تلعب الدراما دوراً محورياً في تأثيرها على الوعي الجمعي والفردي، وتعتبر ركيزة أساسية في بناء المجتمعات وهدمها واختراقها، وهي أفضل الأدوات الحديثة التي تستخدم في إعادة نحت الوعي المجتمعي؛ سواء بإعادة صياغة المفاهيم، أو تشكيل وطرح مفاهيم جديدة بشكل مختلف، تخدم أهداف الصنّاع لهذه الدراما. ولعل القليل من الدراما العربية المحاصرة مالياً ورقابياً التي تَعي هذا السلاح وتستخدمه، وربما أنا لستُ محقاً، بل إن كل منتجي الدراما يعون هذا السلاح ويستخدمونه لحرف بوصلة المجتمعات عن قضاياها الأساسية والإنسانية والوطنية والمجتمعية.
سأتناول في هذا المقال التحليلي مسلسل “فوضى” الإسرائيلي، الذي أطلق موسمه الثالث مؤخراً، وتلقى الكثير من النقد والمقاطعة، والكثير من الإعجاب والمؤازرة والتعاطف، ليس فلسطينياً فحسب، بل، أيضاً، عالمياً وعربياً.
لقد أثار المسلسل الجدل حول الكثير من القضايا، وأهمها القصة “الحدوتة” الإسرائيلية وطرحها للعالم، وتجنيد كل الإمكانيات المتاحة لإعادة نحت وصياغة شكل الإسرائيلي القاتل المحتل في العالم بشكل عام، والعالم العربي بشكل خاص، ولأن العالم العربي هو الجار القريب القادم للتعايش والتطبيع مع نظام الابرتهايد الإسرائيلي، فهو بحاجة إلى بناء صورة جديدة له، غير تلك التي ترويها قنوات الأخبار والسياسة، وتساهم في اختراق وعي الجيل الجديد في المجتمع العربي الجديد الذي يعيش انتكاسات متراكمة منذ مطلع القرن العشرين. عَمِل مسلسل “فوضى” على محورين فكريين، الأول ذكرناه سابقاً؛ وهو إعادة طرح الإسرائيلي بشكل جديد، حيث عمل المسلسل بحرص شديد وقدّم البطل الإسرائيلي والبطولة من خلال قوة وحدة المستعربين وقدرتها على تحقيق أي هدف.
وأعتقد أن استخدام وحدات المستعربين كان المفتاح السحري لتكوين شكل الإسرائيلي المقبول كصورة، فكل عناصر الوحدة (الممثلين) وعلى مدار الأجزاء الثلاثة، يرتدون الملابس الفلسطينية المعاصرة، التي تساعدهم على الدخول إلى المجتمع الفلسطيني دون أن يكشف أمرهم كوحدة قتل تتسلل داخل المجتمع الفلسطيني، وفي الوقت نفسه، تساعدهم على اختراق المجتمع العربي، لأنهم لا يرتدون زياً عسكرياً، فهم بلباسهم مثلهم مثل الفلسطينيين والعرب، إضافة إلى قدرة هذه الوحدة على التحدث باللغة العربية، واستخدام كلمات ولازمات كلامية عربية مثل “صبابا، يلا حبيبي، فوضى، إن شاء الله، كل شي تمام، إنتَ منيح”، مصحوب بسيطرة معرفية بتفاصيل الثقافة الفلسطينية وهذا يمنح الإسرائيلي هذا التفوق المعرفي الذي لا يمكن قهره هذا من شأنه إلغاء فكرة الإسرائيلي المحتل القاتل العسكري على مستوى الصورة البصرية والمحكية في المسلسل، ويمهد للخطوة التالية وهي العائلة الإسرائيلية التي قدمت من خلال عائلات عناصر وحدة المستعربين، وهنا الملعب الأوسع الذي سيولّد التعاطف والمؤازرة والتقبل للإسرائيليين في المسلسل، حيث عمل صنّاع “فوضى” (الكاتب، والمخرج، والمنتج) على تقديم العائلة الإسرائيلية بمشاهد إنسانية عاطفية اجتماعية كثيرة ومكثفة، في ردات فعل الشخصيات الإنسانية والعاطفية تجاه ما يحدث معها، وما تواجهه من عقبات حياتية، مثل علاقتها الاجتماعية بين الزوجين، والخلافات الزوجية، والأولاد، والعلاقة العاطفية مع الأم والأب، وعلاقة الأخوة بين بعضهم البعض، وهذه “الانسنه” تفضي حكماً لشيطنة الفلسطيني بل وكل ما هو عربي..
ونستطيع القول إننا نشاهد الأسرة الإسرائيلية بكامل حضورها وعمقها الاجتماعي والإنساني وتماسكها ومعاناتها، وهذا ما تم تكريسه في المسلسل بأجزائه الثلاثة، هذا إضافة إلى حرص صنّاع المسلسل على تقديم الصورة الإنسانية للإسرائيلي في نهاية كل جريمة قتل يقوم بها المستعربون، وكأنه يمحو الجريمة باستخدام المشاهد الإنسانية والفعل الإنساني. ففي الجزء الأول، وبعد تسلل وحدة المستعربين إلى عرس فلسطيني لاغتيال أحد المقاومين المطلوبين الفلسطينيين، يقوم أحد أفراد الوحدة بقتل شقيق المطلوب، وهو العريس، وأثناء خروجهم من العرس، وبعد عملية قتل العريس، يُصاب أحد أفراد الوحدة بقدمه، وهنا تركز الكاميرا بمشاهد متعددة ومتلاحقة لمعاناة الجندي المصاب، وكيف ستتوقف حياته المهنية نتيجة هذه الإصابة، إضافة إلى ردّات فعل عاطفية ومتعاطفة من باقي أفراد الوحدة، وبالمقابل لا تعود الكاميرا إلى أهل العريس الشهيد المقتول إلا بعد أن تكون مشاعر المتلقي قد التصقت مع الإسرائيلي المستعرب الذي أصيب بقدمه، وتنسى فعل القتل للعريس الذي قام به المستعرب.
يضاف إلى ذلك الكثير من المشاهد التي تذكرك في كل حلقة أن تتعاطف مع الإسرائيلي، فعندما يكون “الكابتن أيوب” يحقق مع أم الشهيد (العريس)، يرن هاتفة ويكون المتحدث على الطرف الآخر ابن الكابتن أيوب، وهنا يركز المشهد على إنسانية الأب تجاه ابنه خلال العمل على جريمة قتل، وهذه المشاهد متكررة ومصنوعة بحرفية بصرية وفكرية. ففي كل حلقة، وفي كل مشهد يتعلق بالإسرائيلي، توجد طريقة بصرية فكرية محكية تجعل المتلقي ينحاز ويتعاطف وينقاد للرواية الإسرائيلية. بمعنى آخر، عمل صناع “فوضى” على تقديم الإسرائيلي المعاصر المنفتح العقل والقلب بعلاقاته الاجتماعية والإنسانية.
المحور الفكري الثاني يتمثل في هدم صورة الفلسطيني، وتهشيم الصورة البصرية والفكرية، وخلخلة المجتمع الفلسطيني والعربي والعالمي تجاه الفلسطيني كإنسان وصاحب قضية ومناضل لأجل الحرية.
استخدم صناع المسلسل الإسرائيلي ممثلين من أصل فلسطيني ليؤدوا دور الشخصيات الفلسطينية، ولم يستخدم ممثلين إسرائيليين يقومون بدور الفلسطيني، وهذا من شأنه تسهيل قبول ما سيتم تحميل هذه الشخصيات من أفكار وضعت على لسانها وحوارات ومشاعر ومواقف تخدم وجهة نظر الاحتلال والكيان الصهيوني، وقدمها ببراءة على أنها وجهة نظر فلسطينية قادمة من المجتمع والمواطن والممثل الفلسطيني.
كما حجب صنّاع المسلسل الجانب الإنساني والمجتمعي للفلسطيني، وعملوا بصرياً وفكرياً على تجريده من إنسانيته ومشاعره، وقدّمه على شكل قاتل وساذج؛ فالشخصيات الفلسطينية لا تملك أبعاداً درامية، ولا تطوراً نفسياً درامياً، بل عمل صنّاع المسلسل على عكس ذلك تماماً، فتم تقديم الفلسطيني بمشاهد تحمل صفات القتل، والخيانة، والتخاذل، واللاإنسانية، والتخلف، والغضب، ليوقع الهزيمة في الفلسطيني المتلقي لهذا المسلسل أمام نفسه، ويولد موقفاً ضده من المتلقي العربي والعالمي، وعزّز ذلك في كل المشاهد الضيقة التي أتاحها للفلسطينيين في مسلسل إسرائيلي. فعلى سبيل المثال لا الحصر، في الحقلة الأولى في الموسم الأول، وخلال مطاردة وحدة المستعربين لأحد المقاومين المطلوبين، تتسلل وحدة المستعربين إلى عرس فلسطيني يقام لشقيق المطلوب “أبو أحمد”، حيث كُشف وجود وحدة المستعربين داخل العرس وهي تقوم بالانسحاب من العرس، ويقوم أحد المستعربين بقتل “بشير” العريس، وخلال المطاردة يصاب المطلوب برصاصة بخاصرته، ويلتقي المقاوم المطلوب بأحد مساعديه في المستشفى، ويدور بينهم الحوار التالي:
وليد: كيف هيك أحسن؟
أبو أحمد: تمام.
أبو أحمد: ايمتا بنقدر نطلع عملية تفجيرية؟
وليد: عملية تفجيرية؟
أبو أحمد: آه عملية تفجيرية.
وليد: خلال أسبوع أو أربع أيام، حسب ما نجد متطوع.
أبو أحمد: اسمعني، اليهود فاتوا على بيت إمي، وقتلوا أخوي يوم عرسه.
أبو أحمد: بكرا بدي إياك تطلع عملية.
وليد: فش عندي مين أبعت.
أبو أحمد: معناته بتلاقي، وإذا ما بتقدر أنا بلاقي مين بلاقي.
وليد: اسمع، في بنت، بش مش عارف إذا الفكرة منيحة.
أبو أحمد: مين.
وليد: آمال أرملة بشير، بس هي من العائلة.
أبو أحمد: هي مش من العائلة، كان ممكن تكون من العائلة. إبعهتا بكرة.
وليد: عندي فكرة وين نعمل العملية (ويخرج من جيبة علبة كبريت عليها رسم وشعار محل، ومن ثم يخرج هاتفة ويتبين أن الشعار لبار إسرائيلي).
أبو أحمد: (يقرر) أرسلها لهناك، وابعت معها شنطة متفجرات، وخليها ما تستشهد.
هذا مثال لحوار عنيف إجرامي ساذج، يوضع على لسان الشخصيات الفلسطينية، ليقنع المتلقي أن هذه الشخصيات الفلسطينية؛ أي الفلسطيني، لديه بعد واحد وهو العنف الفوضوي والقتل لمجرد القتل.
وهنا ننتقل إلى اللغة المحكية والحوار الدرامي في المسلسل على مستويي الشخصيات الإسرائيلية والشخصيات الفلسطينية.
من خلال هذا المشهد السابق الذي لا يتجاوز الدقيقتين، نكتشف ركاكة اللغة والفكر والسذاجة والإجرام المقصود الذي يتم تحميله للشخصيات الفلسطينية داخل المسلسل، فلا أحد يعرف كيف يتم التخطيط للعمليات الاستشهادية، وليس بهذه الطريقة الساذجة يتم اختيار المنفذ للعملية، ولا بهذه السذاجة يتم اختيار الموقع للعملية، ولا أحد يعرف وكيف ومتى وأين يتم الأمر برمته. إنما هو افتراض من قبل صنّاع المسلسل استُغل لتأسيس واقع لغوي متدنٍّ على كل المستويات المتعلقة بالفلسطيني: الإنساني، الوطني، النضال من أجل التحرر، العائلة، الفرد، السلطة، لينتج صورة مشوّهة عن الفلسطيني بكل أبعاده الإنسانية والوطنية والنضالية والاجتماعية والعائلية، حتى إنه تم استغلال معظم الشخصيات الفلسطينية لتأسيس فكر التواطؤ والتعاون والتعايش مع الإسرائيلي؛ فعلى لسان الشخصيات التي لعبت دور الضباط الفلسطينيين، وضعت كل الحوارات الانهزامية التي تمهد للتعايش والتعاون مع الإسرائيليين، كما انها تسعى لتكريس صورة الانقسام الفلسطيني وتصويره على انه صراع بين من هم كانوا هم انفسهم مناضلين سابقين وانتهى بهم المطاف كخدم لصالح الامن الإسرائيلي وحركة حماس التي يظهرها المسلسل كإحدى عصابات الجريمة المنظمة وسأقدم هنا مثالاً في حلقة ٨ الجزء الثاني:
أبو ماهر مدير الأمن الوقائي وابنه
(يستقل أبو ماهر سيارته هو وابنه ويتجهان إلى المدن الفلسطينية المحتلة العام ١٩٤٨، ويقطعان الحواجز الإسرائيلية بكل سهوله بصفة التنسيق الأمني، ومن ثم يدور بينهما هذا الحوار في مقهى على شط البحر):
أبو ماهر: حلو المكان صح؟
ماهر: حلو كثير بس مش إلنا.
أبو ماهر: كان إلنا مرة … شو بتفكر إنك بتقدر تدمر كل هالبنايات، وتهدم كل إسرائيل وكل هالعمارات؟
ماهر: هاي مجرد عمارات.
أبو ماهر: لا هاي مش مجرد بنايات، إنت ما بتعرف شو في هون من صناعات، إنت بتعرف إنه الاقتصاد هون زي أمريكا مش مثل الشرق الأوسط، هون في شركات مبتدئة مثل سيليكون فالى في أمريكا، والأهم من هيك في ناس هون بدها تعيش، وما بدهم يموتوا، اصحى مش رايحين يختفوا هيك ببساطة.
الكثير من المشاهد التي صنعت على مدار الأجزاء الثلاثة من أجل هتك صورة الإنسان الفلسطيني لغوياً وفكرياً، ووصمه بالتخاذل، وفي المقابل تعزيز إنسانية ورقي وحضور المستعرب الإسرائيلي القاتل المحتل، بعث كاتب المسلسل ومخرجه وصانعه الحياةَ في الشخصيات الإسرائيلية، وجعلها من لحم ودم، ونزعها من الشخصيات الفلسطينية في الواقع وفي الدراما.
وبصناعة هذا المسلسل، كسب المحتل الكثير من الجولات؛ أولاها إيهام المتلقي الفلسطيني والعربي والعالمي في عرض الرأيين الإسرائيلي والفلسطيني حتى لا يقال عنة متحيز للإسرائيليين، وقدم قصته كما يُريد أن يُريها للآخرين. كسب ود وتعاطف المشاهد العالمي والعربي ولو بنسبة ضئيلة، ما يمهد لاختراق مجتمعات عربية من خلال الدراما. مارس التطبيع الثقافي في فلسطين من أوسع الأبواب بكل سهولة، ومهد للتطبيع الثقافي مع العالم العربي، فباستخدامه ممثلين من أصل فلسطيني وهذا اخطر ما في الامر ، فإن هذا الأمر سيساهم ويساعد في تشجيع الكثير من الممثلين العرب والفلسطينيين في المستقبل على المشاركة في أعمال إسرائيلية، فلا نستغرب في الأجزاء القادمة من هذا المسلسل، أو مسلسلات إسرائيلية أخرى، أن يكون هناك ممثلون عرب إلى جانب ممثلين فلسطينيين وإسرائيليين، وهذا الاختراق الأكبر والاشتباك والتشابك الثقافي الذي يخطط له الاحتلال عبر صناعة الدراما.
قدم مسلسل فوضى مجموعة من المسارات والخطوط الدرامية المسلحة فكرياً وبصرياً كما هو تسليح صانعها، ولعل أكثر هذه الخطوط خطورة هو القتل الفعلي والقتل الدرامي، بحيث تطور هذا الخط على مدار الأجزاء الثلاثة ليُثبت صورة الموت التي يمارسها المحتل تجاه أصحاب الأرض.
وهذا يترك مجموعة أسئلة رهن الإجابة:
– أين القصة “الحدوتة” الفلسطينية من الإنتاج المرئي والمسموع الذي يحاكي الجمهور في العالم، وبخاصة الدراما التلفزيونية؟
– هل يتكلم الفلسطيني مع نفسه في إنتاجه الدرامي إن وجد؟
– ماذا نحتاج لكي نؤمن بالدراما مثلما نؤمن بالوطن؟
– متى يمكن إنتاج دراما فلسطينية مليئة بالفكر والتعاطف والإنسانية ليصبح الصراع الفلسطيني الإسرائيلي متوازناً ولو درامياً؟
– هل نحن نمتلك الإرادة للبدء في معركة الدراما التي فرضت علينا ولم نختارها نحن؟