أن تكون صالة العرض شبه فارغة هو أمر حدوثه شبه نادر، إن لم يكن مستحيلاً في مهرجان برلين السينمائي، خاصة وهو ما يزال في بداياته، في اليوم الثالث. السؤال هو لماذا؟ ذلك بالتأكيد لا يعود إلى أن الفيلم “أقتله ثم اترك هذه المدينة” للمخرج البولندي ماريوش فيلشينسكي، هو من فئة الرسوم المتحركة. ففي اليوم السابق لعرضه، تم عرض فيلم آخر من فئة الرسوم المتحركة، فيلم “إلى الأمام” للمخرج الأمريكي دان سكانلون ومن إنتاج ديزني، في صالة اكتظت بما يزيد عن الألف وخمسمائة مشاهدة ومشاهدة.
إنها بالأحرى القصة ذاتها؛ الهامش مقابل المركز، فيلم مرسوم يدويًا على مدار أحد عشر عاماً مقابل فيلم منتج في استديوهات تضم بالغالب أكثر المعدات حداثة في مجال لتصميم الرسوم المتحركة، وأخيراً، سينما المؤلف مقابل السينما التجارية، أو الإلهام مقابل الإيهام كوسيلة لإثارة حواسنا وعوالمنا الداخلية.
وما يعنينا، وما يحاور تجاربنا ويمسنا في عالم يسوده الاضطهاد كمعادلة وحيدة للوجود، هو الفيلم الأول لا الثاني. على مدار “أقتله ثم اترك هذه المدينة” والذي امتد لمدة ساعة ونصف تقريباً، يروح المرء يمشي كما لو أنه في متاهة ذكرياته الشخصية، وما جابهه في حياته من قسوة داخل عائلته، ثم من أفراد المجتمع خاصة ممن يشغلون مواقع توهمهم بالقوة، وفي بعض الأحيان بالضعف أيضاً. إنها قسوة تنبع بالأساس من عنصر عدم الاكتراث بالآخرين ليس أكثر.
يتتبّع الفيلم رحلة فعلية، لكنها تتحول تدريجياً إلى رحلة أقرب ما تكون كابوساً. ففي مركزه شخصيات تروح تظهر انعكاسها في شخصيات أخرى جديدة، تطول رحلتها على مدار عقود، بينما هي تتأرجح بين أحداث تأتي في شكل سردي لا يتبع تسلسل منطقي يفرضه الواقع، إنما وفق ما تمليه الأحلام، أو الكوابيس في هذه الحالة، حيث يروح اللاوعي وحده يتحكم بالعلاقة بين الأحداث والشخصيات. فهنالك شخصية طفل، نراه في البداية يركل ألعابه ليلحق بوالده العسكري، يتحول إلى طفلة تقع فوق الوحل لتبدأ والدتها بإهانتها أكثر، فأكثر مجبرة الطفلة على أن تخنق نحيبها وإلا فسترى! ثم طفل يجلس في الحافلة أمام والدته الغائبة في عوالمها عنه، يعقبه طفل يسبح أمام والده الذي اختطفه وفرّ به هارباً من والدته، لينتهي جثة تدفعها الأمواج على الشاطئ. وهنالك امرأة تستعطف لدرجة الإذلال بائعة في دكان لم يفتح بعد، محاولة شراء الخبز واللحاق بقطارها، تلتقي بامرأة عجوز تبحث عن كلبها العجوز أيضًا، والذي قضمت الكلاب الفتاكة أحد أطرافه، قبل أن تلتقطها الغربان والتي راحت مناقيرها تقطر بالدماء، لا بفتات الخبز. ثم هنالك بالطبع شخصية الرجل، دائمًا في مركز القوة لكنه غير مرئي، غائب عن الكادر وعن كل ما يسببه من أحداث للشخصيات، لكن غيابه هذا في الآن ذاته يحكم كل ما يظهر داخل الكادر، وما تواجه الشخصيات من عدم اكتراث، وغياب للحب، والإهانة، وأخيرًا الموت.
ومع أن الفيلم يوحي بأنه سيرة المخرج الذاتية، وما شهد خلال حياته من تحولات على المستوى الشخصي وفي الحياة عامة خاصة على الصعيد السياسي في بولندا على مدى أربعة عقود على الأقل، إلا أنه يرسم تفاصيل الحياة الشخصية للكثير مننا وما ننال من قسوة لا نحتاجها في حياتنا، دون أي تجميل لهذه القسوة أو تكريس، إنما بدقة إنسانية وبأناة، يمكن تتبع آثارهما في الخطوط الممحوة في الرسومات، وفي الأجزاء التي تم لصقها على رسومات أخرى.