SOS
حين دُعيت للمشاركة في الملف الخاص بالترجمة الذي تنشره مجلة رمّان الثقافيّة، تبادرت إلى ذهني أفكار عديدة، وقلت في نفسي إنّني سأحدّد قائمة بالأولويات التي تهمّني وتهمّ المشتغلين والمشتغلات في حقل الترجمة بصورة عامّة، ثمّ سأختار موضوعاً منها للتوسّع فيه قدر الإمكان. من بين هذه الأفكار ثمّة مسائل انتهاك حقوق الملكيّة الفكريّة (وإن كنتُ ضدّ هذه الحقوق في عالم شيوعي مثالي)، والتدنّي الفاحش للأجور التي يتقاضاها المترجمون والمترجمات (حتّى في ظلّ وجود حدود دنيا للأجور في بعض الدول)، وفوضى التعريب والنقل (في ظّل غياب/ لا جدوى/ عدم فعاليّة- سمّها ما شئت- جهة متخصّصة تعنى بشؤون الجانب المعرفي في الترجمة وتعمل على عقد حوارات أو محاضرات أو مناظرات بحجم المسؤولية العظيمة التي تقع على عاتق حركة الترجمة)، ناهيك عن المشكلات الصحيّة التي نُعاني منها نحن معشر المترجمين والمترجمات من الآلام المزمنة في كلٍّ من الرقبة والعمود الفقريّ ومفاصل اليدين، وأوجاع الرأس، وضعف البصر، ومشاكل ضغط الدم، وإدمان المنبّهات والسجائر (كارثة حقاً، يا إلهي!- أتساءل الآن لماذا لا نتقاعد في سن مبكّرة مثل لاعبي كرة القدم؟! نسيت، نحنُ- مثل رفاقنا عمّال المناجم- لا نتقاعد، نعمل أو نموت جوعاً، وليس نادراً على الإطلاق أن يحدث الأمران في الوقت نفسه). وأمّا على الصعيدين النفسي والاجتماعي، فثمّة أمور أعتقد أنّ البوح بها قد يستلزم جلستين فما فوق من التنويم المغناطيسي ومثلها من علب المناديل الورقيّة بغية تجفيف الدموع.
كنتُ أودّ أن أحدّثكم أيضاً عن نقابة أو اتّحاد أو جمعيّة خيريّة للرأفة بنا والدفاع عن حقوقنا. لكن، حسناً، ليس ثمّة شيء من هذا القبيل؛ ليس كما يتخيّل زملاؤنا الشقر المُرفَّهون على الأقل. والحقيقة هي أنّنا لسنا بحاجة في هذه المرحلة المعقّدة من تاريخ مهنتنا إلى أيّ تجمّع تقليديّ (ولا يعني هذا أنّ تعاطفكم وحده يكفي أيضاً)؛ بل خلاصة الأمر أنّنا بحاجة إلى فريق مُتخصّص بتخليص الرهائن كي يُنقذ أجسادنا وأرواحنا من أهوال العمل داخل معسكرات ملفات الـ word. وصدّقوني، أنا لا أستطيع بمفردي أن أقنِع البروفسور جون العزيز في جامعتنا أنّني لا أتقاضى وزن الكتاب ذهباً، وما زلت أذكر كيف نظر إليّ بسعادة كريستوف كولومبوس حينما لمح شاطئ باهاماس لأوّل مرّة- وكأنّما أراد أن يضع في يدي خريطة الكنز على طبق من فضّة- وقال لي أمام الجميع: “أعلمُ أنّك مُترجِم، وهذا الكتاب قد تُرجِم إلى معظم لغات العالم لكنه لم يجد الطريق إلى العربية بعد، وسوف أساعدك في الحصول على حقوق ترجمته”. وكان الكتابُ المقصود مُقرَّراً أكاديميّاً بصدد تطوّر الأنظمة الدوليّة عبر التاريخ، والأهم هُنا أنّ مؤلّفه أوردَ في معرض حديثه عن الإمبراطوريّة الإسلاميّة أنّ الخليفة العبّاسي هارون الرشيد كان قد خصّص أجراً للمترجمين يعادل وزن ما ترجموه ذهباً خالصاً. ولعلّ البروفسور جون العزيز ظنّ أنّني سأتقاضى ما يعادل وزن قرابة 600 صفحة من الذهب على أقلّ تقدير، وبالتأكيد لن يكون من المنصِف ألّا يحصل على نسبة مُغرية من نصف كيلو الذهب المُتخيَّل هذا لقاءَ نصيحته ومساعدته، ولعلّه ظنَّ أنّ من حقّه الحصول على الذهب على أيّ حال، أفلا يكفي أنّه في صُحبِة مُترجِم إلى العربيّة وعنها؟!
عزيزي القارئ، لا تترك المترجمَ وحيداً
لعلّ أبرز المفارقات التي تقع ما بين المترجم والقارئ- العزيز عادةً- هي عندما يُقيِّم الأخير العمل المترجَم باعتباره أصيلاً؛ فيتحدّث عن جماليّة السرد، والعناية بانتقاء مفردّات تتلاءم مع تكوين كلّ شخصيّة بحدّ ذاتها وخلفيّاتها الاجتماعيّة والثقافية، وما إلى ذلك، ولكن باعتبار أنّ كلّ ما سبق إنّما ينبع من مهارة الكاتب وحده، ثمّ ينسى القارئ العزيز تماماً أنّه يقرأ نصَّاً مُترجَماً- أيّ بلغة أخرى من باب التوضيح- “ودي قمّة الإعجاز العلمي”.
كنت قد كتبتُ هذه السطور بعد أن قرأت مصادفة عدداً لا بأس به من التعليقات على موقع Goodreads بصدد روايتين كنت قد ترجمتُ واحدة منهما وشاركت بترجمة أخرى. كانت التعليقات إيجابيّة جداً في العموم، بيد أنّ أحداً لم يُشِر خلال حديثه عمّا في الرواية من تشويق وسرد غني وغير ذلك، إلى أنّه يقرأ نصاً مُترجَماً، لا من قريب ولا من بعيد. كما لاحظتُ في صفحتي، وصفحات بعض الزملاء والزميلات أيضاً، أنّ القراء الأعزاء إنّما يتذكّرون المترجم فقط حينما لا يعجبهم النص. وهذا بالتأكيد حقٌّ لا ينكره أحد، بل وضرورة حتميّة للتطوُّر في التجارب القادمة. أمّا في حال الإعجاب، فإنّ الفضل كلّه يعزى للكاتب لا شريك له، في حين يُغبَن المترجم من جديد- معنوياً هذه المرّة- وكأنّ ما يلحق به من غُبن ماديّ قد يصل إلى حدّ السرقة الموصوفة ليس كافياً!
أغلب الظنّ أنّ أثر هذا الإهمال سيفضي بنا نحن معشر المترجمين إلى مصحّات نفسيّة في نهاية المطاف؛ فمن جهة أولى، نعتقدُ بأنّ عدم التمييز ما بين النصيّن الأصلي والمترجم إنّما هو منتهى ما يصبو إليه كلّ مُترجِم؛ بمعنى أنّ يُقدّم عملاً مُتكاملاً يُحقِّق شروط الأصالة بمعزل عن الأصل فرضيّاً. ولكن، من جهة أخرى، أن يُحسَب هذا الجهد أيضاً لصالح الكاتب أيضاً، فإنّ في المسألة ظلماً كبيراً. ثمّ، فلنتأمّل مثلاً هذا التعليق المميّز لقارئ عزيز على رواية مترجَمة، يقول فيه:
“… لومي هُنا على المترجم الذي حرص على “أمانة ” لم نكن ثقافيًا وأدبيًا بحاجة لها”. إذاً، ما الذي كان يحتاج إليه صاحبنا حينما اقتنى الكتاب؟! حسناً، لعلّه كان بحاجةٍ إلى الورق للتدفئة، أو الغلاف السميك وحده ليعدِل به ثلّاجة منزله التي تميل إلى اليمين بعض الشيء. بعيداً عن لعبة الاحتمالات التي لا تنتهي، أظنّ أنّني أدركُ تماماً عن أيّ “أمانة” يُلام عليها المترجِم- في هذا الكتاب أم سواه؛ يتعلّق الأمر بأنّ المترجِم الذي يؤدّي مهمّته “بأمانة” إنّما يضع القارئ أمام مواجهات واقعيّة قد تكون مؤلمة في أحيان كثيرة، على عكس ما كان يتوقّعه بصدد تحصيل متعة لا تضطرّه إلى طرح الكثير من التساؤلات على الصعيدين الفردي أو الجمعي أو كليهما. وبالتالي، يُحمَّل المترجِم “الأمين” مسؤولية الخوض في تابوهات يُحظَر التطرّق إليها من قبل كلٍّ من المجتمع والسلطة في البيئات الناطقة بالعربيّة. وعلى المترجِم إذاً أن يلجأ إلى التحريف والتزوير كي يتفادى هذا الصدام- فيكون بالتالي مترجِماً مُتفهِّماً- أو أن يحارب طواحين الهواء على غرار العم دون كيخوته. مع ذلك، لا يلوم المترجم القارئ على رأيه، فسياقات تفاعل السلطة والمعرفة التي أفضَت إلى هذا النمط من التفكير واضحة جداً- بالنسبة إلى المترجم على الأقل، بحكم أنّه يَتنقّل باستمرار من بيئة إلى أخرى- وبالتالي ينبغي أن يوجَّهُ كلّ من المترجم والقارئ غضبهما إلى أصحاب القرار الفعليين في عصر الانحطاط هذا من سلطات سياسية واقتصاديّة ودينيّة وثقافيّة، لأنّها المسؤول الأوّل والأخير عن تحطيم جسور التواصل التي يَمدّها كلّ من المترجمين والمترجمات ما بين العالم الناطق بالعربيّة والعالم الخارجي، وبالتالي حرمان القارئ من المتعة الأهم في هذا السياق؛ متعة المعرفة.