شردت نكبة الشعب الفلسطيني عام 1948 (800000) فلسطينية وفلسطيني من مدنهم وقراهم، ترك مصير منازلهم وبيوتهم وأراضيهم بيد العصابات الصهيونية التي سرقتها وأسكنت بها المستوطنين، أو تم تدميرها أو تركت مهجورة. واجه الفلسطينيون مصيرهم الجديد من خلال رحلة لجوء قاسية استقر رحالهم مؤقتاً بمخيمات اللاجئين الفلسطينيين، وتعرّف الأونروا مخيم اللاجئين “قطعة من الأرض تم وضعها تحت تصرف الوكالة من قبل الحكومة المضيفة بهدف إسكان اللاجئين الفلسطينيين وبناء المنشآت للاعتناء بحاجاتهم. أما المناطق التي لم يتم تخصيصها لتلك الغاية فلا تعتبر مخيمات. إن قطع الأراضي التي أنشأت المخيمات فوقها هي أراض حكومية أو أنها، في معظم الحالات، أراض استأجرتها الحكومة المضيفة من أصحابها الأصليين. وهذا يعني أن اللاجئين في المخيمات لا “يملكون” الأرض التي بني عليها مسكنهم، إلا أن لديهم حق “الانتفاع” بالأرض للغايات السكنية”.
تشير المعمارية ريم عوض في دراستها حول الطبيعة المؤقتة لمخيمات اللاجئين الفلسطينيين الى الملامح الاولى لتشكيل المخيم، حيث فقد اللاجئون ملكيتهم والألفة والحميمية لمنازلهم التي هجروا منها، فقاموا بإعادة بناء فراغهم عن طريق حياتهم الاجتماعية الاصلية ولغتهم المشتركة، وكان أساس التنظيم المبكر للمساحات داخل المخيم مبني على الأصل الجغرافي المشترك لمجموعات اللاجئين، حيث تم تسمية هذه المساحات الجديدة بأسماء القرى الاصلية التي قطنها هؤلاء، لتصبح مساحة تمثل ذكريات وثقافة وهوية تلك القرى المفقودة، لم يكن هذا البناء والتنظيم بديلاً لمنازلهم واراضيهم أو نسيان حقوقهم المفقودة، بل كانت تخلق مساحة للعمل والنضال للمطالبة بالحقوق التي حرموا منها، فأصبح المخيم الدليل المادي لحقوقهم ونضالهم. وبحسب عوض تشكل محددات عمارة المخيم الفلسطيني، الحدث التاريخي المتمثل بالنكبة، إضافةَ لتطور الحيز المادي للمخيم على مدار سبعين عاماً، نتيجة للممارسة والتجربة الانسانية لأهالي المخيم المخططين الفعليين لحيزهم المؤقت.
تشكل الخيمة مضموناً معمارياً مؤقتاً، ونتيجة لاستمرار اللجوء قام اللاجئون بتشييد إنشاء دائم مكون من الطوب الاسمنتي لمنع مياه الأمطار من التسرب للخيمة، شكلت الخيمة الفراغ الخاص وبدأ اللاجئون بتحديد فراغهم شبه الخاص ببناء سور منخفض يحيط بالخيمة من الطين والحجارة او الطوب الاسمنتي، وشكلت المراحيض فراغاً مشتركاً لعدد من الخيم.
في سنوات الخمسينات ونتيجة لمنع الدولة الصهيونية اللاجئين من العودة لبيوتهم ومنازلهم وأراضيهم ومدنهم وقراهم التي شردوا منها، بدأت وكالة الأونروا بتجهيز ملاجئ مسبقة الصنع أكثر ديمومة للاجئين، وتم تقسيم أرض المخيم الى قطع تتراوح مساحتها من (80- 100) متر مربع، وبلغت مساحة كل وحدة (12) متر مربع تم توزيع وحدة واحدة لكل عائلة بلغ عدد أفرادها من (4-6) أفراد ووحدتين للعائلة المكونة من (6-8) أفراد ، وتجهيز مرحاض مشترك لكل (15- 20) وحدة. تكونت هذه الوحدات مسبقة الصنع من الواح الاسبست وسقف من الزينكو.
ثم بدأ اللاجئون التوسع افقياً ضمن المساحة الممنوحة لكل وحدة ببناء غرف إضافية من الطوب الاسمنتي ومسقوفة بالزينكو لسد حاجتهم السكنية المتزايدة، ونتيجة لمنع التوسع الأفقي للمخيم، شرع اللاجئون بالبناء العمودي، وذلك عن طريق حفر اساسات منفردة واعمدة حاملة أسقف خرسانية لحمل الطوابق الاضافية، وتشير المعمارية ريم عوض الى ان التنظيم المكاني للتخطيط الجديد للمنازل عكس التخطيط السابق للمنازل المسروقة والمفقودة في القرى والمدن، حيث رتبت المنازل حول الفناء أفقياً (نظام الحوش)، تم تغيير هذا النموذج في المخيم ليتم ترتيب المنازل عمودياً نظراً لضيق المساحة، وبذلك خطط اللاجئون بناء مساحاتهم بشكل يماهي حياتهم السابقة، بعض اللاجئين الفلسطينيين ممن تحسنت اوضاعهم الاقتصادية قاموا بشراء اراضي بجوار المخيم ليبقوا قريبين من مجتمعهم، مما ادى الى توسع افقي في بعض المخيمات، هذا مؤشر آخر لمؤقتية المخيم ولوعي اللاجئ لهذه المؤقتية فهو يوسع حيز المخيم الذي بناه ليناضل من اجل العودة الى دياره التي شرد منها.
تعتمد المعمارية عوض في دراستها على نظرية حنا اردنت (المشترك والعام)، تشير حنا إلى انه كي يتم التعرف على شخص أو شيء ما يجب الاعتراف به في الحقل العام، وتلاحظ حنا أن العالم المشترك ليس مكاناً مطلقاً بل هو نتيجة لأفعال تتطلب مساحة للعمل في الحقل العام، يعتمد بقاء هذا العالم او هذا الواقع على الادلة والشواهد والفضاء الذي يدل على وجوده.
ظهر الفلسطينيون عام 1948 في الحقل العام كلاجئين، بعد ان طردوا من عالمهم المشترك الذي ولدوا فيه كمواطنين، وتم تغير هذا العالم بالكامل بعد قيام الدولة الصهيونية، فتم انكار وجودهم وحقهم بالأرض، عن طريق طردهم منها وتدمير قراهم، حيث فقدوا منازلهم ونسيجهم الاجتماعي ومكانهم المتميز في العالم، بالإضافة لاستبعاد القرى الفلسطينية من التاريخ، وإزالتها من الخارطة، ومع استبعاد اللاجئين من العالم المشترك الذي ولدوا فيه، ظهرت مساحة جديدة في الحقل العام وهي مخيمات اللاجئين، أصبح هذا الفضاء الواقع الجديد للاجئين من الجيل الأول، والواقع الذي ولد فيه الجيل الثاني والثالث من اللاجئين، فأصبح المخيم المكان الوحيد الذي يمكن للاجئين الظهور من خلاله، وارتبط هذا الظهور بالاعتراف الدولي بواسطة الأونروا بتلك المساحة كمخيم رسمي للاجئين الفلسطينيين، وأصبحت المخيمات دليلا لخسارة اللاجئين لأراضيهم وديارهم، وتتجسد قيمته في حاجة اللاجئين إلى النضال من أجل الاعتراف بهم ومشاهدتهم في المجال العام.
منذ الخيمة التي جرفتها مياه الامطار واقتلعتها الرياح، مروراً بغرفة الاسبست الضيقة التي لا تقي حر الصيف ولا برد الشتاء، وغرف الطوب وسقف الزينكو الذي يطير مع هبوب الريح، انتهاءً بعمران اسمنتي كثيف تنعدم فيه الشروط الصحية وقدرة منخفضة على تحمل الكوارث الطبيعية وكثافة سكانية عالية، عكست عمارة المخيم جلد اللاجئين في سبيل التكيف مع حياة جديدة قاسية ولكنها ليست أقل قسوة من اقتلاعهم من ديارهم وأراضيهم، لهذا شكل اللاجئون المخيم كأساس مادي لنضالهم من اجل العودة ووظفوا هذه المساحة الصغيرة والازقة الضيقة كحيز مقاوم، فالمكان هنا دائم، والعمارة رغم أنها مؤقتة لسكانها الحاليين ولكنها دائمة لكونها تشكل تراث ثقافي مادي للشعب الفلسطيني حتى بعد العودة إلى “البلاد”.
المصادر