قِلّة من القراء في العالم العربي اليوم من يشترون عملاً أدبياً مترجماً للغة العربية دون أن يسألوا عن إسم المترجم. سؤال “من هو مترجم هذا العمل؟” بات شائعاً، أكثر من ذي قبل، في العشرين سنة الأخيرة. حتى أننا كقراء، ربما نشتري رواية لكاتب إسباني أو ألماني أو فرنسي لم نسمع عنه من قبل. لكن، ولثقتنا بالمترجم الذي ترجم هذا العمل أو ذاك، نسارع في اقتناء الكتاب من دون أي تردد أو تفكير.
كيف يختار المترجم الأعمال الأدبية التي يرغب في ترجمتها؟ ما هي المعايير التي يقوم على أساسها الاختيار؟
حول هذه هذه المسألة حاورنا أربعة مترجمين من العالم العربي، لديهم تجارب مختلفة فيما يخص الترجمة الأدبية، وحدود حرية الاختيار المرتبطة بشروط سوق الكتاب في العالم.
حرية الاختيار من عدمها
يقول المترجم المصري سمير جريس، والذي يترجم أعمالاً أدبية متنوعة عن اللغة الألمانية: “معظم الأعمال التي نقلتها إلى العربية، وهي تشارف اليوم على الثلاثين، هي من اختياري. في بداية عملي كمترجم اخترت نصوصاً قصيرة لبورشرت وهاينريش بول. من ناحية كانت هناك اعتبارات عملية، مثل سهولة نشر تلك النصوص القصيرة في المجلات والدوريات، ومن ناحية أخرى لأن القصة القصيرة الجيدة تستطيع مخاطبة القارئ في لغة وثقافة أخرى على نحو أسهل بكثير من الرواية الطويلة؛ كما أن هذه القصص القصيرة تتحدث عن الخبرة الأساسية التي أثرت عميقاً في الأدب الألماني المعاصر، أعني خبرة الحرب”.
وأضاف: “بعد ذلك اتجهت إلى ترجمة الرواية. كان همي -ولا يزال- هو نقل أعمال متميزة من كافة اتجاهات الأدب الألماني اللغة المعاصر، أي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945. أقول أعمالاً متميزة، إما لأنها حققت شهرة في داخل المنطقة الألمانية، مثل “قصص بسيطة” لإنجو شولتسه، أو لكون العمل لكاتب شهير له وزنه مثل رواية “جون جوان” لبيتر هاندكه، والتي اقترحتها على الناشر قبل نوبل”.
تختلف وجهة نظر الروائي والمترجم المصري محمد عبد النبي عن وجهة نظر المترجم سمير جريس حول مسألة الاختيار قليلاً، إذ يقول عبد النبي: “في ثمانين بالمئة من الحالات تقريباً، لا يختار المترجم الأعمال التي يترجمها، بل ربما تُعرَض عليه ثم يعود إليه القرار في قبول ترجمتها والاتفاق عليها أو لا. مَن يتفق على ترجمة العمل، في معظم الحالات، هو الناشر، حتَّى وإن كان العمل من اقتراح المترجم، وفي حالات نادرة للغاية يتواصل المترجم بنفسه مع الكاتب الأجنبي أو الوكيل أو الناشر لشراء حقوق أحد الكتب، لكن الأغلب الأعم أن الناشر مَن يختار ومَن يتفق”.
مضيفاً أنه “في نسبة 20% من الحالات قد يقترح المترجم عنواناً وإن ساعدته الظروف وحالفه الحظ يوافق عليه الناشر ويحصل على حقوقه، وإلَّا فقد يترجم ويضعه جانباً لحين العثور على طريقة لنشره أو أن ينشره في إحدى دور تحت بير السلم التي لا تكترث لحقوق ولا يحزنون”.
أما الروائي والمترجم التونسي جمال الجلاصي يقول إن معياره الوحيد الذي يحدد على أساسه الاختيار هو الحب: “أنا أترجم تحت صدمة الحبّ. هذه هي القاعدة. التعبير عن عشقي لنص أو كتاب يكون بمحاولة خلق جناح إضافي له ليحلّق أعلى، لينتشر، ليشاركني أكثر عدد ممكن من القراء في تلك التجربة العشقية. إذا لم تكن الترجمة تعبيراً عن الحب، مثل الكتابة تماماً، فهي قفز بهلواني بين اللغات ولعبة قاموسية لا روح فيها.
ويتابع جمال كلامه: “الترجمة بالنسبة إليّ خيار إنساني بالدرجة الأولى، مثل الكتابة تماماً، والكتابة الخالية من البحث الجمالي والإنساني لا تنفع أحداً الكتابة الخالية من المعنى والسابحة في شقشقة لغوية وجمالية جوفاء لا تستهويني”.
ويوضح جمال أنه: “قد نتج عن ذلك الكثير من الصعوبات في النشر، مثلما حدث معي إثر ترجمتي لرواية “الإله الصغير عقراب” للرواية الفرنسي روبيرت إيسكاربيت، باعتبارها رواية تتناول أهم التابوهات في العالم العربي وهو تابو الدين: هذه الرواية درس في التسامح بين الأديان وحق الاختلاف والتعايش مع المختلف وحرية الضمير. لكن أغلب دور النشر خافت من نشرها وتهرّب العديد من الأصدقاء الناشرين منها. ولولا جرأة دار الجمل لظلت في ذاكرة حاسوبي إلى الآن”.
في حين يعتقد المترجم السوري أسامة منزلجي أن في الأمر علاقة متبادلة بين المترجم والناشر والقارئ فيقول: “أولاً على المترجم أن يكون أولاً مخلصاً ويحترم المهنة التي اختارها وأن يكون جادّاً في عمله، ثم عليه أن يكسب ثقة الناشر عبر جودة ترجمته وحُسن انتقائه للمادة التي يترجمها، وبعد أن يقبل الناشر المادة ويجد أنها تجد صدى جيداً وقبولاً لدى القارئ فإنه سوف يتمسك بذلك المترجم ويلجأ إليه لتقديم ترجمات أخرى لأنَّ كتبه تجد قبولاً عند القرّاء – وهكذا تكتمل المنظومة : المترجم-الناشر- القارئ ، ويتحقق النجاح للجميع”.
الترجمة ما بين الشغف وكسب الرزق
الأدب المترجم لا يهم فقط القارئ الشغوف بقراءة الأدب عموماً، بل هو محط اهتمام الكتّاب والصحفيين العرب المختصين بالشؤون الأدبية والثقافية. إذ لا بدَّ أن يكون الكاتب العربي مطلعاً على الأفكار والأساليب الفنية والتجارب الأدبية المختلفة من كل ثقافات العالم. وكثير من الأحيان نشعر بالامتنان اتجاه عمل أدبي مترجم أحدث نقلة نوعية على مستوى الأسلوب وجماليات السرد الفنية داخل النص.
في هذا الصدد يقول سمير جريس: قد أترجم عملا حقق نقلة فنية أو أسلوبية وبالتالي له أهمية نقدية (مثل “مونتاوك” لماكس فريش)، أو لأنني أرى أن هذا العمل يثير اهتمام القارئ العربي، مثل “الحيوان الباكي” لميشائيل كليبرغ والذي يتحدث فيه عن رحلته إلى لبنان وعلاقته بالشاعر عباس بيضون، أو مسرحية “مدرسة المستبدين” لإيريش كستنر، ومسرحية “99 في المئة” لبرشت، وهما مسرحيتان يتناولان موضوع القمع والاستبداد، وأنت تعلم راهنية هذا الموضوع في منطقتنا.
ويتابع سمير كلامه: أحياناً أود أن أنقل عملاً لكاتب مهم لا يعرفه القارئ العربي، مثل إلفريده يلينك في روايتها “عازفة البيانو” التي كانت أول عمل يترجم لها، وكذلك توماس برنهارد في كتابه “صداقة” ورواية “قاتل لمدة عام” لدليوس. وأخيراً فأنا أترجم عملاً ما لأنني – ببساطة – أحببته، واستمتعت بقراءته وأود أن يشاركني آخرون هذه المتعة، مثل “الكونترباص” لزوسكيند، و”الوعد” و”العطل” لدورنمات، و”الطباخ” لمارتين زوتر”.
أما محمد عبد النبي فيطرح مجدداً رأياً مخالفاً إلى حد ما، لرأي سمير جريس، فيقول: “المترجم ليس مسؤولاً عن العمل الذي يترجمه، مِن حيث لغته وأسلوبه وتقنياته وبنائه، فهو ليس ناقداً ولا كاتباً، له مهمة محددة، تحويل نص من لغة إلى لغة، من غير أن يقيم نفسه وصياً لا على الكتاب ولا على القارئ، ويجب ألَّا يعطي لدوره حجماً أكبر من حدود مهمته. برغم هذا يأتي بعض المترجمين من سياق ثقافي واسع، كأن يكون المترجم صحفياً أو كاتباً أو أكاديمياً، وبعض هؤلاء يدقق في اختياراته، لأن الترجمة ليست مجرد وسيلة لكسب الرزق بالنسبة له، بقدر ما هي عمل ثقافي وتنويري”.
ويرى محمد عبد النبي أن المترجم المحترف والذي يتعيش من الترجمة ولا يمكنه أن يتوقف عن العمل فترات طويلة فهو لا يضع معايير عالية طوال الوقت، والحد الأدنى يكفيه، أي أن يكون الكتاب جيداً مقبولاً ولا يحتوي على أفكار هدَّامة مثلاً، فهو في النهاية ليس آلة، حسب تعبيره.
أما جمال الجلاصي فيقول أنه حين يختار كتاباً لترجمته، يركّز أساساً على قيمته الأدبية، أي مدى الإضافة التي يقدّمها للجنس الأدبي التي ينتمي إليه، مدى وفائه للرواية أو الشعر أو للقصة، ثم الشحنة الإنسانية التي يحتوي عليها. الأدب الذي يدافع عن القيم الإنسانية الكبرى: الخير والعدالة والجمال.
كما أن أسامة المنزلجي يعتمد في الأساس على قراءاته ومعرفته بأهمية كتّاب معيَّنين في الأدب الإنكليزي-الأميركي: “أحب أن أقدِّم بعضهم إلى القارئ العربي، بغضّ النظر عمّا إذا كانوا معروفين على نطاق واسع أم لا ، وأعتمد في ذلك على قناعتي وعلى ثقة دار النشر فيّ”.
الرقابة واقتراحات الناشر
تلعب الرقابة دوراً هاماً في عملية اختيار ما يتم انتاجه ونشره من أعمال أدبية مترجمة أيضاً. لذلك قد يكون عند الناشرين خطط مسبقة في اختيارهم للكتب المترجمة، تعتمد على نوعية المواضيع المطروحة، وشهرتها. وهنا يكون الناشر هو من يختار ومن يقترح على المترجمين ترجمة هذا العمل أو ذاك.
يقول سمير جريس: ” بالطبع تلعب الرقابة دوراً في النشر، مثلا مسرحية برشت “99 في المئة” عرضتها في البداية على دار نشر حكومية، فرُفضت، لتماسها مع الأوضاع السياسية الحالية”. مضيفاً أن: “هناك أعمال اقترحها عليّ الناشر، ووجدتها بعد المطالعة جديرة بالترجمة، مثل “زمن مالر” لدانييل كيلمان، أو “حياة” لدافيد فاجنر، أو “العاصمة” لروبرت ميناسه والتي أعتبرها من الروايات المهمة لفهم آليات العمل في الاتحاد الأوروبي، ونوفيلا “حلم” لأرتور شنيتسلر الصادرة مؤخراً”.
وأضاف: “هناك أعمال يقترحها الناشر علي لاستثمار نجاح كاتب ما، لكني أرفضها إذا لم تعجبني أو تخاطب شيئا في. ولأني غير متفرغ للترجمة الأدبية، فلدي رفاهية الاختيار، والرفض أيضا. بعد نشر “عازفة البيانو” حدثني أكثر من ناشر لترجمة عمل آخر ليلينك، لكني رفضت، لأن العمل المعروض لم يثر حماسي. تكرر الأمر بعد حصول هاندكه على جائزة نوبل، وكنت قد انتهيت لتوي من ترجمة “دون جوان”. لكني رفضت كل الأعمال المعروضة عليّ، ببساطة لأن أعماله الأخرى لم تخاطبني، ففضلت أن أكتفي بتجربة “دون جوان”.
ويتابع سمير كلامه: “من ناحية أخرى اقترحتُ على عديد من الناشرين أعمالا أراها مهمة، لكنها رُفضت لأسباب تسويقية، منها مثلا رواية ضخمة للكاتب السويسري ماكس فريش، تقارب الخمسمائة صفحة، قال لي الناشر بصراحة: لن أستطيع تسويقها ولن تجد عددا كافيا من القراء حتى تغطي تكاليفها”.
أما محمد عبد النبي فيرى أن “اعتبارات وشروط السوق والرقابة (إن وجدت بأشكال واضحة أو غير واضحة) ليست كذلك موضع انشغال المترجم بقدر ما ينشغل بها الناشر، هذا لا يمنع أن يقترح المترجم على الناشر أعمالاً يكون من الصعب تسويقها بسبب موضوعاتها الخاصة أو لأن أفكارها غير جذابة ولن توزع جيداً، أو حتى لأن العمل صخم ولن يباع إلا بثمن كبير وبالتالي يصعب تسويقه”. ويضيف: ” قد جربت هذا أكثر من مرة حيث أقترح عنواناً فلا أجد حماساً مِن قبل الناشر، إمَّا لبعض الأسباب السابقة، وإمَّا لأن لديه خطط واقتراحات وعناوين أخرى وقد اتفق عليها بالفعل، في حالات قليلة تلتقي إرادة المترجم بإرادة الناشر، وهنا ربما يكون النشر الحكومي نوعًا مِن الحل”.
ويرى عبد النبي أن “مِن حق المترجم أن يكون لديه وجهة نظر ورؤية خاصة، لكن لا يجب أن تكون هي المعيار في اختيار العناوين أو الكتب التي يقبل ترجمتها، وإن كانت ضد قناعاته بنسبة 100 % ، كأن يضطر مترجم يساري لترجمة كتاب يكرس للرأسمالية ويؤيد كل أشكال الاستغلال أو العنصرية، فإمَّا أن يرفض تماماً وإمَّا أن يعرض وجهة نظره والمشكلات التي يراها في الكتاب، في مقدمة أو في هوامش أو حتى في مقال طويل في الختام. ومع ذلك أرى أنه من الضروري أن نترجم كل شيء، مهما بدا ضد قناعات المترجم أو الناشر أو غيرهما، وإلَّا فلن نرى ولن نسمع إلا ما نحب ونرضى”.
أما جمال الجلاصي فيقول: “أحياناً تُعرض عليّ المشاركة في مشاريع ترجمية كبرى ليست ضمن خياراتي لكنّ أهمية المشروع والخدمة جليلة التي يقدّمها إلى القارئ العربي تحفّزني على المشاركة، مثلما حدث مع ترجمة “موسوعة الشعر الفرنسي في 100 كتاب الذي يقوم به مشروع كلمة. وهو مشروع ضخم وطموح يشرّف كل من فكّر به وخطّط له وشارك فيه، لأنّه سيصبح مرجعاً أساسياً لكل دارس للأدب الفرنسي”.