كيف يمكن قول ذلك دون أن يبدو الأمر على نمط الأفكار المسبقة؟ موضوع الفيلم الروائي الطويل “خدم” (٨٠ د.، ٢٠٢٠) للمخرج السلوفاكي إيفان أستروتشوفسكي، هو من النوع المثير للشكوك. شيكوسلوفاكيا ومعاناة الكنيسة تحت النظام الشيوعي. هو يوحي بأنه من فصيلة المواضيع إياها التي راح المرء يشاهدها على شاشات السينما خلال العقود الثلاثة الماضية حينما يكون الفيلم من إحدى دول شرقي أوروبا.
في هذه الأفلام عادة يظهر الصراع على شاكلة المعادلة الهوليوودية أو الدينية: الخير مقابل الشر. وهو أمر متوقع ربما، كون وجهة الأنظمة والمجتمعات في هذه الدول شرق الأوروبية هي الغرب، وكل ما يطرحه الغرب من نماذج سياسية واقتصادية وثقافية. في الآن ذاته، لا يمكن لأحد ما برح يعاني يومياً من سياسات بعض الأنظمة الغربية، أن يتجه لمشاهدة هذا النوع من الأفلام دون شحذ نظره جيداً، متسلحاً بقدر كبير من الحذر والنقدية.
لكن فيلم “خدم” يقلب جميع هذه المعادلات والتوقعات والأفكار المسبقة رأساً على عقب، ممتنعاً عن احتجاز ذاته في سياق معين، فبينما يعرض فترة معينة من التاريخ في مكان معين، إلى أنه أقرب إلى ما يكون لصراعاتنا الإنسانية، بدءاً من السؤال حول الصداقة وحتى الرفض لعملية الإخضاع من قبل رجال السياسة والدين.
يتعقب الفيلم مدرسة داخلية للرهبنة في تشيكوسلوفاكيا حينها، في بداية الثمانينات، يعارض الطلاب فيها محاولة الدولة السيطرة على الكنيسة وبما في ذلك مدرستهم، بينما يحاول المدرسون وأعضاء الإدارة ثني الطلاب عن ذلك، بهدف الإبقاء على المدرسة مفتوحة واستمرار عمل الكنيسة ولو بشكل محدود، فيما يحاول رجال أجهزة مخابرات الدولة القبض على المتورطين من بين الطلبة. والفيلم خلال سبره غور هذا الصراع الثلاثي، لا يتبع المعادلة الهوليوودية البسيطة على نمط الخيرين مقابل الأشرار، إنما تخضع الشخصيات لحالة من الاضطراب والتردد وإعادة الحسابات والتحالفات دون توقف على مدار الفيلم، فهنالك من يتجس على بقية الطلبة لصالح أجهزة الدولة لكنه لاحقا يمتنع عن ذلك، وهنالك من يقاوم الدولة لكنه يستسلم في النهاية، ما يعكس اضطراب الذات أمام خيارات يومية صعبة تواجهها وعليها البت فيها في كل مرة من جديد. إذن مع أن الفيلم يعتمد في صميمه على مفهوم الخير مقابل الشر، خاصة بتعقبه لمجموعة دينية، حيث هذا السؤال محوري لمفهوم الدين، إلا أنه يعيد طرح هذا السؤال على المستوى الإنساني البحت. فالخير كما تراه إدارة الكنيسة، وهو الحفاظ على مدرسة الرهبنة مفتوحة بالرغم من محاولة سيطرة الدولة عليها، هو الشر بأعين بعض الطلبة.
بالتالي، عدم عرض مرجعية واحدة في هذا الصدد، تجعل الصراع يفوق سؤال الخير والشر، ليصبح سؤال حول رفض الخضوع؛ خضوع الضعيف للقوي، واليافع للمسن، والعادي للرسمي. بل حتى فكرة الأبيض مقابل الأسود، يعيد الفيلم طرحها باعتماده اللونين الأبيض والأسود في أسلوب التصوير، حيث تبدو تفاصيل كل ما نشاهد ممكنة فقط بسبب الدرجات اللا نهائية من الرمادية التي تمد بين هذين اللونين. وهنا بالتحديد يظهر أيضاً المستوى الجمالي لأسلوب التصوير، حيث كل لقطة مدروسة، وقلما تتحرك فيها الكاميرا، لتصبح أقرب إلى ما تكون لوحة مصورة، على شاكلة أعمال المصورة ديان أربوس، باختلاف أن الفيلم يصور التشوه الداخلي والروحي للإنسان، لا الخارجي والجسدي كما تفعل ديان أربوس.
وهذا التشوه هو الذي يؤدي في نهاية الفيلم إلى خسارة الضعيف واليافع، إذ يتم اعتقال غالبية الطلبة الذين انخرطوا في مقاومة الدولة، فيما يتحوّل آخرون إلى جواسيس يعملون لصالح أجهزة المخابرات، أو يلجأون إلى الانتحار. مع ذلك لا يبدو بأن القوي والمسن يخرجون رابحين أيضًا، فالعفن الذي يأكل روحهم، يأكل جسدهم في النهاية؛ رقع الاسوداد التي تصيب جلد ضابط المخابرات، وتكون في بداية الفيلم صغيرة وعلى ذراعه فقط، تستولي في نهاية الفيلم على غالبية جسده.
إنه العفن الذي لن يفلت منه القوي في نهاية المطاف. إذن مع أن الخسارة كانت مصير أولئك الذين رفضوا في البداية، وهزموا، هم من باشروا بقول لا في بداية الثمانينيات، وهي لا ستتردد بعد أقل من عقد على لسان مئات الآلاف، وستؤدي إلى انهيار نظام الإخضاع السائد حتى ذلك الحين.
يكن القول إذن إن الفيلم هو أقرب إلى قراءة محتملة لكل ثورة؛ لثوارتنا، ودفعنا إلى عدم قبول الهزيمة والرغبة في التغيير، فمع أنه يبدو بأنه خسرنا الآن، وأن “لاءنا” ورفضنا في الوقت الحالي تم إخراسهما، لا بد من أن صداهما سيتردد في المستقبل.