حي الشيخ جراح تقوم منظمات استيطانية باقتلاع أو التهديد باقتلاع السكان الأصليين ويُسكنون مستعمرين يهود جاؤوا بأمر تلمودي لفرض أمر واقع فيزيائي يهودي لأمريكي أمثال “يعقوب السارق” بجسده المترهل ولا فكرة لديه وراء السبب من وجوده غير إطاعة أوامر سياسية مفرغة من أي مضمون لا ذاتي ولا جمعي.
لقد فرضت المعركة كل سياقتها ومقوماتها على شابات وشباب وأطفال وشيوخ القدس وكان الجسد هنا اقوى أنواع المقاومة التي جعلت من المحتل عاجزاً أمام هذا المعمار الجسدي الصلب الذي لا يهدم مثلما تهدم البيوت، ولا يدرك مدى فعالية وقوة هذه الأداة في تحقيق الحق، فنشاهد الحضور القوي للتعبيرات الجسدية التي صنعها الشباب المنتفض في القدس كعمل فني جسدي صمم بشكل تلقائي وأخرج فنياً بشكل عبقري من إخراج المجتمع الفلسطيني بفكره المقاوم.
في بيتا
علي الجانب الآخر وبالتزامن تقريباً مع ما يحدث في القدس كمدينة لها معمارها البنياني والجسدي الخاص، كانت قرية بيتا في الريف الفلسطيني تقاوم بناء مستعمرة على جبل أبو صبيح، كان الجسد حاضراً بمشاهد أشبه بالسينما، من حيث الطقوس بتحضير المشاعل النارية التي تتم على أنغام وأنشايد وطنية تبعث على الحماسة والجهوزية، وصولاً إلى ارتداء أشكال متنوعة من الأقنعة التي ارتبطت ليس فقط بالمقاومة الفلسطينية، بل أيضاً جمعية كتلك الأقنعة المناهضة للرأسمالية والامبريالية. الدخان الأبيض، الإنارة الليلية، الجسد الذي رسم لوحات فنية. فالجسد المنتفض يحمل معماراً سكنياً وجسدياً مختلفاً، صقل حركته بفكر وثقافة مرتبطتان بقضية ذاتية وجمعية في آن واحد، فهناك مستعمرون بنوا مساكن من القرميد الأحمر المشبع بالفكر الكولونيالي على أراضي القرية المتناثرة بين أشجار الزيتون الرومي، وعند التدقيق في المشاهد التي حدثت نجد مشاهد فنية مبدعة قوامها الأساسي الجسد وكأنها صيغت على يد أمهر المخرجين والكوريوغراف ومصممي الرقص والمسرح في العالم، ولكن في الحقيقة هي فعل تلقائي من الجسد الفلسطيني الذي يرفض الاحتلال والقمع بكل أشكاله فنجد في بيتا معماراً وهندسة جسدية مختلفة تحاكي روح العصر وحديث التصميم. وهذا ناتج من ثقافة رفض الاحتلال التي تنتقل في المجتمع الفلسطيني بالجينات من جيل إلى آخر. وتبدو المشاهد عبارة عن حركات رقص صممها هذا الجسد بكل ما يحمل من فكر في رفض الاحتلال، بل ووصلت إلى حد استخدام طقوس محددة وأزياء ذات معنى ثوري وضمن سياق استعراضي لا يبعث فقط على قوة الحضور بل أيضاً متعة المشاهدة لنوبات الإرباك الليلي، بحيث أصبح الجمهور يتابع بشكل يومي هذه المظاهر وأشكال التعبير والمقاومة بشكل حثيث.
إننا أمام علاقة وثيقة بين الجسد والمكان والفكر، فنرى الجسد يعبر عن الفكرة بحركات أصيلة وذات معنى حركت مشاعر كل العالم الذي تضامن مع الشعب الفلسطيني بصورة لم يسبق لها مثيل.
في رام الله
نصل إلي رام الله التي كانت تنتج مشاهد مختلفة وهو مشهد الاعتصام السلمي تعبيراً عن رفض الجماهير لعملية قتل الناشط الفلسطيني نزار بنات على أيد الأجهزة الأمنية التي مارست أشكالاً لا حصر لها من التنكيل بجسده حتى فارق الحياة. أول ما اصطدم به العقل الفلسطيني آنذاك هو الجدار الأمني البشري المدجج بالسلاح والهراوات ووسائل لا حصر لها من أدوات القمع. كانت الشعلة الأولى هي يد تلامس الجدار منتفضة ورافضة لهذا الإرباك الذهني الذي حل بجمهور المعتصمين، إذ أن هذا الجدار مبني من الأخوة، والأنسباء، والجيران، ورفقاء السجون والزنازين الإسرائيلية، إلا أن ردة الفعل كانت التنكيل بأجساد المعتصمين. مرة أخرى الجسد هو الأداة الوحيدة للمنتفضين الذين تعرضوا أيضاً للقمع والضرب والسحل والسحق بالحجارة على يد نظام القمع الشمولي في رام الله. الجسد تعرّض مرة أخرى لسحق العظام وتكسيرها من قبل الأجهزة الأمنية بشكل يبدو مصمماً وممنهجاً واستعراضياً من الدرجة الأولى.
ومن مفارقات القدر أن تستضيف رام الله في ذات الوقت “مهرجان رام الله للرقص المعاصر” الذي قدّم العديد من العروض الفنية الراقصة جزءاً منها وجاهياً والآخر كان مسجلاً لصعوبة وصول الفرق الفنية في ظروف الجائحة. حملت هذه العروض الستة عشر مشاهد فنية راقصة تم تصميمها بفعل مدروس فنياً وكوريوغرافياً وإخراجياً للتعبير عن الحرية والتحرر والتعددية وتقبّل الآخر ونقل قضايا مجتمعية متنوعة. مثل عرض “970” وعرض “رحلة إلى القدس” وعرض “مساحة جسد”.
في مهرجان الرقص والذي ينعقد في دورته الخامسة عشرة، نجد حالة فنية تعمل منذ سنوات على الدعوة للتحرر واستخدام الفكر والجسد كأداة للتعبير الفكري والفني وتقبل الآخر والتبادل المعرفي والإنساني في المجتمع الفلسطيني، ودول العالم. بدا المشهد غاية في الغرابة، بل يطرح العديد من الأسئلة، حول دور الفن بشكل عام في التحرر الفكري، ليتسنى للجسد حريته في التعبير. من المهم والجيد والجميل أن يكون مهرجان الرقص المعاصر حاضراً في حياتنا الفلسطينية، لكن المشاهدة المتناقضة ما بين الشارع الفلسطيني المنتفض بجسده، ومشاهد الرقص على خشبة المسرح، تبدو مثيرة للدهشة، وتطرح العديد من الأسئلة.
وأهمها: ما الهدف من إقامة مهرجان الرقص المعاصر للغايات الإنسانية والفكرية والجمعية والثقافية؟ إذا كان الهدف ترفيهياً، فهذا يتناقض تماماً مع فكرة الرقص المعاصر الذي جاء تمرداً على الفكر الكلاسيكي في الرقص، ليتيح لأي شخص حرية التعبير المطلق عن نفسه وإطلاق العنان للجسد ليعبر عن قضايا الفرد والمجتمع. إذا كان فكرياً ثقافياً، فإن ذات المدينة التي تتمركز فيها عروض الرقص المعاصر، تستبد بالجسد وتنكل به. بينما في قرية بيتا التي من المستبعد تماماً أنها من رواد هذا المهرجان، أبدعت في خلق لوحات فنية استعراضية ذات مضمون فكري وثقافي وسياسي. ألا يثير هذا الأسئلة؟
السؤال الأهم في هذا كله وما يحدث على صعيد الواقع السياسي والاجتماعي الفلسطيني: أين علاقة الجسد الفلسطيني في مهرجان الرقص بالتجربة الفلسطينية التي أنتجها الفلسطيني في القدس وبيتا ورام الله؟
وهنا لا أتحدث عن حركات راقصة بل عن الفكر وارتباط الفعل الجسدي بالواقع الفكري المعاش سياسياً واجتماعياً وانعكاساته على خشبات المسارح.
ومن كان له القدرة على التفاف الجماهير حوله ودعمه من الشارع؟ وهذا سؤال شرعي لمهرجان الرقص بعد خمسة عشر عاماً من الإنتاج والجهد والعمل.
وهل مازال المنتج الفلسطيني يلامس قشور القضية أم توغل في عمقها وأصاب جذرها الأصيل؟
وهل الرقص حالة من الحركات الجسدية المركبة بتسلسل مع بعضها البعض يؤديها الراقصون؟
بالعد واحد اثنان ثلاثة أربعة…؟ أم هي عمق أصيل وانعكاس حقيقي لمشاعر وأفكار تؤدى بانسيابية وإبداع عالي الجودة؟
وكل هذا المقال ليس لجلد مهرجان الرقص المعاصر وإنما للمساهمة في إثارة أسئلة تجعل من المهرجان أكثر قرباً وتعبيراً عما يحدث في المجتمع الفلسطيني.
لا يملك الفلسطيني إلا جسده، سواء بإطلاق العنان له في التعبير عن قضاياه، أو بتعرضه للجلد والتنكيل من قبل أوجه الظلم والاستعباد.
هل نحن في صدد خلق وعي جديد للفكر، أم خلق جسد خارج عن فكره ومتناقض معه ومع محيطه؟ كيف لمهرجان الرقص بشكل خاص، والفنون بشكل عام، أن تساهم في خلق فكر حر قادر على تحرير الجسد؟ إلى أي مدى تستطيع استعارة المشاهد الراقصة دون فكرها ومضمونها الثقافي والإنساني أن تكون قابلة لأن تصمد أمام الجسد الفلسطيني الذي يعيش دوامة لا متناهية من الوقائع والأحداث السياسية والاجتماعية؟
وفي النهاية، نشاهد إنتاجات فلسطينية متعددة التوجهات، منها ما أنتج بصيغ تلقائية للتعبير عن الذات، وهنا نقصد فعل المقاومة الجسدي بالقدس وبيتا ورام الله ومنها من أنتج عن قصد وسبق إصرار. هل العرض الفني (العرض الراقص والمسرح والسينما والفنون التشكيلية) لها القدرة على الوصول إلى الريف الفلسطيني مثلما وصل الفعل المقاوم بالجسد في بيتا وغيرها؟