تعريف (1):
يوصف الفضاء العام في مجال التخطيط الحضري بأنه “فضاء مفتوح”، ويحال إلى هذا الوصف كل من الشوارع والحدائق ومناطق الترفيه والساحات وغيرها من الفضاءات الخارجية التي يديرها القطاع العام، بالاضافة إلى تزايد عدد الفضاءات شبه العامة التي تديرها الشراكات بين القطاع الخاص والعام، أو التي يتم إدارتها عن طريق القطاع الخاص فقط، ولذلك على ضوء تزايد سياسات الخصخصة منذ النصف الثاني من القرن العشرين، يتوجب فهم الفضاء العام باعتباره “فضاء مفتوح للعموم” وفقاً لمعايير علم الاجتماع يوسع مفهوم الفضاء العام إلى “أي حيز مكاني يمكن للأفراد الولوج إليه”، إضافة للفضاءات الكلاسيكية (الشوارع، الحدائق العامة، مرافق النقل، فضاءات الاستهلاك والتسوق).
بالاضافة لما ذكر أعلاه، وعلى ضوء المتغيرات السياسية والاجتماعية في المدينة يمكن اعتبار المقاهي كمكان مفتوح للقاء والنقاش والتواصل الاجتماعي، والساحات كمكان مفتوح للتجمع السياسي والتظاهر، ضمن تعريف مستحدث للفضاء العام.
محاولات السيطرة:
تساهم الفضاءات العامة في تشجيع الحياة الاجتماعية والثقافية، بالاضافة لتحقيقها مفاهيم “العدالة الاجتماعية والعمرانية والإنسانية، من خلال إتاحة الفرصة كي يجتمعوا في المكان نفسه على قدر المساواة”، واقتصادياً، يشكل وجود الفضاء العام في الحيز المديني، استقطاعاً من الأراضي الصالحة للبناء والمرتفعة السعر، وهذا يهدد وجوده باستمرار، نظراً لمحاولات استغلاله لتحقيق الربح، سواء من قبل الدولة نفسها، او من خلال تضمينه أو بيعه للقطاع الخاص (2).
يقدم المؤرخ خالد فهمي نقداً لحالة الميادين العامة في مصر في مقالته (الميدان لمين؟)، فمن خلالها يستنتج انه من خلال تصميم الميادين التي تخلو من الأشجار والمقاعد، تم منع الناس من التقابل والتفاعل والتحدث، وبالمعنى القانوني (التجمهر)، بما يشكل خطراً(3).
لقد قل ارتباط الناس بفضاءات مثل الميادين والشوارع العامة، بسبب تحولها إلى “عقد مرورية” وبالتالي التعامل معها من قبل المخططين على أنها مراكز مرورية أكثر من كونها “فضاءات إنسانية”(4).
إن محاولات السلطات السيطرة على الفضاء العام تشمل فرض سيطرتها على المنتزهات العامة والحدائق ومرافق النقل العمومي، من خلال فرض النظام داخلها عن طريق شرطة البلديات أو شركات الأمن الخاصة ومراقبتها بالكاميرات، منعاً لأي حدث أمني خطير ولفرض الرقابة. خاصة مع انتشار سياسات هوس تركيب كاميرات المراقبة في الشوارع والميادين و المنتزهات والمراكز التجارية تحت بند التدابير الأمنية الاحترازية، ولكشف الجرائم والسرقات.
ومن أهم مظاهر محاولات سيطرة الدولة ورأس المال على الفضاء العام، سياسات تضمين وخصخصة الفضاءات الترفيهية العامة بما يحقق أرباح للقطاع الخاص(5). والجدير بالملاحظة أن بعض البلديات تفرض رسوماً على الدخول إلى هذه الفضاءات، ورسوماً على استخدام المراحيض العامة التابعة لها أو المنتشرة في المدينة.
إغلاق وعسكرة المدن في مواجهة كورونا:
تم إعلان فيروس كوفيد 19 المعروف باسم كورونا كجائحة عالمية في الحادي عشر من آذار من العام الحالي، ومع ازدياد حالات الإصابة والوفاة، تم إغلاق عدد كبير من المدن، وفرض منع الحركة وحظر التجول(6).
تم إعلان حالة الطوارئ في بعض الدول، وإغلاق جميع المرافق الخاصة والعامة والأسواق التجارية، عدا محال البقالة، والمخابز والصيدليات، وبعض فروع البنوك، وتسيير الدوريات بشكل دائم في الشوارع. بالإضافة لتقسيم بعض المدن إلى مناطق جغرافية، مغلقة بواسطة حواجز اسمنتية أو حديدية بهدف تمكين القوى الامنية من السيطرة على المناطق بكفاءة(7) ، لسان حال المسؤولين الحكوميين والأمنين: اتبع تعليمات الحكومة ورجال الأمن لتبقى على قيد الحياة.
احتمالات أثناء/ما بعد الجائحة:
في الوقت الذي انهت فيه السلطات الصينية إغلاق مدينة ووهان، وسمحت بحرية التنقل داخلها، والخروج منها(8)، لا يزال باكراً توقع انتهاء تأثير الفيروس على الكوكب، يطرح الخبراء ثلاث طرق رئيسية لمواجهة الفيروس: أولها تطوير لقاح وعلاج لمواجهة الفيروس خلال عام ونصف، أو تطبيق سياسة (مناعة القطيع) وهي أن يترك الفيروس ليصيب الناس، على أن تبدأ الأجساد بتكوين مناعة ذاتية، وآخرها وأخطرها ما يرجحه البروفيسور وولهاوس، إذ يقول “الخيار الثالث هو التغيرات الدائمة في سلوكنا التي تسمح لنا بالحفاظ على معدلات انتقال منخفضة للعدوى”(9).
يكمن التخوّف من استغلال السلطات والأجهزة الأمنية في مختلف دول العالم للإجراءات الاحترازية المتخذة لمنع تفشي الجائحة، باستمرار حالة الطوارئ أو سن قوانين جديدة أو إجراءات تفرض بعض القيود على الحركة والتنقل، والإيقاف العشوائي للمارة وإقامة الحواجز وتسيير الدوريات لمنع أي احتجاجات مستقبلية متوقعة في ظل الأزمة الاقتصادية التي تلوح بالأفق. وقد يصل الأمر إلى فرض قيود جديدة دائمة بحجة التخفيف التدريجي للإجراءات الاحترازية إن استمر تأثير الجائحة، وهنا مكمن الخطورة بأن يتم التعامل مع هذا التأثير على أنه تغيير في السلوك الفردي والجماعي متبوع بانخفاض منسوب الحريات ومن ضمنها حرية الحركة والتنقل و حرية التجمع والتجمهر، وبالتالي استغلال انتشار الفيروس لخدمة السلطات بإحكام السيطرة الأمنية على الفضاء العام وزيادة انتشارها، حفاظاً على مصالحها ووجودها وقمع أي محاولة لتهديد استقرارها.
وما قد يتبع ذلك من تخفيض الموازنات الخاصة بالفضاءات العامة من حدائق عامة، وموافق نقل، وساحات ومناطق ترفيه، وبالتالي إتاحة الفرصة لخصخصتها واحتكارها من قبل رأس المال تحت حجة عدم القدرة على إدارتها لتشكيلها عبئاً على الموازنات العامة، خاصة مع اشتراطات النظافة المتعلقة بالتعقيم الدائم للفضاءات لمنع انتشار الفيروس.
بالإضافة لما سبق، قد يتم اتخاذ قرارات تتعلق بالأسواق الشعبية (سلع تموينية، خضار، فاكهة، ملابس.. الخ) المنتشرة في مراكز المدن، بحجة منع الاكتظاظ وافتقارها لشروط النظافة العامة، وما قد يتبع ذلك من قرارات لتنظيم هذه الأسواق والتي تتضمن ازالة البسطات والحد من انتشارها، أو نقلها لأماكن جديدة بعيدة عن مركز المدينة الحيوي الذي يتطلع اليه الرأسمال العقاري كمشاريع استثمارية جديدة وفرصة لزيادة الثروات، ومما لا شك فيه أن للشائعات والأخبار الكاذبة والقضايا الملفقة دور كبير في عملية السيطرة هذه.
في خبر منشور على موقع مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان(10)، حذر خبراء من الأمم المتحدة من استغلال الدول للتدابير الأمنية المتخذة للتصدي لتفشي فيروس كورونا المستجد، وبين الخبراء أن إعلان حالة الطوارئ يجب ان يتبع توجيهات واضحة من القانون الدولي. وقالوا: عند استخدام صلاحيات استثنائية يجب الإعلان عنها صراحة وإبلاغ هيئات المعاهدات ذات الصلة حين تؤدّي إلى تقويض الحقوق الأساسية بما في ذلك الحركة والحياة الأسرية والتجمع، فتمسي محدودة إلى أقصى الدرجات”.
وفي البلدان التي ينحسر فيها الفيروس، على السلطات أن تسعى إلى إعادة الحياة إلى طبيعتها وأن تتجنّب استخدام صلاحيات الطوارئ المفرطة عند إعادة تنظيم الحياة اليومية.
نحو زيادة الوعي بالحق في الفضاء العام
يشكل الفضاء العام أساس المدينة الديمقراطية المتسمة بالمساواة، وهو مكان يتعرف الناس فيه على بعضهم البعض، عبر انشطة الاستهلاك أو التواصل الاجتماعي أو الاحتجاج والتعبير عن الآراء، ولكي نعتبر المكان مكاناً عاماً، عليه أن يكون متاحاً للجميع بغض النظر عن الاختلافات والفروقات الجنسية أوالاجتماعية أوالطبقية(11).
في عام 1991 ذكرت كولومبيا الحق في الفضاء العام بشكل صريح في دستورها “من واجب الدولة حماية سلامة الفضاء العام وتخصيصه للاستخدام المشترك، ولهذا أولوية على مصلحة الفرد”، في الوقت الذي كانت تعبر فيه العاصمة بوغوتا من أخطر مدن العالم. بالإضافة لدستور الاكوادور الذي حدد في عام 2008 العلاقة بين الفضاء العام والتحسن في نوعية الحياة “للأفراد الحق في الوصول إلى الفضاء العام والمشاركة فيه كفضاء للمناقشات والتبادل الثقافي واللحمة الاجتماعية وتعزيز المساواة والتنوع. يجب على الحق في التواجد في الفضاء العام، كواحد من المظاهر الثقافية للفرد، أن يُمارس دون أي قيد آخر بخلاف تلك المنصوص عليها في القانون، وفقاً لمبادئ الدستور”(12).
إن مهمة حماية الفضاء العام باعتباره ملكاً للجميع هي جزء لا يتجزأ من أي نضال سياسي واجتماعي وطبقي، وتزداد أهمية هذا النضال مع التهديد المستمر للإنجازات السابقة في هذا المجال في عصر الخصخصة والبيع المجاني لأملاك الشعوب.
المصادر: