بغض النظر عن مدى قسوته، قد يرّق القلب في بعض الأحيان أمام نص أدبي أو عمل فني يعتمد في منهجه على ما هو مثير للعواطف أو شعبي، مثل روايات إحسان عبد القدوس، أو أفلام إيناس الدغيدي أو عاطف الطيب أو محمد خان. لكن السؤال الذي لا مفرّ منه في هكذا حالات هو: ما الذي يبقى بعد أن تجفّ الدموع؟
بالنسبة لي ليس بالقليل ما تركته روايات إحسان عبد القدوس في فكري حول عاديّة الخروج عمّا هو عزيز على قلب الأغلبية، وما تركته أفلام إيناس الدغيدي حول إمكانيات التحالف بين الأقوياء والضعفاء، وعاطف الطيب حول تحايل الضعفاء على شروط حياتهم، ومحمد خان حول تعقيدات الحياة على الهامش. لذا، حين يعرض البرلينالي في برنامجه الخاص فيلم هندي يعتمد تقاليد بوليوود السينمائية من رقص وغناء ودموع في أسلوبه، أجدني لا أتأخّر للحظة عن مشاهدته.
فيلم “غانغوباي كاثياوادي” للمخرج الهندي سانجي ليلا بانسالي، يستحضر سيرة حياة غانغا كوثيوالي، قائدة مجموعات خارجة عن القانون في مومباي خلال الستينات. تقع غانغا وهي ما زالت فتاة في أوج فترة مراهقتها، في حب شاب يعمل كمحاسب لدى عائلتها، تسافر معه إلى مومباي أملاً في تحقيق حلمها بأن تصبح ممثلة سينمائية، لكن حال وصولها يتضح بأن حبيبها باعها لأحد بيوت الدعارة في المدينة. في بيت الدعارة، تتحوّل غانغا التي تنحدر من عائلة ميسورة الحال، إلى غانغو المومس. لكن سرعان ما تباشر غانغو بنضالاتها الصغيرة من موقعها الجديد ذاك في الحياة، مطالبة في البداية بالحق في يوم راحة أسبوعي لجميع النساء في بيت الدعارة. تدريجيًا تتحوّل غانغو إلى غانغوباي؛ قوّادة بيت الدعارة الذي بيعت إليه، حيث تبدأ بإدارة المكان وفق شروط عادلة، بما في ذلك في تقسيم عادل للأرباح، لا يذهب النصيب الأكبر منها إلى القوّادين، ومحاولة مساعدة فتيات تمّ اختطافهنّ أو حتى بيعهنّ من قبل أهلهنّ، عبر إعادة شرائهنّ ومن ثم تحريرهنّ، خاصة حين يكون خيار هؤلاء الفتيات الموت على العمل كمومسات. عمليًّا خلال مسيرة حياتها كمومس أولاً ثم كقوّادة لاحقًا، لا تدير غانغوباي ظهرها لما عاشته يومًا، ما يمنحها القوّة لمواصلة نضالاتها من أجل بقيّة النساء ِمن حولها، والتي تمتد إلى حق المومسات في فتح حسابات مصرفية، وتقديم الحماية لهنّ ممّن قد يؤذيهنّ من الزبائن، كما حق أطفالهنّ في التعليم وفي العيش بكرامة. لاحقًا تسعى غانغوباي للانضمام إلى حقل العمل السياسي، معلنة ترشّحها للانتخابات لمنصب قيادة منطقة كاماثيبورا، المنطقة المخصصة لبيوت الدعارة في مومباي، ما ينتهي بفوزها ومن ثمّ بلقاء جواهرلال نهرو، رئيس الحكومة الهندية وقتها، للمطالبة بسن قانون يشّرع الدعارة كمهنة ويحمي العاملات في هذا المجال وحقوقهنّ في القانون.
في جميع مساعيها هذه تتحالف غانغوباي أيضًا مع قائد للخارجين عن القانون في المنطقة، ويدعى رحيم لالا، يتّخذها بدوره أخت له، وهي أخ لها، فكلاهما محكوم بالتوق إلى العدل ورفض الظلم الذي يتعرّض له الناس البسطاء بمن فيهم الخارجين عن القانون. إنه ظلم تنتجه بالأساس مجموعات القوّة السائدة من سياسيين ورأسماليين ورجال الشرطة وحتى المؤسسات الدينية بنظمها الأخلاقية التي تؤسّس في كثير من الأحيان للظلم عبر ممارستها الإقصاء والحكم على الآخرين بالخير والشر. وغانغوباي ورحيم لالا يتّحدان معًا للعمل ضد هذه المجموعات، إما عبر الترهيب أو ممارسة العنف، هو أسلوب رحيم لالا المفضل، أو الذكاء والدهاء، وهو أسلوب غانغوباي المفضّل.
خلال سرده الأحداث، لا يُفوّ ت الفيلم الفرصة لاعتماد جميع مركّبات السينما الهندية الخاصة ببوليوود، مقدّمًا تارة مواقف تجعل دموع المشاهدين والمشاهدات تنهمر بسرعة، ومواقف أخرى تبثّ الفرح في القلب، لحظة ينفجر المشهد بالرقص والغناء، واللذان يأتيان دائمًا كضرورة يحتّمها المشهد، إما في سياق احتفال تقليدي، أو في حفلة عرس، أو لحظة لعب. لكنّ ما هو مغاير في هذا الفيلم مقارنة مع أفلام بوليوود المعهودة، بأنه يستخدم هذه المرّكبات أو الأدوات البوليوودية كوسائل للنضال؛ النضال الطبقي والاجتماعي والأخلاقي، متحدّيًا لمفاهيم مجتمعية تنأى بنفسها عن المومس وأطفالها، لكن ليس عن زبائنها وأطفالهم، كما وتمتنع عن الاعتراف بشروط الظلم، لا المتعة الجنسية، التي تؤدي بفتيات ونساء إلى بيوت الدعارة، على العكس من زبائنها.
الفيلم باختصار، يواجه النظم الأخلاقية والتقسيمات الطبقية والدينية الظالمة، التي نجدها اليوم في أماكن عديدة، بما في ذلك الهند، حيث يحارب الهنديون بعضهم بعضًا على أسس انتماءاتهم الدينية، والتي يؤجّجها بالأساس الحزب الحاكم بقيادة رئيس الهند الحالي، ناريندا مودي. ففي الفيلم، الشخصية الرئيسية التي تقف بصف غانغوباي الهندوسية وتدعمها، هي رحيم لالا المسلم. بالتالي، يمكن القول بأن “غانغوباي كاثياوادي” هو فيلم سياسي أيضًا، بالتأكيد لن ينال إعجاب الكثير ممّن همّم الابقاء على الانقسام المجتمعي بمختلف تجلّياته. إنه بغير شك فيلم يتقن ما حلم بالقيام به ربما الكثير من الفنّانين والفنّانات، المثقّفين المثقّفات، مِمَن يتمتّعون بحس نقدي حاد وفكر يساري غير مهادن، لكن يقررّون الانضمام للعمل في صفوف مؤسسات حكومية وغير حكومية اعتبروها ذات يوم شديد الإشكالية. فكثيرا ما يدّعي هؤلاء بأنهم يقومون ذلك من أجل إحداث تغيير من الداخل، بينما في الواقع تنجح هذه المؤسسات في النهاية بتحويل هؤلاء النقديين إلى موظّفين باهتين، يعتاشون على اعتقاد كاذب بأهمية ما تقدّمه هذه المؤسسات وحتى الأنظمة لعامة الناس. نعم، النتيجة بسيطة ولا لبس فيها، وربما مستهلكة وبالية: في الواقع أنتما لم تغيّرا النظام يا رفيقي ورفيقتي، أو يا أخي وأختي، أو يا خالي وخالتي، إنما النظام غيّركما. السؤال هو كيف يمكن مقاومة هذا القَدَر والوصول إلى حال مغاير؟
إجابة محتملة يقدّمها فيلم “غانغوباي كاثياوادي” على طبق من ذهب هي: الفن الشعبي هو حيز نبيل أيضًا للنقد والمقاومة، لا الفكر والفن النخبوي فقط.