الخبير أو الخبيرة كلمة من شأنها أن تثير خيالاتٍ تنحو بمن يراها أو يسمعها أن يتخيّل شخصاً متمرّساً بفعل أمرٍ ما. فما هي تلك المهارات التي يتمرّس فيها القارئ حتى يصبح خبيراً؟ ليس من شأننا في هذا الموضع الالتفات إلى محترفي الثقافة الذين أو اللاتي يكسبون ويكسبن رزقهن من امتهان (أو احتراف) الثقافة؛ من بحثٍ وكتابة، صحفية أو غيرها، وحتى الفنّانين. فهذه الفئات يتخلّل احترافهم مهارات فعل القراءة نفسه التي توجبها عليهم طبيعة مهنتهم.
إنّها مهارةٌ أُخرى تلك التي يكتسبها القرّاء النّهمون في مدينة عمّان، وربما في المزيد من المدن العربية، وهي شبه مفروضة عليهم. إنّها مهارة فهم سوق الكتب لغاية الوصول إلى نسخ الكتب نفسها لاقتنائها. إنّها مهارة كالعلم الذي لا يفيد والجهالة التي لا تضر. ولكن لماذا شبه الفرض ذاك الذي ذكرناه آنفاً؟
الوصول إلى نسخة ورقية من كتاب يستدعي طريقتين معروفتين بالعادة؛ إمّا الذهاب إلى المكتبات العامة داخل أو خارج المؤسسات التعليمية (المكتبة العامّة). أو اقتناء الكتب من المحال التجارية التي تبيع الكتب (المكتبة التجارية) وربما المواقع الإلكترونية المخصّصة لهذا الغرض.
المهارة الأولى في المكتبات العامة تعني أنّ على مستخدمها أو مستخدمتها، إن كانا نهمين في القراءة، أن يتعلّما في مرحلة ما نظام التصنيف الذي تعتمده المكتبة العامة للتمكّن من الولوج إليها دون مساعدة موظف في أيّ وقت كان. لكنّ هذه الممارسة ستفيد الزّوار الدائمين للمكتبة العامة وفي الغالب ستكون عقبة أمام القرّاء الصغار أو حتى القرّاء الذين لا يقرأون بهدف البحث بل فقط من أجل المطالعة والتثقّف على المستوى الفردي.
هذا الشأن أدّى ببعض المكتبات العامّة في الولايات المتحدة الأميركية كمكتبة ماريكوبا في أريزونا إلى اعتماد نظام تصنيف المكتبات التجارية وحتى أدّى إلى بعض المكتبات المدرسية القيام بنظام تصنيفٍ خاص مبنيّ على المكتبات التجارية أيضاً كنظام مونارك. وهناك مجموعة مكتبات anythink التي طوّرت نظام WordThink الذي اعتمد أيضاً على نموذج مكتبات بيع الكتب في التصنيف بهدف جعل المكتبة العامّة سهلة للقارئ والقارئة العادية.
سهولة التعاطي مع المكتبات التجارية أتى بداعي هدفها الأساسي وهي سهولة التعاطي مع كتبها، وهي في هذا السياق سلعة، ممّا يسهل بيعها. حالة الكتاب/السلعة المعروض بشكل واضح سيرفع الحواجز بين القارئ والكتاب وسيقلّل من حاجته لموظّف مبيعات أو آخر جالس خلف حاسوبٍ عليه قائمة الموجودات يساعدان الزبون أو الزبونة الدائميَن الذيَن سيدخلان مباشرةً نحو الرفوف التي تحوي الكتب التي أتيا للبحث عنها، ممّا سيساعد في عملية توسيع المكتبة التجارية وزيادة عدد فروعها. بناءً على هذا، أصبح السوق يضمّ المكتبة التجارية والتي هي معرضٌ تستهدفه دور النشر لعرض وبيع الكتب فيها.
في ظلّ هذا ينتج حاجزان أمام القارئ العربي في مدينة عمّان، وربما غيرها. الأولى قلّة المكتبات العامة واعتمداها على أنظمة التصنيف الكلاسيكية التي بحاجة إلى تعلّم مسبّق. والثاني غيابٌ واضح لمحال بيع الكتب المستقلّة عن دور النشر.
المشكلة الأولى تُحلّ بارتياد المكتبة العامة ممّا سينتج عن ذلك قارئ خبير أو قارئة خبيرة تجيد استعمال نظامها مع مرور الزمن دون أن يكون القرّاء باحثين.
أمّا غيابُ المحال التجارية التي تبيع الكتب تتطلّب من القارئ أن يكون ملمّاً بدور النشر وسوقها من موقع وسعر وتصنيف وحتى معرفة مَن مِن الدور المحليّة لديه توكيل الدور العربية الأُخرى.
في عمّان المكتبات التجارية ليست منفصلة عن دورها فكلّ دار لديها مكتبة تعرض فيها كتبها ولا تعرض فيها الكتب المنشورة من أمكنة أُخرى. وعلى مستوى التوزيع العربي تسيطر داران على السوق من ناحية التوزيع بأخذها توكيل التوزيع في الأردن. لكن مع غياب المكتبات التجارية، لمن توزّع؟
هذا المشهد يجعل القارئ والقارئة إن أرادا البحث عن كتاب أن يعلما في أي دار نُشِر ومن لديه توكيل هذا الدار، إن لم يكن محليّاً. مع الوقت يصبح القارئ خبيراً في السوق فقط لأنّه مضطر للتعاطي مع أكثر من دارٍ واحد للوصول إلى كتابٍ عوضاً عن ارتباطه بمكتبة تخلق حالة صحيّة من التنافس.
يتبلور هذا المشهد تماماً في معارض الكتاب العربية المتنقلة من مدينة لأُخرى طيلة العام. فمشهد معرض الكتاب هو عبارة عن أجنحة تستأجرها دور النشر كلٌ على حدة في حال ارتأت أنّه مجدٍ لها. والقارئ المتابع لمعرض الكتاب يتسلّم لائحة بأسماء الدور المشاركة على المدخل مع خارطة لمواقعها في المعرض، وله أن يبدأ من هناك الهيام على وجهه في ذلك الكهف المرعب الذي قد لا يفقه فيه شيئاً. فماذا يفعل قارئ الرواية مثلاً؟ أو قارئ كتب الفلسفة؟ هل يقفز من جناحٍ إلى جناح باحثاً عمّا يريده أم يختار حسب البلد؟ إن لم يعرف مسبّقاً من سيزور في معرض الكتاب وعن ماذا يبحث فاللائحة لا معنى لها وزيارة المعرض هي مسبّب للصداع. وحدهم القرّاء الخبراء في سوق الكتب الذين يعرفون الدور هم الذين سيستمتعون بمعرض الكتاب.
مهرجان الكتاب في إدنبره هو مهرجان سنوي يقام في العاصمة السكوتلندية وفيه خيمة واحدة لبيع الكتب وبضع خيمٍ أُخرى لفعاليات المهرجان. خيمة البيع مثلها كأي مكتبة تجارية، فيها التصنيف واضح ولا تلتزم من القارئ معرفة وثيقة بدور النشر وسوق الكتب، يكتفي كما هو متوقع بمعرفة الكتب والكُتّاب حتى يشتري كتباً ولا يقتضي منه أو منها الأمر فهماً لا طائل منه لسوق النشر. حتى إنّ تكرار الزيارة في تلك المعارض يحدث بفضل الفعاليات لا بفضل حالة الضياع التي تنشأ من:
-
زيارة أولى لمعرفة الدور المشاركة
-
زيارة ثانية لشراء الكتب والتأكد من باقي الدور المشاركة
-
زيارة ثالثة للتأكد من أنّ جميع الدور المشاركة تمّ تغطيتها وشراء الكتب من الدور التي تمّ الانتباه لها في الزيارة السابقة
كما يحصل في المعارض العربية. وفي حالتي أنا، كنت في بعض تلك الزيارات بمثابة دليلٍ لأقربائي القرّاء، النهمين أيضاً، ولكن لم يبذلوا عناء تعريف أنفسهم يوماً على أسماء الدور ومنشوراتها وفهم آلية العمل فيما بينها. فهل يجعلني هذا، كقارئ خبيرٍ في هذه الحالة، قارئاً أفضل؟ في المقابل كانت تلمع أعين بعض أصدقائي عندما قلت لهم إن كتب إحدى الدور المغربية موجودة في المعرض.
هذا الأمر انعكس أيضاً على بعض المكتبات في وسط البلد في عمّان، والتابعة بالطبع لدور نشر، وحتى على إحدى مكتبات شارع الحمرا في بيروت. فتصنيفات الكتب على رفوف تلك المكتبات يتم حسب دور النشر وليس حسب موضوعاتها.
مِن تداعيات غياب المكتبات المستقلّة عن دور النشر أيضاً عدم استيراد الكتب المنافسة لدور النشر. فمثلاً رواية «الأنفس الميتة» للكاتب الروسي نيقولاي غوغول، ترجمة غائب طعمة فرمان، تمتلك حقوقها الآن دار المدى العراقية. وموزّع دار المدى في عمّان لا يطلبها لأنّه قام بترجمة الرواية بنفسه فتصبح ترجمة فرمان منافسة له. بينما الدار الموزّعة الثانية لا تطلبها لأنّها تبيع نسخة دار الفارابي. ممّا يعني أنّ القارئ بحاجة للبحث عن هذه النسخة لدى محال الكتب المزوّرة أو القيام بتزويرها بنفسه عبر تنزيلها من الشبكة وطباعتها.
إنّ ازدياد عدد الدور المشاركة في معارض الكتاب وازدياد أعداد دور النشر في العالم العربي تنفي الإحصائيات التي تدعي بأنّ العرب لا يقرأون. فإن كانت تلك الإحصائيات مأخوذة من دور النشر التي تطبع وتوزّع بشكل قانوني فهذه الإحصائيات تشير إلى نسبة القرّاء الخبراء فعلاً وليست نسبة القرّاء الفعليين الذين يذهبون إلى المكتبات التجارية التي تبيع كتباً قديمةً أو مستعملةً وربما مزوّرة. فيبقى السؤال هنا، هل حقّاً المكتبة التجارية المستقلّة مشروعٌ غير مجدٍ في المدن العربية؟