من حسين الى هاملت:
إنَّ الزمانَ مخلَّعٌ من مفاصلهِ ورتاجِ بابه
كيدٌ لعينٌ أن أكون أنا ولدت،
لأعيده لنصابه.
قدم الشاعر والكاتب والمفكر حسين البرغوثي الكثير من الأعمال الأدبية والشعرية على مستوى الشعر والسيرة الذاتية والنثر والمسرح والسينما والأغنية والنقد الأدبي.
حيث كان استثناءً فكرياً وفنياً ولغوياً فيما قدم.
سأتناول هنا بشكل خاص المسرح على قلة إنتاجه، على الصعيدين التأليف والترجمة. على صعيد التأليف قدم للمسرح مسرحية “لا لم يمت”٬ و”موسم للغرايب”٬ و”وجوه”، و”المزبلة”، و”حفلة على غفلة”، و”ساحة الورد”. أما على مستوى الترجمة فقد قام بترجمة مسرحيتين لوليم شكسبير هما “هاملت” و”روميو وجولييت”.
في البداية سيكون الحديث عن الترجمة والتي يعتبرها حسين البرغوثي “استزراعاً” للنص المترجم٬ حيث ذكر في مقالة له عن الترجمة الجديدة لمسرحية هاملت ونشرت في مجلة الكرمل عام 1997 (عدد 50، ص 251-254):
“لا توجد ترجمة حرفية أبدا للأدب، فمن يحاول ترجمة “البحر الطويل” حرفياً للإنجليزية مثلاً معتوه. قال دريدا بأنها الترجمة “تحويل” وقال جبرا أنها “حب” وأما أنا فأراها “استزراعاً”، نقلاً لجذور النص من تربة أصلية، من نسق ثقافي ما إلى تربة ونسق جديدين. مثلاً، من جغرافيا “بلاد تموت من الثلج حيتانها” إلى “اغفاءة زرقاء تحت الشمس والنخيل في حرارة الصحراء العربية “.
عند قراءة مسرحية “هاملت” ومسرحية “روميو وجولييت” بترجمة حسين البرغوثي٬ تجد معنى ما قاله مجسداً لغوياً وفكرياً وحرفياً. إن الترجمة “استزراع”، وهذا ما قام به حيث عمل البرغوثي على النحت بمفردات اللغة العربية لجعل النص المسرحي الشكسبيري ابن البيئة العربية، وضمن السياق العربي. فيجد القارئ المسرحيات حكايات عربية صيغت بأجود المعاني اللغوية، وهذا حدث دون المساس بجوهر الحكاية والحبكة والدراما داخل النص. حيث حافظ على العلاقات والترابط الدرامي للمسرحيات وجعلها عربية. المترجم لم ينقل الحكاية والتجربة الدرامية الشكسبيرية فقط، إنما استطاع أن ينقل جوهر دراما وحكاية وشخصيات شكسبير ومشاعرها العامة والخاصة والتفصيلية لكل شخصية من الشخصيات. فعلى مستوى المعالجة الفكرية اللغوية٬ سأختار هذا المنولوج الذي أنتج فيه البرغوثي فكراً مغايراً لغوياً وموازياً لمنطق شخصية هاملت في بيئتها الجديدة، وسنلاحظ هنا دراسة أعمق للمنطق اللغوي لشخصية مثل شخصية هاملت عرف عنها الذكاء، التردد، والتلاعب اللغوي بالكلام، والانتقام في تركيبتها الدرامية.
وجودي أم عدمي: هذا هو السؤال
أمن نبلٍ في النفسِ المعاناة
من مقاليعِ الدهرِ ومن نبالهِ
أم حملُ السلاحِ ضدّ بحرٍ من بلاياهُ
وبصدّها، ننهيها. أن أموتَ-أن أنامَ
-ليس إلاّ- وبهذه النومةِ أن
أقول ننهي وجعَ القلب، وألفاً من نوازلِ الطبيعةِ التي
هي إرثُ هذا اللحم، إنه لكمالٌ
أتمناهُ بتقوى.
أن نموتَ-أن نحلم، ربّما، ونعم، فهنا المشكلُ:
إذ إن أيّةَ أحلامٍ في
سباتِ الموتِ قد تأتي، بعد أن
نخلعَ عن روحنا ما يغلِّفها من ثيابِ الفناءِ
هذه، تجبرنا أن نتروَّى.
هذا ما يجعلُ طاقةً من حياةِ
طويلةِ كهذه،
وإلاّ فمنْ هو هذا الذي يتحمّلُ منا سياطَ الزمن
وإهاناته، تجاوزاتُ الظالمِ، غطرسة المتكبّرِ،
أوجاع حبّ يقابل بالاحتقار
مماطلةُ القضاءِ، صلافةُ المنصبِ، الازدراءُ الذي يلقاهُ
ذو القدرِ والصبرِ ممن لا قيمةَ له،
لو كان بإمكانه أَن يسدَّد كلَّ الحساب، بنفسه
وبخنجرٍ عارٍ؟
ومن يتحملُ أعباءه،
أن يئنِّ ويعرقَ تحتَ أحمالِ حياةٍ منهكة
لولا أنَّ الخوفَ من أمرٍ قد يلي الموت
ذلكَ القطرُ المجهولُ الذي لا يعودُ مسافرٌ
من وراءِ حدوده، يحيِّر الإرادة،
ويحملنا على أن نتحمَّل ما لدينا من المكاره
بالأحرى، بدل الهروب لأخرى
لا نعرف عنها؟
هكذا يجعل هذا الوعي منّا كلَّنا جبناءْ
يمرضُ لونُ القرارِ الأصيلِ حين يلقي
عليه الفكر ظلاله الشاحبةَ الاصفرار،
ونهرَ المشاريعِ العظيمةِ والأزخمِ موجاً
يحوّل هكذا، من هذا التأمّل، تيارات مجراه
ويخسرُ اسم “الفعل رويدك الآن رويدك
أوفيليا الجميلة- يا حورية، في صلواتك
أذكري كلَّ خطاياي.
أما على مستوى الفراسة اللغوية وعمق التعبير الحسي والنفسي للشخصيات واشتباك مشاعرها مع لغتها المنطوقة، سأختار هذا المقطع الذي تجلت فيه قدرة المترجم في الغوص في أعماق الشخصيات وأبعادها النفسية المركبة، ونجح في إنتاج سياق ومفردات عربية معبرة عن مكنونات هذه الشخصيات.
هاملت: إن كنت عفيفة وجميلة، فعفافكِ يجبُ أن يجعلَ الوصولَ إلى جمالك باباً – حرام.
أوفيليا: أيوجدُ للجمالِ شريكٌ للتداول، يا سيّدي، خيرٌ من العفاف؟
هاملت: نعم، بالضبط، فقوة الجمال تحوّلُ العفاف مما هَو عليهِ إلى قوّاد، بأسرعَ من قدرةِ الجمالِ على تحويلِ العفافِ إلى صورته. كانَ هذا القولُ يوماً من الأضداد ولكن الآن زمننا يمدّه بالبرهان. أجبتك في ذاتِ يوم.
أوفيليا: حقّاً، سيدي، وزرعت فيَّ الاعتقاد بذلك.
هاملت: إن تزوجت سأعطيكِ هذا الوباء كمهرٍ: لو كنتِ طاهرةً كالجليدِ، نقيةً كالثلج، لن تنجي من المذمّهَ. اذهبي إلى “دير راهبات”، اذهبي، والوداع. أو إن كنت تحتاجينَ لأنَ تتزوجي، تزوجي أبلهاً، فالرجالُ العقلاءُ يعرفونَ بما يكفي أيّ بهائمَ تجعلنَ منهم، إلى الدير اذهبي، وبسرعة أيضاً. الوداع.
وعلى مستوى الطبقات الاجتماعية وعلاقة اللغة المنطوقة على لسان الشخصية بجلدتها الاجتماعية والاقتصادية المنتمية إليها لم يغفل المترجم هذا الجانب الذي يمايز المستويات الاجتماعية والعلاقات التي تربط هذه المستويات بالشخصيات، ونوع اللغة المستخدمة بالتعبير لهذه الشخصيات.
هوراشيو: السلام عليكم يا سيّدي.
هاملت: سعيدٌ برؤياك ترفلُ في العافيهْ. أنسيتَ حاليَ أم أنتَ هوراشيو؟
هوراشيو: نفسُهُ، يا سيّدي، خادم لك للأبدْ.
هاملت: يا سيّدي وصديقي، أبادلكَ تلكَ التسميةْ. ليتَ شعري، أي شيء أبعدكْ عن “ويتنبرغ”؟. مرسيلاس؟
مرسيلاس:سيّدي؟
هاملت: تسرّني رؤيتكْ. (لبرناردو) عمْ مساءً.
(لهوراشيو): ليتَ شعري، أيَّ شيءٍ أبعدكْ عن “ويتنبرغْ”؟ .
هوراشيو: قلبٌ يهربُ يا سيّدي الطيبْ.
هاملت: لن أسمعَ هذا من عدوّكَ، لن تقترفَ العنفَ على أذنيّ بحيث أومن بالشهادةِ منكَ ضدّكْ. أعرفُ عنك بأنَّك لستَ من يهربُ، قل لي، إذن، ما الذي أتى بكَ نحو قلعةِ “الزينورْ”؟ سنعلِّمكَ الشربَ بعمقٍ قبلَ أن ترحلْ.
هوراشيو: جئتُ يا سيّدي لحضورِ تشييعِ أبيكْ.
هاملت: لا تسخرنْ بي يا زميلي في الدراسةْ. ربّما جئتَ هنا لحضورِ عرسِ أمي.
هوراشيو: بعدَ الجنازةِ جاءَ الزفافُ بسرعة ٍ يا سيّدي.
هاملت: إنَّهُ التوفيرُ في المصروفِ إنّهْ…. يا هوراشيو، قدّم خبزَ الجنازة بارداً فوقَ مائدةِ العرسْ. ليتني في الآخرة كنتُ قابلتُ شرَّ عدو ٍ ولم أرَ ذاكَ اليومَ، يا هوراشيو. أبي، أظنُّني الآن أرى أبي.
هوراشيو: أينَ يا سيّدي؟
هاملت: في عيونِ القلب يا هوراشيو.
لم يبحث البرغوثي في ترجمة “هاملت” و”روميو وجولييت” على المفردات المرادفة للنص الإنجليزي، بل خلق سياقا وبيئةً لغويةً عربيةً مناسبةً لهذه المفردات، ومن ثم بحث في جذور اللغة العربية ليصل إلى أصدق وأدق المعاني والمفردات العربية. وهذا الفعل الدراماتورجي الشعري واللغوي والفكري الذي قام به المترجم على كل المستويات بالنص: المستوى اللغوي والفكري والنفسي لكل شخصية ومنطقها وقاموسها اللغوي والتباين الاجتماعي والنفسي بينهما، وبهذا “الاستزراع” الفكري والعاطفي والحسي لجوهر النص الشكسبيري خلق نصاً بجوهر وجذور اللغة العربية، مما جعل من “هاملت” و”روميو وجوليت” تحفاً لغوية عربية المنشأ. إن السياق العربي الذي أنتجه البرغوثي لمسرحيتَي “هاملت” و”روميو وجولييت” جعل من النصين استثناءً على مستوى الترجمة والغوص في طبقات اللغة العربية.
وأعتقد أن البرغوثي تقدم على جبرا إبراهيم جبرا إذا ما أردنا المقارنة بين الترجمتين على مستويات مختلفة سواء على صعيد الروح العامة للنص والموسيقى الشعرية والقراءة والتلقي والجانب الفلسفي في اللغة التي استخدمها.
هاملت: عشرونَ ألفَ روحٍ وعشرونُ ألفَ دوكةٍ
لن تكفي لحسم أمر قشَّةِ تبنٍ،
إنها قرحةٌ متقيحةٌ في جسم من السلمِ والثروةِ الطائلةِ
قرحةٌ تستفحلُ في داخلهِ، ولا تبدي للخارجِ
أسبابَ موتِ الإنسان.
شكراً لك، يا سيّدي، بتواضع.
روزنكرانتز:
سألتكَ، مولاي، أن غشي
هاملت:
اذهبْ قبلي بقليلٍ، سألحقُ حالاً.
(يخرجُ الكلُّ ما عدا هاملت)
كلُّ مناسبةٍ تشهدُ ضديّ، وتهمزُ ثأري المتواني
ما هو الإنسان إن كانَ أسمى خيرهِ أن ينامَ ويأكلُ؟
محضُ حيوانٍ لا غير.
وبالتأكيدِ إنَّ اللهَ لمّا صاغنا أعطى لنا فهماً لننظر خلفنا
وأمامنا، لم يعطنا هذه القدرةَ والعقلَ الأشبهَ بالألوهيةِ كي
يتعفَّن من ركوده.
والآن، أكان ما بي نسيانٌ حيوانيٌّ، أمْ وسواسُ التفكيرِ
الدقيق في نتائج فعلي-
فكرةٌ لو قسِّمتْ أرباعاً لكان رُبعها حكمةٌ.
وثلاثةُ أرباعها جبناً.
أما على صعيد التأليف، يبدو لي أن مسرحية “لا لم يمت” كانت أنضج تجارب التأليف المسرحي لديه. فالفرضية الدرامية مكتملة ومشبعة دراماتورجياً دون زيادة أو نقصان، ولا توجد أي زائدة لغوية داخل المسرحية وهذه من المرات القليلة التي نجد فيها نصاً مسرحياً فلسطينياً منسوجاً بلغة وحكاية أصيلة، وليست تقليداً لأحد ولا نسخاً عن أحد. فمسرحية “لا لم يمت” تقوم على حوارات أصيلة ومفردات خاصة تخدم البناء الدرامي للمسرحية، وهنا أيضاً لم يغب عن البرغوثي المؤلف سبر أغوار الشخصيات لغوياً واجتماعياً واقتصادياً.
مارس البرغوثي الترجمة والتأليف بنفس الاحترافية اللغوية، ووظف عمق المعرفة الفكرية واللغوية لديه لتقديم هذه الأعمال سواء للترجمة أو للتأليف.
بقي أن أشير إلى أن كلاً من مسرحية “هاملت” ومسرحية “روميو وجولييت” ومسرحية “لا لم يمت” لم تنشر حتى اللحظة.
ننهي بهذا الحوار من المسرحية.
الأم: لماّ.. لما الناس بطلت تحلم، في ليلة قمر، “خبز وحشيش وقمر.”
طاهر: خبز وحشيش وقمر.
الأم: ترك في سفينه مضوية في المينا. في هذيك الليلة..
طاهر: آه.
الأم: في هذيك الليله حلموا أهل البلد حلم واحد، نفس الحلم: انهم بسبحوا في نهر، بسبحوا، والدنيا قمر، مشلحين، والنهر اخذ منهم ناس، وخلى ناس، وناس غرقوا وناس قطعوه. نهر اللي بسبح فيه بيصير ينسى. وصاروا ينسوا. نسيوا. وبطل حدا يحلم. وبوك لحاله اللي سبح فيه بس ظل يحلم.
طاهر: بشو؟
الإم : هذا اللي طول حياتي خايفة احكيلك اياه.
طاهر: شو هو حلمه؟
الإم: ظل يحلم انه المهدي.
طاهر: المهدي المنتظر؟
الإم: آه، المهدي المنتظر. ما اسمه مهدي. وبعدها قللي “أنا القائم”. سمى حاله القائم.