يجد بعض أبناء آدم راحتهم في العزلة، الوحدة الاختيارية، يظنون أن هذا الميكانيزم الدفاعي يقيهم شرور البشر، ولا يجبرهم على الانخراط في القواعد الأساسية للعبة، المنافسة الدائمة بين البشر، يظن البعض أنه لا يجب أن يدخل المنافسة، ربما خوفًا من الخسارة، أو رفضًا لفكرة الاحتكام للنزال في المفاضلة بين الفرق، أو ظنًا في أن النزال مفروض عليه وهو لا يقبل الانصياع، أو إيمانًا بأن العزلة ترفع الروحانيات وبيئة جيدة للتعبد والتسامي أو لأي سبب آخر، وُجِدت بين البشر فئة ترفض الانصياع للقوانين والأعراف العامة السائدة، وكان الحل بالنسبة لهؤلاء هو الانزواء في مساحات صغيرة آمنة، يشيّدونها بأنفسهم ويتخذونها قوقعة أبدية تقيهم شرور العالم.
“الوحي حظ الوحيدين”، أعلنها محمود درويش قبل سنوات في “لاعب النرد”، صحيح أن هناك فارق واضح في المعنى بين الوحدة والعزلة فالأولى تشير للتوحد الإجباري الضار بالشخص بينما تعني الثانية التوحد الطوعي المريح للشخص. إلا أنهما يشتركان في خاصية “الوحي” كما أشار له درويش. فالعزلة، بكل تجلياتها “فعلٌ رسولي”، ولا أدل عن ذلك من اختيار النبي محمد لغار حراء، يقصده ليقيم فيه أيامًا وليالٍ، يخلو إلى نفسه ويتجنّب البشر.
الروايات السماوية مثلًا تؤكد على هذه السمة بين (الرسل)، القدرة على الاختلاء بالذات واعتزال الناس، فعلها موسى أيضًا عندما ترك قومه 40 يومًا وعاد ليجدهم يعبدون العجل، وفعلها يونس دونًا عنه في بطن الحوت. ثم هي الآن سمة رئيسية بين الكثير من مشاهير العلم والأدب: آينشتاين، تسلا، داروين، نيوتين، جيمس جويس..
في أيامنا هذه، صار هذا النمط الانعزالي أكثر انتشارًا ووضوحًا، لاسيما وأن التكنولوجيا الحديثة تستطيع أن تسهل هذا المسعى، وخلع المجتمع عليهم مسميات من نوعية (الذئاب المنفردة، البيتوتي، أهل الكهف)، أما في الأدبيات فقد أشار لهم كولن ويلسون (1931) كتابه “اللامنتمي”، الذي يصف تلك النوعية من الفنانين المتوحّدين الذين يجدون صعوبة في التفاهم مع المجتمع وفقاً لشروط العصر الرأسمالي الراهن، وسماهم سارتر بالـ (غشّاشين) لأنهم يرفضون قوانين المجتمع وبناه الهرمية ويتخذون مسارات مخالفة لها، وكتب عنهم فيودور دوستويفسكي روايته “في قبوي” التي ترجمت إلى العربية بعناوين متعددة “في سردابي – رسائل من أعماق الأرض – الإنسان الصرصار”. ويمكن الإشارة بسهولة إلى بعض الأدباء العرب من محبي العزلة والظل، اللبناني ربيع جابر (1972)، السوري سليم بركات (1951) حيث يكتب رواياته من معتزله في غابات السويد، والليبي إبراهيم الكوني (1948) الذي تعلم من الصحراء فكرة العزلة. وغيرهم من الكتّاب.
أسبرجر والرجل الثيتا
الطبيب النفسي البريطاني، طوني آتوود (1952)، وغيره من المتخصصين، بدأوا في مراكمة نظرية حديثة نسبيًا عن الأفراد المحبين للعزلة والتباعد الاجتماعي، وتحديدًا أرباب متلازمة آسبرجر* (الآسبيز)، ومفاد النظرية يقول إن الآسبيز سيكونون النوع السائد في الخطوة القادمة من مسار التطور البشري. هذا إن سلمنا بنظرية التطور وهي محل جدل بطبيعة الحال.
فهم يستطيعون العيش بالتكاليف والموارد الأقل والحدود الدنيا، وهذا يتوافق مع المنحى الرأسمالي الضاغط لهذا العصر، كما يمتلكون بسبب ذكائهم – وهو العَرَض الثابت لكل المصابين بمتلازمة أسبرجر – إمكانية إيجاد ما يسمى بـ (حلول خارج الصندوق)، هم يشبهون بشكل أو بآخر الزواحف والقوارض والحشرات التي نجت من الانقراض والكوارث البيئية المتعاقبة عبر العصور المختلفة.
المنافسة الطبيعية بين الخلق، صنفت البشر وفقًا للأبجدية الإغريقية إلى ألفا (القائد بالفطرة، صاحب أولوية جنسية عند الأنثى)، وبيتا (اللطيف، الثاني، ولي العهد، مقبول جنسيًا عند الأنثى)، وأوميجا (العامة، العاديون، المهزوم بالفطرة ولا يتزوج إلا أنثى أوميجا)، وثمة أنواع أخرى مثل الدلتا (الألفا المهزوم أو الألفا المطرود من الجماعة)، والسيجما (سوبر ألفا لكن بلا قطيع). ومؤخرًا ظهر التصنيف الجديد للرجل الـ ثيتا**، وهو الصنف الذي ستكتشف أنه آخذ في التزايد، ويشير مصطلح ثيتا إلى الفرد المؤهل ليكون ألفا، إلا أنه لا يشعر بأي شغف للقيادة والسيطرة ولا رغبة عنده لفرض النفوذ بالقوة أو التحالف أو التزاوج أو أي شكل آخر للتوسع والبناء، ولا يقبل أن يجري تصنيفه في طبقات وفقًا لرد فعل الأنثى حياله، فيتمرد على التصنيف ويختار العيش كذئب منفرد، هو الزاهد الذي يفضل الخروج من السباق والمنافسة والهرم الاجتماعي والجلوس في الظل مع سيجارة وبعض الشاي بالنعناع.
يختار هؤلاء حال تورطهم في العمل المؤسسي، وظائف تضعهم في عزلة عن الآخرين، ساعي بريد مثلًا أو موظف أمن ليلي وحراس مخازن وغيرها من الأعمال التي تقتضي احتكاكًا أقل بالبشر والكثير من الجلوس مع النفس.
العزلة… منشطات الأدب
الكاتب والسيناريست مصطفى ذكري، أحد أشهر الروائيين المصريين المعروفين بالميل للعزلة في شقته الواقعة في ضاحية حلوان بالقاهرة، لا يبارحها إلا نادرًا، بل ويزيد على ذلك بوضع ستائر سوداء على النوافذ لإحكام قطع الصلة بالخارج. يشرح ذكري في حوار نُشر في صحيفة اليوم السابع في 2009، الآلية التي تخدم بها العزلة فكرة الفن والإبداع: “أنا أعتبر التفرغ للكتابة هو عربون محبة للمهنة، على طريقة الصوفيين، وأن مهنة الكتابة لا تقبل إلا بكَ كُلكَ، لكنها لا تقدم أي وعود، وأنا أقبل بهذا الشرط المجحف على سبيل القربان، وكأنني أريد للمهنة أن تشعر أمامي يوماً بذنب الجفاء”.
ويواصل ذكري فيوضح المسارين اللذين قد تأخذهما العزلة: “في الحالتين، حالة البرج، وحالة القبو، يتم للكاتب تحقيق الشرط الفني عبر الابتعاد عن سطح الأرض، سطح الواقع، وذلك بالارتفاع أو الانخفاض عن مستواه”.
لا تقتصر فائدة العزلة في توفير هذا الشرط الفني، فهناك بعض المزايا الأخرى التي يتكلم عنها الأدباء محبي العزلة، ومنهم الشاعر العامية المصرية الشاب مصطفى إبراهيم (1986)، والذي اختار السكن في جبل المقطم مفضلًا نمط العزلة من قبل ظهور فيروس كورونا كوفيد – 19 بسنوات، يعتني بزرعاته ويراعي قططه ويستمع أغلب اليومي لفيديوهات بصوت الأب الروحي لشعر العامية المصرية فؤاد حداد (1928 – 1985). يشرح إبراهيم: “من المفترض أن الإنسان كائن اجتماعي ويعيش مع الناس وما إلى هنالك، وبالتالي فالعزلة لا تمنح الإنسان أمورًا مثل السلام والطاقة الإيجابية، من تجربتي، المنحة الحقيقية للعزلة، هي أنها تمكّنك من أن تسمع الصوت الغائر في رأسك، صوت عقلك، صوتك الشخصي، بمعزل عن الضجيج وأفكار الآخرين وأصواتهم. التمييز بين صوتك الأصلي وبين أصوات الآخرين التي علقت بك نتيجة الاختلاط بهم بمعدلات كبيرة، العزلة تجعلني قادراً على أن أسمع نفسي”.
ولا تعني العزلة بالضرورة الانفراد بالذات والبعد مكانيًا عن الآخرين، وإنما هي عزلة نفسية في المقام الأول، يقول إبراهيم: “لتلك العزلة أشكال، ربما يكون ذلك المعتزل مـــثلًا موظفاً في شركة يذهب يومياً للعمل ويتعامل مع زملائه ومع العابرين في الشوارع، إلا أنه منعزل عنهم، ويقيم منطقة حاجزة معهم، رغم أن حياته تبدو ظاهريًا ممتلئة، إلا أنه في حقيقته يعيش أحد أشكال العزلة. الواحد ممكن أن يكون معزولًا عن الحياة الحقيقة وهو واقف في قلب الشارع. والحقيقة، ربما يؤثر ذلك في الخبرات الحياتية وبالتالي في النتاج الأدبي”.
الوحيدون
تحتل العزلة موقع البطولة في العديد من الأعمال الأدبية المصرية والعربية والعالمية، ويُلاحظ أن هذا النوع من الروايات ينتشر بين الأدباء الشباب، رغم حضوره بين الأجيال السابقة كما هو الوضع في رواية “إجازة تفرّغ” لبدر الديب (1926 – 2005)، والتي يتضح من عنوانها اختيار البطل حسن عبد السلام هجر ضغوط العمل والذهاب إلى بيته قرب الملاحات في الإسكندرية للتفرغ للرسم.
أما بين الأجيال الأحدث نذكر روايات مثل “الغضب الضائع” لمازن العقاد، و “الوحيدون” لمحروس أحمد و”فرد أمن” لعلاء عبد الحميد و”سيدي برّاني” لمحمد صلاح العزب و “عن الذي يربي حجرًا في بيته” للطاهر شرقاوي.
ومن الروايات العربية التي نسجها مؤلفوها اتكاءً على فكرة العزلة: “أوكي مع السلامة” للبناني رشيد الضعيف، حيث يعيش الأستاذ الجامعي والكاتب نصف المشهور بلا زوجة وبلا أبناء، فقط هناك خليلة تظهر وتختفي لتقلب حياته رأسًا على عقب بعد عودته للعزلة. و “منبوذ الجبل” لليمني عبد الله ناجي، تحكي قصة أحمد الحداد المنبوذ من وطنه اليمن والمنبوذ من أرض مقامه في السعودية والغريب بين إخوته الأشقاء الحاصلين على الجنسية السعودية وغير المهددين بالإبعاد، المعتزل في غرفته بأحد الشوارع الضيقة في مكة. و أيضًا “طُبِع في بيروت” لجبور الدويهي حيث يغادر بطلها شبه المتوحد عالمه الآمن ويدخل دار النشر التي تعمل مطبعتها سرًا في تزوير العملة، ويتورط بسذاجته وقلة خبراته في الجريمة.
عالميًا يمكن ذكر روايات مثل “المسخ” لفرانز كافكا، و”هكذا كانت الوحدة” للإسباني خوان مياس، و “حكاية قمر” للياباني كيئتشيرو هيرانو، وهي تحكي قصة الشاب ماساكي إيهارا، الطالب في جامعة طوكيو والشاعر الواعد، الذي يعاني من مرض الوهن العصبي، ذلك المرض يسبب له تشنجات واختلاجات لا إرادية، ماساكي وجد في جولات المشي الطويلة حلاً معقولاً لمرضه، إذ تساعده الوحدة والتأمل في الطبيعة على تجاوز المصاعب التي يسببها له المرض. فكلما شعر بالضيق أو الملل أو أعراض المرض، يعمد إلى اقتراض بعض الأموال من أقربائه ليغطي تكاليف سفره، ومن ثم يشرع في التجول عبر البلاد: “كان من عادته السفر في رحلات ترفيهية يخفف بها من كآبة نفسه، وقد ذاق فاعلية وتأثير السفر في أولى رحلاته، لم يكن ماساكي يحدد في الغالب الهدف النهائي للرحلة، فقط يركب القطار، وعندما يمل، يترجّل منه ويتجول لمشاهدة المكان”.
* نسبة إلى طبيب الأطفال النمساوي هانز أسبرجر (1880 – 1906). ومتلازمة أسبرجر هي إحدى اضطرابات طيف التوحد، يجد المصابون بها صعوبات في التفاعل الاجتماعي، ويفضلون الوحدة، والعيش في نمط تكراري روتيني. ويختلفون عن “المتوحدين” في كونهم قادرين على تطوير الجوانب اللغوية والإدراكية، ولديهم القدرة على التواصل الاجتماعي بحذر، وأحيانًا بشكل أخرق، إلا أنهم يحجمون عن التفاعل المجتمعي.
** وضع المصطلح الطبيب النفسي والإعلامي والناشط الاجتماعي الأمريكي في مجال حقوق الرجل باول إيلام (1957).