مقدمة المترجم
المقال القصير الذي نترجمه هنا يشكل جزءاً من الصراع بين ت. إس. إليوت وبرتراند راسل في الفكر والسياسة والدين، وأقدمه بمناسبة صدور الطبعة الثالثة لترجمتي لكتاب راسل “ما الذي أؤمن به: مقالات في الحرية والدين والعقلانية”. يضم الكتاب المقالين الذين يشير إليهما إليوت: “لماذا لست مسيحياً” (1927)، الذي يراجعه ويهاجمه بشدة، ومقال “عبادة الإنسان الحر” (1903)، الذي أُعجب به بعمق.
في الفترة القصيرة التي درّس فيها برتراند راسل في أمريكا، التقى بطالب الفلسفة الشاب ت. إس. إليوت. أعجب الأستاذ بتلميذه، الذي بادله إعجاباً غير محدود، وكتب فيه قصيدة “مستر أبولونيكوس” الشهيرة. استمرت العلاقة الممتازة بين الطرفين زمناً طويلاً، ومن المؤكد أن راسل اطّلع على مسودات “الأرض اليباب” وعلّق عليها. لاحقاً، عندما انتقل إليوت إلى بريطانيا، سكن عند راسل، واستدان منه مبلغاً كبيراً من المال.
افترق الرجلان بعدها، ودخلا في عداوة بغيضة. يبدو أن راسل تورط في علاقة غرامية سريعة مع زوجة إليوت، التي قضت بقية حياتها في مشفى الأمراض العقلية. إليوت تحول إلى المسيحية علناً، ودعا إلى مجتمع محافظ مبني على الدين وعلى القيم التقليدية، أساسه طبقات يتوارثها الناس بصرامة، فيما يشبه جمهورية أفلاطون. راسل لم يوفر فرصة للسخرية من تلميذه السابق، الذي، بدوره، انتقد فوضوية راسل ولا-أدريته مراراً على صفحات الجرائد والمجلات، وفي جلساته الخاصة والعامة.
المقال ساخر بلؤم، وعنيف وقاس. يركز إليوت فيه على ثلاث نقاط: ما يراه تناقضات راسل، ومفهوم خشية الله، وقناعته بأنه لا يوجد ملحدون. أنا لا أتفق معه في شيء من هذا. ولكنه يعبر عن وجهات نظر الكثيرين.
سأترك القارئ الآن مع هذا المقال الغاضب، الذي يعرض لواحدة من الصراعات المتجددة، بنفس المفاهيم الأمس واليوم، بين المتدينين المحافظين والثوريين. أيضاً، آمل أن يدفعنا للتفكير مطولاً في طبيعة الثورات: العلمية، والأدبية، والسياسية، والفلسفية، والاجتماعية: وفي عدم ترابط هذه الثورات. إليوت الثوري في الشعر انتهى محافظاً جداً في السياسة. سيساعدنا التفكير في إليوت على فهم الكثير من المواقف من الربيع العربي.
العنوان الأصلي للنص: مراجعة “لماذا لست مسيحياً” للموقّر برتراند راسل. العنوان أعلاه من وضع المترجم.
كل الهوامش من وضع المترجم.
نص إليوت
يستطيع السيد راسل الكتابة بشكل جيد جداً، وعادة ما يكتب بشكل جيد، إلا عندما تسيطر عليه عواطفه. هذا المقال الصغير -وهو في الأصل محاضرة أُلقيت في “باتريسيا تاون هول”- يشتمل على كل مزايا كتابات السيد راسل المألوفة، من سلاسة ووضوح والتطرق للأمور بشكل مباشر، بالإضافة إلى بعض البشاشة التي تضفي عليه جاذبية محببة. وكتصريح عن الإيمان من قبل فيلسوف مميز، يستحق المقال دراسة متأنية، ويتمتع بأهمية خاصة. سلاسة السيد راسل تشبه في أغلب الأوقات المرآة أكثر مما تشبه الماء الصافي، ولا يمكن بالتالي أن نرى من خلالها بجلاء كما قد نعتقد في البداية. وكتيّبه الصغير هذا بلا شك واحد من أعاجيب الأدب.
العنوان نفسه مثير للفضول. لا يجب أن نتوقع أن يعني بالضرورة تقديم الأسباب والحجج التي تؤثر في السيد راسل لتجعله غير مسيحي. بل نحضّر أنفسنا تماماً لنجد أن الأسباب قد فكر بها الكاتب فيما بعد، كي يقوّي إيمانه بمظاهر العقل. مع ذلك كلمة “لماذا”1 توحي بنقاش ما للأسباب، والسيد راسل يذكرنا في بدايات المقال بأن “السبب لم يعد ما كنا معتادين عليه”2. “الفلاسفة والعلماء”، كما شرح ببراعة، ” تخلّوا عن مفهوم السبب، ولم يعد له نفس الأهمية المحورية السابقة.” يتساءل المرء ما الذي سيحدث إن أعاد الفلاسفة ورجال العلم النظر في أسباب إيمان السيد راسل الديني. “لا يوجد ما يمنعنا من القول بأن العالم وُجد بدون سبب”3؛ وأستنتج أنا من ذلك أنه لا يوجد ما يمنعنا من القول بأن فلسفة راسل الدينية ظهرت بدون سبب أيضاً. ويبدو لي هذا بالضبط ما حدث، وهو أمر لا أعتقد أن السيد راسل سينكره، لأنه لا يفتقر للصدق والصراحة. ومن الممكن أن نعطي مجموعة مختلفة تماماً من الأسباب التي تجعل السيد راسل يؤمن أو لا يؤمن بأشياء كثيرة، وقد نجعل هذه المجموعة أكثر منطقية وإقناعاً مما قدمه هو نفسه؛ ولكن في النهاية يجب أن نتفق بأنه لا يوجد أي سبب: هذا ما حدث فقط.
بكل الأحوال، ما يقوله السيد راسل لا يقبل الجدل: “لا أعتقد أن الأسباب الحقيقة التي تدفع لقبول الدين مبنية على المحاججات العقلية أبداً. يقبل الناس الدين على أسس عاطفية.” ولكن ما لا يلاحظه صراحة هنا، بالرغم من أنني واثق بأنه سيعترف به، هو أن دينه هو أيضاً يعتمد بشكل كلي على أسس عاطفية. ولكن ربما نقاش من هذا النوع سيكون عميقاً جداً وغير ملائم لجمهوره في “باتريسيا تاون هول”. هذه الأسس العاطفية تظهر بوضوح في المقطع الأخير، عندما يتغنى بالمزايا الناجحة لعبادة الإنسان الحر4:
“يجب أن نقف على أقدامنا وننظر إلى هذا العالم وحقائقه السيئة، جماله، وقبحه، أن نرى العالم كما هو وألا نخاف منه. نفتح العالم بالعقل وليس بمجرد الخضوع بعبودية للمخاوف التي تأتينا منه…”
يزكي السيد راسل دوماً النظر إلى الأشياء “بوضوح وصدق”، والوقوف منتصباً بدلاً من الجلوس؛ حيث يقول لنا مرة أخرى: ” يجب أن نقف وننظر بصراحة إلى العالم وجهاً لوجه.” يذكرني هنا بالسيد كلايف بل، الذي قال مرة، في لحظة صفاء، إنه يحب الحقيقة والجمال والحرية.
كلمات السيد راسل ستثير عواطف أولئك المستمعين الذي يستخدمون نفس مصطلحاته وشعاراته. وهو يحمل موقفاً مقدساً تماماً غير قائم على العقل في محبة الحرية واللطف وأشياء مشابهة، وموقفاً مشابهاً غير قائم على العقل ضد الطغيان والقسوة. أتفق تماماً معه بأن الخوف أمر سيء، وأتمنى لو كنت أشجع. ولكن لاهوتياً قديراً قد يشير إلى وجود درجات مختلفة من الخوف، وأن الخوف من الله مختلف عن الخوف من اللصوص، أو الحرائق أو الإفلاس. والسيد راسل سيقر بأن الخوف من الله أفضل من خوف الفقر أو آراء الجيران؛ لا أعرف إن كان من الممكن دفعه للإقرار بأن الخوف من الله بطريقة ملائمة سيجعلنا أكثر شجاعة في مواجهة ما لا يستحق الخوف. على أية حال، اللاهوتي ذاك سيلاحظ بأن هناك خوفاً جيداً من الله وخوفاً سيئاً أيضاً؛ النوع السيء من خشية الله هو ذاك الذي يسمم الدم ويسبب الدوار وغير ذلك من الأعراض التي ترافق الخوف من الأفاعي وقطاع الطرق.
يمكن التعامل مع “محاججات” السيد راسل واحدة واحدة. كلها مألوفة تماماً. أتذكر عندما عُرضت علي محاججته عن المسبب الأول (كما عرضها جيمس مل على جون ستيوارت مل) عندما كنت في السادسة من طرف ممرضة إيرلندية كاثوليكية تقية. يفترض السيد راسل أنه ليس مسيحياً، لأنه ملحد5. يجب أن يكون عارفاً، كما نعرف جميعاً، بأن الأمر الهام ليس ما تعتقده، بل كيف تسلك. كلما اعتدنا على الإلحاد، وجدنا أن الإلحاد غالباً مجرد تنويع على المسيحية. في الحقيقة، تنويعات مختلفة. هناك كنيسة الإلحاد العليا عند ماثيو آرنولد، وكنيسة الضوء القديم6 الملحدة لصديقنا ج. إم. روبيرتسون، وكنيسة القصدير7 الملحدة للسيد د. إتش. لورنس. وهناك الكنيسة الملحدة الدنيا بشكل مقصود للسيد راسل8. يتوقف المرء عن كونه مسيحياً فقط عندما يصبح شيئاً آخر: بوذياً أو محمدياً أو براهمانياً. الاستثناء الوحيد هو السيد إيرفينغ بابيت، الذي، ولأنه ملحد حقيقي، بشكل جوهري مسيحي تقليدي تماماً. السيد راسل في الجوهر رجل الكنيسة الدنيا، وفقط بسبب نزواته يطلق على نفسه لقب ملحد. ولدينا أيضاً هراطقة أصيلون، وهم طيور نادرة جداً، كالسيد ميلتون موري. ولكن السيد موري لاهوتي، لذا نستطيع أخذ هرطقته بجدية، وهو الأمر الذي لا نستطيع فعله مع السيد راسل. كما أن راديكالية السيد راسل في السياسة ليست إلا تنويعاً على جناح “الويغ”9، كذلك لا-مسيحيته ليست إلا تنويعاً على عواطف الكنيسة الدنيا. وهذا هو السبب الذي يجعل من كتيبه هذا وثيقة مثيرة للفضول، وللشفقة.
هوامش