أفكارٌ ومفاهيمُ كثيرة تُطرَح حول الترجمة ودلالاتها ووظيفيّتها، بوَصفها فِعلَيْ خيانة وأمانة، فعلَيْ جَسْرٍ وكَسر، حوار ومناورة، أداة إنتاج للمعنى وآلية تطويع وتنويع لغويّ، وما إلى ذلك من أفكار شرعيّة ومحرّمة، حذرة إلى حدّ ما، في تأمّل الترجمة كفعل فضفاض.
أضعُ هُنا أفكارًا تحاورُ الترجمان، بصفته خالقًا ومبدعًا ومؤلفًا، وبصفته كائنًا من لحمٍ ودم يبني عالمًا من الأخطاء والصّواب، يهدد ويتهدد، يكره ويحبّ، ينفي ويحتوي، يدوّن الحضور والغياب، يقدّم نفسه قربانًا، ولكنّه يقتل ويغتصب ويتحوّل، إذا لزمَ الأمر، إلى كائن كانيباليّ، وقد يبلغ الإنعاظ، وربّما “يُخصَى” وهو يسافر في مدارات الآخرين الخطرة. إنّه الرجيم الملعون الذي يحرس المعرفة، يتعالى تارةً، يتهافتُ تارةً، “يسدّد دينَه” بتعبير دريدا تارةً، “يحسنُ الضيافة” تارةً ثالثة، وقد يشعلُ حريقًا ويهدّ جسورًا ويمحو الأثر.
محمّد: خيال التلقّي
بأيّ لغة/لغات خاطب الله آدم وموسى، وما هي اللغة التي سمعها جبريل من إلهه قبل أن ينقلها إلى لغة محمّد؟ لم يكشف لنا القرآن عن لغة الحوار بين الله و”كليمه” موسى، ولا عن اللغة التي خاطب فيها آدم. والأكثر، لم يكشف لنا عن لغة التواصل بين الله وجبريل، ولا نجد سببا مقنعًا يجيب عن سؤال ما الذي يجعل الله متواريًا في صوته وهيئته عن نبيّه. عندما يدور الحديث عن نبوة محمّد ومعجزة نزول القرآن (والتي لا توازيها معجزات ماديّة أخرى للنبيّ، على عكس بقيّة الأنبياء وتعدّد معجزاتهم) يُهمّشُ دور الإله وجنده، وتُمركز الذات المحمّديّة ولسانها المتمثّل في اللغة القرآنيّة وإعجازها، وليس بما جاء به النصّ القرآني في متنه، وهو متن مألوف تمّ تدوينه وصياغته وصناعته، على ما جاء به من هم قبله. ربّما، لم يكن محمّد اعتباطيًا ولا انفعاليًا وهو يرسم بورتريه الوحي ويؤّكد على وساطته- إنّها اللغة التي وقفت حائلاً دون مخاطبة الله له. العربيّة التي سيبني عليها محمّد إعجاز المعجزة وسيحتاج إلى وسيط يعرف لغات الله القديمة قدم العالم الخطاب إلى لغته الفتيّة التي لم تكن تنافس لغة آدم ولا لغة موسى.
لنفترض صدق الخطاب الدينيّ، ونأخذه إلى منطقة أوسع. يمثّل جبريل هنا الشّكل الأكثر غموضًا والأكثر وضوحًا لدَور المترجم، في نفس الوقت. فجبريل هو الشخصيّة “الأثيريّة” الوحيدة التي تؤكّد لنا خطاب الرّب إلى الأنبياء، وهو الشّخصية الوحيدة التي أدركَت “صوت” الإله ومفاتيح لغته، وهو الذي أدّى الوظيفة التمريريّة للخطاب المزعوم، وعليه يقوم اليوم موروث دينيّ كامل. لننزع الآن صفة القداسة عن الوحي لوهلة، ونتساءل: ماذا لو أخطأ جبريل “ترجمة” لغة الرّب؟ ماذا لو كانت له هو الآخر نوايا ومآرب، بصفته الوسيط الوحيد بين النبيّ وربّه، واجتهد في تحريف/توسيع/تحوير/تغيير الخطاب عبر الترجمة؟ ماذا لو أضاعَ جبريلُ شيئًا من الرسالة في الطريق، أو أعادَ صياغة الأصل الذي لا نعرف جوهره تماما، ليفصحَ أكثر عن الخطاب الإلهي، ليُؤثّر عميقًا في المتلقّي، أو ليغيّر مسارَ هذا الخطاب؟
لا يُمكننا أن نثقَ تماما في أمانة نقل جبريل، مترجِمًا، لأنّ معرفتنا لتاريخه أيضًا معرفة محصورة ومحدودة ولا تتجاوز حدود النسق الديني. لجبريل حمولة دينية وثقافيّة غامضة ومفخّخة، فهو “يترجم” كلام الله ولغته، وخطاب الله وبنيته، يحاور النبيّ، يؤثّر في الأحداث القادمة، يبدو رصينًا آمرًا ومونوتونيًا على الدّوام لدرجة أنّه يُنسينا دوره كمترجم بين المُبدع الأهم والمتلقّي الأهم. ويتوارى صوت الله خلفه، أو ربّما ينبلع ويتلاشى صوت الله أمام صوته.
شيءٌ ما ينقصُ كلّ ما قيلَ أعلاه، وقد كان بالإمكانِ أن أقبلَ بفكرتي هذه، في نفي عمليّة النقل والتنزيل، لو كانَت القاعدة الحجاجيّة سليمة، والتي تقول بمبدأ وجود الوحي-جبريل، ووجود الإله، ونزول النصّ القرآني شفاهيًا من السّماء إلى الأرض. لكنّ هذا المثلّث اليقينيّ يُلغى وتُلغى قداسته في اللحظة التي تتمّ فيها أرضنة المصطلحات وتوطينها في مدارات الإنسانيّ لا الإلهيّ. فالنصّ القرآني نُقل إلى جبريل شفهيًا بلغة الإله التي لا نعرف عنها شيئًا، وهذا يُلغى دور جبريل ك “مترجِم” ويعيده إلى دور الناقل مقابل دور محمّد المتلقّي “المنقول إليه” مع تأكيد بطلان الكتابة /التأليف/التدوين..
هذه الفكرة تقودنا إلى إقصاء الإله، المقصيّ أساسًا من مركزيّة الخطاب الدينيّ حول عملية نزول الوحي على النبيّ. فالله كان دَومًا صوتًا باهتًا يطلّ من الخلف في الحوار الدّائر بين جبريل ومحمّد. إذا كان النصّ القرآني قد انتقل شفاهيًا من الرب إلى جبريل، وشفاهيًا من جبريل إلى محمّد، وشفاهيًا من محمّد إلى الصّحابة، نجزم هنا، والجزم بعيدٌ عن الخطاب الدينيّ لقدسيّة الإله وقدسيّة الوحي، أن النبي هو الشخصيّة التاريخيّة الحقيقيّة الوحيدة التي يمكننا أن نؤكّدَ وجودها، وبالتالي، فإنّ سلطته كمتلقّي تفوق سلطة الضّلعَين الوهميّين الآخرين اللذين لا يمكن لنا إلا أن نحيلهما إلى مخيال النبوّة العريض عند النبيّ، هذا الخيال الذي يقول عنه مونجمري واط “خيالا خلاقا متدفقا لدى محمّد” أنتجَ “الوَحي”، خيال مُنتِج وخَصب، وليسَ خيالاً معطّلا يقف عند الحدود الوجدانيّة الانفعاليّة، والدّليل على ذلك أن هذا الخيال أنتَجَ “خالقًا” للخطاب هو نفسه المتلقّي الذي يترنّح بين موهبة الصّنعة والتفرد بهذا يكون بدوره، وبكلّ سلطته ورأسماله الرّمزي الذي أسس له سنوات قبل الدّعوة، إلى جانب تمتّعه بمعرفة متنوعة في حقل الأديان السابقة على الإسلام والتي عاش في كنفها وانفتح عليها ونهل منها، كلها كانت كافية لأن يبنيَ سلطة مخياله النبويّ ويكون هو المتلقّي الأوّل، والمؤلّف الأوّل والمترجم الأوّل للنصّ “المعجزة” الذي أسّس عليه خطابه الدينيّ البديل. من هنا، تتعاظمُ قوّة النبيّ في الإسلام وسلطته الرمزيّة وتخفتُ قوّة الإله والوَحي كقوّتين مادّيتين واقعيّتين. فالأمّة ترى في النصّ القرآني أولا وآخرًا المعجزة اللغويّة التي حقّق من خلالها النبيّ الإعجاز. إنّها اللغة التي انتصر من خلالها على الخطابات الأخرى وقتها، ومن خلالها “أسرَ” الحشودَ. لم يكن محمّد بحاجة إلى برهنة وجود الوحي، ولا إلى برهنة وجود ربّه. كان عليه فقط أن يحوّل كل هذا الخيال إلى حقيقة، ليكون هو المبدع والمتلقي الأكبر عبر وسيط ال “وحي” أو الخيال. ومن هنا، حقّق محمّد المعادلة المثلى لنجاح عمله الإبداعيّ: حيث توارى واتّحد وذاب الضلعَين في الضّلع الثالث-ضلع التلقّي، ليبرهن لنا أنّ خيال التلقّي هو أهمّ مراحل الإبداع وعبرَهُ يتوحّد الخلق والوساطة والتلقّي، وهي ثلاث عمليات مصيرية في سيرورة الإبداع، في عمل تخييلي واحد. إذًا، نحن هنا أمام التلقّي بصفته أرقى مراحل الإبداع، وانسحابا على مفاهيم التأليف والترجمة فإنّ القارىء واستقباله للمنتج، يكون الضّلع الأهم وعبره يتلاشى المؤلف والمترجم في الطريق الى تفجّر النصّ ابداعيًا في خياله.
هذه القراءة تفتحُ بابًا هامًا لأسئلة جوهريّة حول مفهوم الترجمة والعمل الإبداعيّ وتلقّيه: أليست الترجمة في نهاية المطاف هي الرغبة الكامنة في نفس الترجمان بالغياب، بالتماهي مع النصّ إلى حدّ الذوبان فيه، إلى حدّ ضياعه أو تلاشيه تماما حتى لا تعود له هوية قائمة بذاتها؟ أليسَ هذا التماهي، الغياب، هو التوحّد الخالص مع النصّ إلى حدّ تأليفه، إعادة كتابته ليصبّ في نهاية المطاف في حضن المتلقّي وانتشائه بالنصّ، إلى درجة نسيانه لمؤلّفه وترجمانه؟ أليست الترجمة هنا اغتراب عن الذات الحقيقيّة، خاضعة لسيادة الآخر، مُحالة، مثلها مثل ذات المؤلّف، إلى عالَم المتلقّي بصفته المؤلف والمترجم وصاحب السيادة الحقيقيّ؟
الشيطان عَونُ الشّيطان
في الثاني عشر من العام 1991، عثرت إحدى المنظّفات على جثة هيتوشي إيغاراشي (1947-1991) في رواق مبنى الحرم الجامعيّ. عَمل إيغاراشي أستاذا مساعدا في حقل الحضارة الإسلامية المقارنة بجامعة تسوكوبا، شمال شرق طوكيو، وعندما وجدوه كانت السكين مغروزة عميقا في عنقه وجروحٌ في اليدين والوجه. لم يكن اسم ايغاراشي عاديًا ولم يكن مقتَله أيضًا عاديًا أو على سبيل المصادفة. كان إيغاراشي المُترجمَ الذي نقل رواية سلمان رشدي الرجيمة “آيات شيطانيّة” إلى اليابانيّة، وكان مقتله تكفيرًا عن خطيئتين: خطيئة التأليف، التي امتلك رشدي مفاتيحها وخلخل فيها بنيان الجماعة، وخطيئة الترجمة: يد العَون التي ساهَمت في إشهار الخلخلة.
وقتها، خضّ رشدي العالَم، وأحدثَ صدعًا في مسلّمات دينيّة يقينيّة وبراهين تهافتت في لعبة سرديّة كان من الممكن تجاهلها وحتى تقزيمها، فتنتهي العلل والمعلولات عند هذا الحدّ: فلا يُنفى الكاتب ولا يُقتل الترجمان. لكنّ هذه اللعبة توازي لعبة أخرى وتستحضرها: خطيئة إبليس في إشهار الغواية ونشر الفتنة. لقد تمرّد إبليس على فكرة الحظر الإلهي، وكان من الممكن تجاوزها لو أن الله تجاهلَ رفض الشيطان السجود لآدم.
تكافأ دمُ الكاتب ودمُ الترجمان. تساويا في اللعنة وفي العقوبة وفي الطّرد. هاجرَ الترجمان، مثل الشيطان وأعوانه، إلى منفاه الأبديّ، لتصبحَ الكتابة والترجمة فعلا واحدًا يتماهى فيه صوتان في الخلخلة والضلالة، أو بكلمات أخرى، التهديد بالوعي والمعرفة. لكنّ مأساة المترجم ظلّت تقف على هامش سيرة البطل، وبينما وضعوا رشدي تحت الحماية خوفًا عليه من تطبيق الفتوى، نسوا المترجم، الذي لم يكن مستثنى من فتوى الخميني التي أطلقها عام 1989، ولم يتنبه أحدٌ إلى واجب حراسته هو أيضًا. وأعلنَ رشدي عن “وجعه” من خبر مقتل السيّد هيتوشي مقدّمًا عزاءه للعائلة، ثمّ ذكره بول أوستر، عرضًا، وهو يصلّي لأجل سلمان رشدي، مكتفيًا بوصفه كـ “أحد مترجمي” رشدي، لتتعزّز مأساته عبر تدوين “مجهوليّته”.
المترجمُ أخو المؤلّف في الغَواية، وشيطانٌ يعينُ شيطانا على الانقسام. شيطانٌ مسؤول يمتلك شيفرات ايتيقا المسؤوليّة تجاه الـ”آخر” وحُسن ضيافته، حتّى لو كان على حساب التضحية بالنّفس كي يعيشَ الضّيف.
كلّما تذكّرت حادثة قتل الترجمان اليابانيّ، تذكّرتُ معها أنّ عملي أيضًا خطيئة تهدد بالطرد والنّفي مع كلّ عملٍ أدبيّ يغويني نقله. لتصير الترجمة حالة قلق دائمة مفتوحة على المَوت، أو على مصير مجهول وألمٍ محتمل، أن أغيبَ ليحضر الآخر، أن أصيرَ أنا الآخر.
عُصاب القلق
القلق هو القاعدة الباطونية التي ينطلق منها المترجم في عمله. إنّه عصابُ القلق، اضطراب الذات ورهبة الغيريّة، برهنة الهويّة، والخوف من الذوبان في الآخر، قلق الكتابة بين الأمانة والخيانة، قلق الأثر وقلق محوه، قلق الفوضى وقلق الاستقرار، قلق العبوديّة والسّبي وقلق الحريّة. وأخيرًا قلق أن لا يكون خالد مثل أفلاطون!
يعدّ المترجم نفسه في مرحلة تسبق العَمل مهيئًا نفسه للقراءة والفهم، في مسوّدة الترجمة، تماما مثل جنديّ يتهيأ للمعركة، يختار مستوى اللغة والأسلوب، يحدد بوصلة النص وتكتيك العمل. ثمّ يدخل النصّ كمَن دخل معركةً لا خاسرين فيها: يؤوّل، يفسّر، يحلّ الأحاجي والألغاز، يفكّ شيفرات اللامفصَح عنه في الكلمات، يسافر منفيًا عبر كلمات لا تشبهه ومناخٍ ليس مناخه، وعليه أن يتوه أو يُنفى أو يهاجر، أوديسيًا، ليعودَ ظافرًا. في الطريق، ستصادفه العثرات. سيتماسّ وينشبك مع اللغة وعوالمها ومتن العمل ليعود وينفصل وهو يعرّي العمل ويخيط له رداءً جديدا. ثمّ يخرج من المعركة وفي يده الغنيمة، السّبي العظيم، النصّ المشدود من تلابيبه. الترجمة قد تكون حُسن ضيافة، على حد تعبير بول ريكور، لكنّها ليست بالضّرورة دومًا حُسنًا وإحسانًا. للمترجمِ سُلطة، فهو أمين سرّ العمل وصاحبه، والقابض على كنهه وكنه صاحبه، وهو المُضيف الذي يتحكّم في حركة الضّيف (بخيره وشرّه)، يشكّك في قَوله، السّجان اللطيف الذي يحكم سيطرته على السّجين، كلاهما سلطة، الكاتب في بيئته وجغرافيا ثقافته ولغته وحركة مخياله المحلي والكونيّ، وصاحبه-مضيفه المترجم، بمخياله العاتي والوسيط النّافي والمهجّر. وهنا يصبح المنفى بالنسبة للنص “الحياة خارج النظام المألوف”، على حد تعبير ادوارد سعيد، حيث المنفيّ هنا لا يعود إلى وطنه.. إنّه “بدويّ، غير متمركز، طباقيّ” يواصل سعيد. ومن داخل قلق النافي وقلق المنفيّ تأتي الحياة. إذ للمترجمِ حياة يخلقها وهو في قلب الحلبة، في قلب العَمل، قوامها انفعالات ورغباتٌ وشهواتٌ وأحقادٌ وطموح بالوصول، وليس فقط الإيصال. هو أيضًا، في خضمّ القلق، يعاني من الأزمات والصّراعات، نصيبه من المالينخوليا كبير، وهو يواجه إعصار النّص، يخافُ أن يفلتَ المعنى منه، يخافُ أن تفلت اللغة منه، يخافُ أن لا يقبضَ على روح المؤلف.. وقد يحوّر ويحيل إلى آخرين، يزيّف، يفقدُ الأمانة قسرًا وطوعًا، يشرح ويفصّل، يهمّش ويختصر ويتلاعب، يقع في الخطأ ويضيّع المعرفة وهو يسعى إليها. إنّه ببساطة، يخاف أن يفقدَ نعمة التماهي مع النصّ، التماهي إلى حدّ الغياب، هذا الغياب-المَوت الذي يخلقُ حياةً جديدة للنصّ في قلب المتلقّي.
وهنا قلقٌ آخر يلقيه الجاحظ في قلب الترجمان، قلق المسؤول وقلق الكمال وهو يقول:
“ولا بد للترجمان من أن يكون بيانه في نفس الترجمة، في وزن علمه في نفس المعرفة، وينبغي أن يكون أعلم الناس باللغة المنقولة والمنقول إليها، حتى يكون فيهما سواء وغاية، ومتى وجدناه أيضا قد تكلم بلسانين، علمنا أنه قد أدخل الضيم عليهما؛ لأن كل واحدة من اللغتين تجذب الأخرى وتأخذ منها، وتعترض عليها”.
اللسانان: المنبع والمصبّ- هما قلق الكمال عند ترجمان الجاحظ.. على المترجم أن يكون مؤلّفًا، ومتلقيًا، أن يكون هو ذاته الضّلعان الآخران. أن يبلغ الكمال ويتحقّق بهذا موته.
أن يزيّف المترجم ويحوّر ويكذب، لا يعني دومًا أنّه يقدّم ترجمة رديئة أو فاسدة، وربّما يكون العكس هو الصّحيح، إذا كان يحتاج إلى أن يؤدّي المعنى، الجوهر، وليس التبليغ والإبلاغ على حدّ ما يقول والتر بنيامين في رسالة الترجمان. إنّه ينقذ النصّ، ينقذ المؤلّف وينقذ نفسه في اللحظات العصيبة. لاحقًا ستأتي المحاسبة.
ثمّة عنفٌ بدائيّ يواجهه النصّ وهو ينقطع ويُسبى وينسلخ، عنفُ الكوجيتو “الكانيباليّ” الذي يفترسُ الجسد الوسيط للآخر، وعنفُ النديّة وعنف القلق وعنف الإيغو وعنف اللغة وعنف المسخ وعنف الأخطاء. أنواع لا نهاية لها من العنف، الساديّ، النابع من الحبّ تارةً ومن الكراهيّة تارةً أخرى ومن السّعي إلى إثبات الذات من خلال إبطال الآخر تماما، أو التفاوض مع النص بتفسيره وإبانته والإفصاح عن ضجيجه عبر تعالي الكلمات الجديدة الصّامتة.
وفي جميعها، لا حياد أو لا برزخ في الترجمة، وكما قد تكون الترجمات الجميلة خائنة، قد تكون الترجمات الرّديئة وفيّة للأصل.
اختراع الصّمت
لا قانون أشدّ نفوذًا من قانونِ الرّغبة والمخيال الترجميّ لدى المترجم، ذلك المؤلّف المحايث. لكنّه، مؤلّف بلا لسان، فُرض عليه الصّمت قسرًا وفي الطريق إلى إنجاز مهمّته، احتشدت كل حواس جسده لتحلّ محلّ الكلام. إنّه يخترعُ لغته ويعيش فيها، يتعلّمها على مهل، يتدرّب مثل الخيل على سباق طويل المسافات. الأبكم الذي تعلّم حرفة الإنصات ليكمل مهمته بنجاح، وبهذا يوازن ما بين ظاهره باطنه، يُصلح اختلال الذي أصاب العالَم الضّاج بالأصوات، ويقاومُ طنين الكلمات وضوضائها بغياب الصّوت وحركة اللسان. العالَم يثبتُ وجوده بالصراخ والحركة، كما يقول السويسري ماكس بيكارد في كتابه عالم الصمت، أما “الصمت ]ف[هو الظاهرة الأساسية، أي أن تقول، هو الواقع الأولي الموضوعي الذي لا يمكن إرجاعه إلى أي شيء آخر”. بهذه اللغة السكونيّة، أو فقدان النطق، يصلُ المترجم، إلى أصفى حالات التأمّل والتفكير، إلى الكَمال المتوّج بالعزلة، وإلى الحكمة التي يُقال إن تسعة أجزاء منها في الصّمت وعاشرها عزلة الناس. هنا، يتوازن فعل الترجمة مع فعل التأليف، في كونهما حالة من الوحشة، والوحدة وتطهير النّفس وتعاليها بابتعادها عن الناس. وفي جوهرها، هي عصيان على الحركة، أو لنقل، هي حركة سكونيّة مضادّة للصّخب، أو لنقل لغة العلم الذي لا يعرف الضّجيج بقدر انغماسه في المنطق والتفكير ولغة الأرقام لغة البراهين، أو لنقل هي لغة المَوت ايضًا. نعم، إنّه يؤلّف كتابًا، يقدّم لسانه قربانًا ليعيشَ الكتاب. يصمت أو يموت موتًا مؤقًتا ليعيش الكتاب أبدًا في مكانٍ آخر وفي لغة أخرى، تماما كما يدخل الكاتب في عزلته ويصمت طويلا لتعيشَ الكلمات. كلاهما، المؤلف والمترجم، يسافران سفرًا طويلا في الصّمت أو في الموت، وفي الصّمت يخلقان لغةً وحياةً أخرى، كلاهما يتشاركان في التأليف، الكتابة الأولى، والكتابة الثانية. ولربّما كان هذا سرّ الإحساس بالرّهبة والإجلال تجاه المترجم بنفس قدر الكاتب: وابن رشد/ ابن سينا مقابل أرسطو، ريتشارد إلمان مقابل جيمس جويس، صالح العلماني مقابل ماركيز، جبرا ابراهيم جبرا مقابل شكسبير، سليمان البستاني مقابل هوميروس، عبد الرحمن بدوي مقابل غوته، علي مصباح مقابل نيتشه . كلّ مخيالٍ ترجميّ مسكون برغبة التأليف، وكلّ تأليف مشدود بقلق الصمت/الموت وقلق الكلام/الحياة، وكلّ قلقٍ هو قاعدة الإبداع.
الترجمة والفونتازم
عندما يُسأل المترجمون عن سبب امتهانهم الترجمة، تكون المتعة أول الأسباب. لكنّها متعة لا يمكن تفسير طبيعتها حرفيًا او الاقتصار على الترفيه والتسلية، كتفسير للمفردة، فكلمة متعة غالبا ما تكون مرجعيّتها ودلالاتها مقرونة بالرغبة أو الشّبق أو الشهوانية، على اختلاف وتعدد معانيها.
الترجمة فانتازم مجازيّ، رغبةٌ مفتوحة على النصوص. عليكَ أن تعشق شيئًا في الكتاب، حتى قبحه، ليغويك بنقله. لا يمكن للمترجم أن يعيشَ بشيفرات أخلاقيّة جافّة وحسب. إنّه في أمسّ الحاجة إلى خيالات وأوهام – إلى مخيال محمّدي يؤكّد عمليّة الإبداع- يلجها لتثير قدرته على تشويش المحظورات وحتّى تفسيخها أو تذويبها، ليخصب النصّ، لينتهك النصّ، “ليطمثه” في الطريق إلى نقله، أو سلخه عن أصله أو إبداعه من جديد وتفجير طاقاته.
إنها متعة الانسجام والتوحّد، مِن قبلِ الترجمان، مع جسد النصّ، أو متعة يتماهى فيها العاشق مع المعشوق، في الطريق إلى افتضاض عذريّته أو الاستجابة لمثيراته، مهما كانَ الثّمن الذي سيدفعه النصّ. النصّ هو لحم الآخر المرميّ في أرضٍ غريبة، والمترجم يُشبع فيه رغبات الوصول، نعوظ الذّهن وهو يتماهى أو يحتلّ ويستحلّ وأحيانا يغتصب الـ”جسد”–النصّ الهشّ البعيد عن أبويه، الميتّم في جغرافيا المنفى.
تدوين الكراهية
مدّ جسور التواصل الإنسانيّ، فعلُ مثاقفة صرف، تقريب بين الثقافات والحضارات الإنسانيّة- المترجمون، هؤلاء الكتّاب النادرون. هذه التعريفات السّعيدة المزوّقة المتعارَف عليها، ترفع المترجمين ومشاريعهم إلى مصافّ الأنبياء. لكنّها، أي الترجمة، قد تكون حركة مضادّة باتجاه توثيق النفور والكراهيّة، والإفصاح عن العداء واتخاذ موقف من نصوص تم تحريمها، منع نشرها، نفي كتّابها أو قتلهم أو تهميشهم: وما من دليل أكبر من قَتل كتّاب وصلوا نوبل، من أمثال أيزاك باشيفيس زينغر وصول بيلو ومع ذلك لم يصلوا القارىء العربيّ، لأنّهم ببساطة دخلوا منطقة النّفي الناعم، إمّا لجَهلٍ معرفيّ، أو تكتيك حرب ضدّ الهويات، أو نفور من ثقافات بعيدة، أو ذائقة تجاريّة تنفي الهجين. وفي هذا السّياق، يدخل المتلقّي المتعدّد الذي يصير استقباله أيضًا جزءًا من هذه اللعبة النافرة-الحميمة. قد تفتح التّرجمة باب القبول وقد تسدّه، وقد تُبطل ولادة المؤلّفين في لغاتٍ وأراضٍ أخرى، وقد تُكسبهم ألسنة ومنازلَ وأرواحًا أخرى: ميلر، بوروز، روث، رشدي، بوكوفسكي، مالمود، والاس، أولدز، أوزيك وغيرهم.
للمترجم أسلوب وحقل وتاريخ ولغة وروحٌ وجسد وكيانٌ من انفعالات وحسابات. هذه هي سيرته التي يحقنها داخل النصّ والمفتوحة على مغامرات سورياليّة لا متناهية من التفاعل والعداء والتعاطف والحضور والغياب والموت والبَعث وهو بهذا ينتشر في قلبِ العَمل، يلدهُ ويعيد تمثيله من جديد بصفته المؤلّف والقارئ الأهمّ القادر على خلق خطوط موازية ومتجاورة للنصّ العابر، وبالتالي منحه عمقًا وقيمةً لا يمكن أن يمنحها له المؤلّف الأب لو ظلّ حبيسًا فيه. وهذا يعيدني مرّة أخرى إلى الفكرة الأولى، إلى الإبداع المحمّديّ الذي حقّق نجاحًا منقطع النّظير لأنّه خلقَ نصًا قامت قاعدته على صَهر التأليف والترجمة في بوتقة التلقّي والمخيال المفتوح على تمجيد اللغة وأثرها في المستقبلين، فلا يعود للمؤلّف/الإله ولغته، ولا للوسيط/الترجمان ذوات حقيقيّة مستقلّة تعيشُ بعيدًا عن المكان الذي رسا فيه النصّ.