في الثامن والعشرين من شهر يناير 2020، قامت إدارة الرئيس ترامب بالإعلان عن ما سمي بـ “صفقة القرن”، وهي عبارة عن رؤية قدمها ترامب ونتنياهو والتي تمحورت في جزء كبير منها حول الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.
واجهت هذه الصفقة سيلًا من الانتقادات اللاذعة والرفض حول العالم، دولا ومنظمات وأفراد وفاعلين، لما في هذه الصفقة من انتهاكات للقانون الدولي ولحق الشعوب في تقرير المصير. الناظر بعين ثاقبة إلى هذه الاتفاقية سيجد بأنها تفتقر للحد الأدنى من عمليات السلام، إذ أنها همشت الاتفاقيات والقوانين والمواثيق الدولية التي صدرت وأكدت على الوضع القانون للأراضي الفلسطينية المحتلة ولا سيما عدم قانونية المستوطنات. كشفت هذه الرؤية، رؤية ترامب-نتنياهو، عن النبرة الاستعمارية والصيغة الوصائية في التعامل مع القضية الفلسطينية(١). لكن، هل هذا جديد؟ فيما يلي إجابة عن سؤال: هل ما قدمته هذه الصفقة أمرًا جديدًا من حيث لهجتها الاستعمارية المنمقة بخطاب السلام؟ وهل يمكن فصل هذا الحديث والخطاب والطرح الذي تضمنته الصفقة عن سياق القانون الدولي؟
يرى جانب كبير من الفقه بأن الاستعمار لم ينتهِ، وبأنه عاد وبقوة في حلة القانون الدولي الذي من خلاله تفرض الدول القوية سلطانها على الدول الضعيفة. ويجادل الكاتب البريطاني جورج مونبيوت، بان أحد الأدلة على عودة الاستعمار الحرب التي شنها الرئيس الأميركي السابق جورج بوش ورئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير في بلاد ما بين النهرين بحثا عن السلطة والنفط ومناطق النفوذ فضلا عن استمرار الحرب الاستعمارية في أفغانستان، وحصر مهام حفظ الأمن الدولي في أيدي القوى الكبرى، والعدالة من طرف واحد بموجب القانون الدولي (٢).
بكلمات نورا عريقات فإن مسار تطور القانون الدولي يُظهر بأن هذا القانون هو عبارة عن أداة بيد الدول القوية أو الدول الكبرى، إذ انه كما هو قائم اليوم بدأ في أوروبا بين الدول التي كانت قوى استعمارية (٣). ويبدو بأن ما يجادل به هذا الجانب قريب جدا من الحقيقة ومن واقع القانون الدولي الذي هو في الأصل ينظم قوانين الاحتلال والحرب وغيرها من الأدوات الاستعمارية. ووفقًا لنورا عريقات، بينما واجهت إسبانيا مجتمعات السكان الأصليين في نصف الكرة الغربي، قام اللاهوتي ورجل القانون الإسباني، فرانسيس دي فيتوريا، بصياغة مجموعة من القوانين جعلت حقوق الشعوب الأصلية مشروطة بتشابه مجتمعها مع المجتمع الأوروبي.
وبعد وضع المعايير الأوروبية الخاصة وإبرازها على أنها عالمية، استخدمت إسبانيا بعد ذلك هذه المعايير لتبرير نهب الشعوب الأصلية وأراضيها وغزوها. ومن هذا المنطلق تم تأسيس القانون الدولي من خلال الغزو للدول أو المجتمعات الأخرى بهدف إسباغ الشرعية عليه. تستمر هذه الأصول القاسية والمريبة في وصف القانون الدولي، حيث لم يعاد كتابة هذا القانون من قبل المجتمع الدولي في الوقت الحاضر، وبدلاً من ذلك، قامت القوى الاستعمارية السابقة والدول المستقلة حديثًا وكذلك الحركات والشعوب بتطوير القانون الدولي بشكل تدريجي استنادًا إلى التعبير الأول.
وبالتالي فإن القانون الدولي بما ينظمه من ظواهر كالاحتلال والغزو يصبح بهذه الطريقة وهذا المفهوم أداة بيد القوى الاستعمارية ومنها الولايات المتحدة وإسرائيل. فعلى سبيل المثال منذ تنفيذ خطة الانسحاب أحادي الجانب، جادلت إسرائيل بأن قطاع غزة لا يخضع للاحتلال وبالتالي فان التزاماتها المترتبة وفقا للقانون الدولي غير موجودة.
وفي محطات عدة، سعت إسرائيل إلى الاستفادة من القانون الدولي من خلال الادعاء بقصوره وعدم قدرته على تنظيم وضع الأراضي الفلسطينية المحتلة. هذا العمل القانوني الذي يروجه الاحتلال الإسرائيلي للعالم يمكن عده شرًا خالصا لما ينطوي عليه من تلاعب وظلم للفلسطينيين، ولا يمكن التقليل من شأنه، فالولايات المتحدة في هذه اللحظة توافقت مع إسرائيل في اعتبار المستوطنات شرعية بعدما كانت في لحظة تاريخية معينة خلاف ذلك تماما (٤).
ونذكر في هذا الصدد مثالًا آخرًا وهو قيام رئيسة وزراء ألمانيا بالذهاب إلى المحكمة الجنائية الدولية لإقناع “المدعي العام” بان اختصاص المحكمة لا يشمل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وقد اتخذت ألمانيا هذه الخطوة المتمثلة في تقويض القانون الدولي من خلال الطعن في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، مدعية أن المحكمة الجنائية الدولية تفتقر إلى سلطة التحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية ضد الفلسطينيين (٥). هذا يدلل على سعي مثل هذه الدول على إضفاء الشرعية على الممارسات الإسرائيلية التي تقوم بها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهي إن كانت لا تعني بان النتائج قد تكون شرعية، فهي تدلل على أن “الشرعية” هي ذات تأثير سياسي ويمكن أن تؤثر على القانون بدون أي شك.
تُفسر هذه الممارسات بأن القانون الدولي هو أداة بيد الدول العظمي، ولكن، كما للقانون الدولي مساوئه فإن له محاسنه المتمثلة في إعطاء مجموعة من الناس حقوقهم في الكفاح المسلح وحقهم في تقرير المصير. على خلاف العديد من الدراسات، تدّعي عريقات أن القانون الدولي له مساوئه ومحاسنه، وكما أن القانون يفرض الهيمنة في قضايا معينة فإنه يمكن الاستفادة منه حينما تقوم حركة وطنية باستثماره لصالحها، في إطار حركة التحرر الوطنية والحق في تقرير المصير المشروع طبقا للقانون الدولي.
تجادل عريقات بأن هناك سببان على الأقل للشك في أن القانون الدولي لديه القدرة على التغلب على الحقائق الجيوسياسية ودفع الكفاح الفلسطيني من أجل الحرية. أحدهما هو الأصل المخزي للقانون الدولي باعتباره مشتقًا من النظام الاستعماري وبالتالي ككيان قانوني يعيد عدم التماثل في الحقوق والواجبات بين الجهات الفاعلة الدولية بدلاً من عدم الاستقرار. والآخر هو حقيقة أن النظام الدولي يفتقر إلى السيادة العالمية ، وبالتالي تسييس الإنفاذ من خلال تركه لتقدير الدول لتقرير متى وكيف ، ومن الذي يعاقب.
وبالعودة إلى صفقة القرن، فإنها بنفس المنطق تعيد شرعنة الاستعمار وشرعنة ما ورد هذه الصفقة من عدم التماثل الواضح في الحقوق، ولكن بحلة جديدة، لا سيما ما يتضمنه هذا الاستعمار من جرائم ترتكب بحق السكان الأصليين للأرض كما يحصل الآن في أرض فلسطين.
يستمر الجدل حول مدى استفادة الفلسطينيين من القانون الدولي ومدى فاعلية تطبيقه التي ثبت بأنها مرهونة بالإرادة السياسية للدول مثل الولايات المتحدة وغيرها التي سعت منذ عقود لتحقيق مصالحها فقط. ولكن، ما على الفلسطينيين فعله هو التحرر من قبضة وانحياز دول مثل الولايات المتحدة، وبدلا من ذلك سلوك طريق التحرر الوطني وفي نفس الوقت المطالبة بالحقوق السياسية للشعب الفلسطيني، وبدون ذلك فإن التعويل على القانون وحده لن يجدي نفعا ولن يصل إلى أي طريق سوى الطريق المسدود المؤدي عدم الاعتراف للفلسطينيين بحقوقهم.
وأخيرا، لا يمكن النظر إلى إعلان صفقة القرن بدون النظر إلى ما سبقها من إجراءات اتخذتها الولايات المتحدة كإعلان (بومبيو) الذي شرعن المستوطنات الإسرائيلية على أرض فلسطين ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس. هذه الممارسات التي تحاول القوى الاستعمارية إخراجها للعالم على أنها خطوات باتجاه تحقيق سلام في الشرق الأوسط هي في الأساس نهب للشعوب وسرقة لمواردها وخيراتها وأرضها على حساب السكان الأصليين، كما يكمن في قلب هذه الممارسات جرائم لا حصر لها ولا تعكس سوى عودة للاستعمار منمقة بخطابات السلام والازدهار الاقتصادي.