التاريخ والترجمة
لنتخيل معًا لو أن ابن سينا استطاعَ أن يترجمَ الكوميديا والتراجيديا في فن الشعر لأرسطو وأيضًا أن يعرّف مفهوم المسرح الاغريقي، وأن ينقلَ تلك المعرفة، ربّما لم نكنْ لنمتلك أسئلة عديدة عن وجُود المسرح في التّراث الأدبي العربي.
وكما أن للترجمة دور في تغيير التاريخ، وتحسِينه أحيانًا، لها دور في تزويره، لنتناول على سبيل المثال ما تطرحُه المُفكرة المغربية فاطمة المرنيسي في كتابها الشهير “شهرزاد ترحل إلى الغرب”. تتناول المرنيسي في معرض الكِتاب الذكوريّة الشرقية والغربية من خلال العمل الهائل “ألف ليلة وليلة”، وتذكر أنه في التّرجمات الأولى للكتاب إلى اللغات الهندو-أوروبية في القرن السادس عشر قتل المُترجمون شهرزاد وهو ما لا يتفق مع النّص الأصلي. في المُجتمعات الغربية، آنذاك، لم يكن مسموحًا للمرأة أن تكون ذكيّة وجميلة في نفس الوقت، وكان على تلك المفاهيم أن تكون مُتناقضة، خصلة مُقابل نقيضتها. وهنا مثيل على التزوير كذلك، وربما بتحوير النص عند ترجمته غيروا التاريخ، وأخّروا تحرّر المرأة التي قبعتْ تحت مظلة الرجل، حتى جاء هنريك ابسن بنقاش تلك المسألة في عمله المسرحي بيت الدمية في القرن التاسع عشر.
وكما الترجمة تستطيعُ أن تغيّر في التاريخ، كذلك التاريخ يستطيعُ أن يغيّر في مسار الترجمة، والكولونيالية وما بعدها أيضًا كان لها أثرها، وقد أُزيحت الكثير من هذه المسائل عما يعرف بـ “دراسات الترجمة”. نستطيع أيضًا أن نلاحظ انقطاعًا ملموسًا بين من يبحثون في الترجمة كفلسفة وكتاريخ وبين من يبحثون فيها كلغة وأدب ونقل.
احتراقات
’’ كانت نكبة، على الرغم من أنهم يلقوننا العكس في المدارس، حضارةٌ رائعةٌ، وشعرٌ، وفلكٌ، وعمران، ورقة شعور فريدةٌ في العالم… ضاعت كلّها لتقوم محلّها مدينة فقيرة هي “جنّة البُخلاء”، والتي يلعب بمقدراتها الآن أرذل البرجوازيين في اسبانيا‘‘.
فيديريكو غاريثيا لوركا، من أولئك القلائل الذي وصلوا إلى ألمٍ، لا يشعر به سوى من كان في أرواحهم امتدادًا معرفيًا للماضي، فماذا لو كان ذلك الماضي قد تمّ محوه بلمحة بصر، وبقي التاريخ والمعرفة حبيسا لحظة ضاع فيها كل شيء. لوركا الذي يعدّ امتدادًا معرفيًا وشعوريًا لما أنتجته الأندلس من شعر، لم يجدْ إلا تلك الكلمات لوصفِ “يوم القبض على المدينة” (ليلة سقوط غرناطة) في أيدي الملوك الكاثوليك.
السقوط المُفجع لم يكنْ في رمزية سقوط المدينة وحسب، إذ إنّ الإمبراطورية حديثة الولادة، الناجمة عن تزاوج العرشين الملكيين (مملكة أراغون ومملكة قشتالة) لم تستطع أن تحتَمل التعدّدية والاختلاف الخلّاق في عروس الأندلس غرناطة، فنقضت الاتفاق الموقع مع العرب المسلمين. بعد ثمان سنوات فقط أُخِذَ القرار الملكي المَدعوم من الكنيسة القتشالية بحرق الكتب الإسلامية بعد سقوط المدينة.
إلا أنّ الملوك الكاثوليك الذين جاؤوا من خارج غرناطة، ممن لم يعرفوا شيئًا عن العربية أو العبريّة، جمعوا كلّ ما كُتب بلغات مختلفة في ساحة بيب-رامبلة (اسمها الحالي) في غرناطة، كتب فلسفة وشعر، علم فلك ورياضيات، وفيزياء وكيمياء، وكتب في علم النفس (قبل أن يتأسس مصطلح علم النفس وكان يطلق عليها في ذلك الحين أمراض الروح).
لوركا، من القلائل الذين استطاعوا خلال تنزّهاتهم، في حي البيازين، مرورًا بكرمة مانويل دي فايا، أن يشتمّ تلك الاحتراقات، ومن قصر الحمراء، خلال تأمُّلاته للمدينة المغدورة رأى اللهب المُنبعث الذي كاد أن يحرق السماء.
ممن يُشبهون صاحب ديوان التماريت (١)، خيسوس آرياس، الموسيقي والكاتب والصحفي في الشؤون الثقافية، الذي لطالما شبّه تلك الواقعة بـ “المجزرة”، وكتب عنها واصفاً المدينة المُغتالة بأنّ ذاكرتها فُقِدَتْ فجأة وأن المدينة لا تعلَمُ عن نفسها إلا القليل القليل. ولا يمكن أن ننسى أن الغرناطيين الذين يشعرون بحجم المأساة، يحفظون ذكرى يوم “حرق الكتب” بفعالية سنويّة، في مكان وقوعها.
الإمبراطوريّة ولغتها / التحويل والهِداية
في ذات العام الذي سقطَت فيه غرناطة، موّل الملوك الكاثوليك (فرنادو وايزابيلا) حملة كريستوبال (كولومبس) للوصول إلى الهند، إلا أنّه وصل إلى القارّة الأمريكية. لم يكنْ هدف الملوك الكاثوليك (المملكة الإسبانية) هو الاستعمار الاقتصادي وحسب، إنما تعدى ذلك ليصل إلى السيطرة اللغوية والتبشير الديني. وللتنويه السريع، ما يسمى “اللغة الإسبانية” هي لغة أهل “لا كاستيّا” (قشتالة)، المملكة الاسبانية التي قامت على أنقاض الثقافة الأندلسية وما أنتجَتْه في تفرعات العلم والمعرفة والأدب، كذلك قامت على مسألة عدم الاختلاف. هذا ما كان واضحًا منذ بدايته، تمّ طرد العرب المسلمين واليهود، وأُسِّسَت محاكم التفتيش لتكون الجهاز الذي يُتابع مسألة القضاء على الاختلاف الديني_الثقافي. إما أن تكون مسيحيًا كاثوليكيًا أو أن تُهجر أو أن تموت.
استطاعتْ المملكة أن تحوّل الجميع إلى مسيحيين كاثوليك حتّى لو كان ذلك ظاهريًا كما حدثَ مع المسلمين واليهود. إلا أن الثقافات الأصلية في شبه الجزيرة الإيبيرية (الكتلان، الباسك، الجاليقيون) فهم أصلًا مسيحيون كاثوليك لكنّهم يتكلّمون لغات أخرى ولم تستطعْ المملكة الجديدة أن تقتل اللغات الأصلية والمُتجذّرة في شبه جزيرة الأرانب (٢).
بقيت مسألة الاختلاف هاجسًا كبيرًا للمملكة، لذلك كانت السيطرة اللغوية على أمريكا اللاتينية أكثر قسوة وعنفًا، و فرصةً لتعويض عقدة النقص عما لم تستطع المملكة أن تحققه بامتياز على أرض الجزيرة الايبرية. الحلم القشتالي متمثلًا في أمريكا اللاتينية، عبر تحويل مجتمع كامل إلى كاثوليك، وفرض القشتالية لتصبح اللغة الحيّة الوحيدة. لكن، ما علاقة ذلك بالترجمة؟ من درَس اللاتينية والاغريقية وبحث في جذور اللغات الهندوـ أوروبية بسهولة يستطيع أن يصل إلى أن الفعل “ترجم” (ترادوثير، TRADUCIR) في القرن السادس عشر كان “تحويل” (كونبيرتير، CONVERTIR)، بعد مراحل اعتمد الفعل كما نعرفه اليوم، ثم مُهِّدَ له ليحمل معنى الاعتناق (أي أن يعتنق الشخص دينًا آخرًا، CONVERTIRSE)، التحوّل من شيء الى آخر، أو بمعناه الأصلي (الهِداية). هكذا كان هدف الامبرطورية، الترجمة والهداية.
نستثني من فترة الكولونيالية الإسبانية في أمريكا اللاتينية فترتين تمّ التعامل فيهما مع موضوع اللغة على أسس تختلف عن المرحلة بكليتها: عهد الملك كارلوس الخامس، والذي أوصى بأن يتعلم المشرفون لغة الهُنود الحُمر للقيام بأدائهم على أحسن وجه، والثانية عهد الملك فيليب الثاني، والذي عارض الإبادة اللغوية. المبشرون استخدموا اللغة كأداة أساسية للتغلغل في السياسي والاقتصادي والديني، والأهم من ذلك، فهم من يحملون “الدين الحقيقي” لذلك كان لهم اهتمام واضح بإعادة خلق، وتحوير الأساطير الأميريكية، وكتابة الدين، أي ترجمته إلى اللغة الأخرى.
لم يكن لإسبانيا نيّة في عدم فرض اللغة القشتالية في جميع مُستعمراتها، ففي وثيقة الملك كارلوس الثالث عام 1770 أمر بفرض اللغة القتشالية كلغة التخاطب الوحيدة في أمريكا وجزر الفيليبين. فتُرجم الدين، ومنحت الهداية.
وقوع المُترجم العربي في فخ الإمبراطورية
حققت إسبانيا مُرادها واستطاعت تعويض نقصها الداخلي، فمن حيث المظهر كانت قد انتهت الكولونيالية الإسبانية، إلا أنها احتفظت بـ “الكولونيالية الداخلية”. المركز الثقافي الإسباني “ثربانتس” مثالًا على ذلك، المُنتشر في عواصم العالم، يبدو أنه مُهتمًا بنشر الثقافة الإسبانية، ونجد إلى جانبه بعضُ المُترجمين، ولكن، ما لا نعرفه عن هذا المُقدّم أنه شركة خاصة مُتعاقدة مع الدولة الإسبانية، تلك الشركة التي تُصدّر أكبر كذبة إسبانية، أنها ثقافة وحيدة وجامعة في إسبانيا. بعض المترجمون العرب أيضًا وقعوا في الفخ، فترجموا ما كتب من الأدب الاسباني ولآداب الهسبانية (الآداب التي كُتبت باللغة الإسبانية)، ورغم إقاماتهم الدائمة أو المُتقطعة في إسبانيا، لم يراجعوا اللغات الأخرى، فكان ما نقلوه من علم ناقصًا ومتحيزًا.
بالطبع لا يستطيع المُترجم أن يتحمل كل تلك المسؤولية التاريخية، لكنه مساعد قوي في تلك العملية، لنأخذ على سبيل المثال الشاعر الغرناطي لوركا؛ خلال رحلات لوركا إلى غاليثا، وقع في غرام طبيعتها الخلابة، فكتب ديوانًا لا نعرفه بالعربية على الرغم أن معظم أعماله تُرجمت اسمه “ستّ قصائد غاليثية”.
الترجمة إلى العربية كانت قاصرة للوصول إلى أعمال كالروائيات الكتلانيات مونسيرات روج، وميرسيه رودوريدا والشاعرة ماريّا ميرسيه مرسال والشاعر ميغيل مارتي إي بول والباسكي والبرفيسور والباحث والمترجم الباسكي خوسيبا ساريونانديا. حتّى أننا ظلمناهم في لفظ أسمائهم، لو أخذنا اسم الفنان التشكيلي “خوان ميرو”، وبدّلنا حرف “الخاء” بحرف “الجيم” ستصبح الكلمة جوان ميرو، لننقب في محرك البحث غوغل عن “جوان ميرو” ستقول لنا الويكيبيديا أننا أخطأنا وستقول “هل تقصد خوان ميرو؟”، ولكن ميرو، هو فنان كتالاني، وكأمانة لغوية علينا أن ننقل الإسم كما هو في لغته، الفونيما “جيم” موجودة في الكتلانية، لكنها غير موجود في الإسبانية، ثمّ تقول لك الويكيبيديا بالعربية أن الفنان “إسباني”.
كما أن الصحف العربية مع ما حدث مؤخرًا في كتالونيا شاركت في التشويش على ترجمة كلمات في غاية البساطة. في قضية كتالونيا الإسبان يستخدمون كلمة “انفصال” أما الكتلان فيستخدمون مُصطلح تقرير المصير بمعنى “الاستقلال” وهنا وقعت المنابر العربية في فخ الآيدولوجيا. المنابر شديدة القومية أو المدعومة أصلًا من أنظمة كأنظمة المغرب استخدمت كلمة “انفصال” وهذا لأنها تشترك مع النظام الإسباني الحديث بمسألة أنّ “لا الأمازيغ ولا الكتلان عليهم أن يأخذوا حقهم في تقرير المصير”، أي أنّه تقارب في المصالح، حتّى أغلب المثقفين الذين يقدمون نفسهم كنخبة تقيم في كتالونيا دخلوا لعبة السياسية والهجرة وتركوا ساحة الأدب والترجمة. في منابر أخرى عربية، استخدمت في نفس المقالة كلمتين “استقلال” و”انفصال”، وهذا تخبُّط كذلك، فإن كان المصدر كتالانيًا مناصرًا للاستقلال، قلنا في ترجماتنا “استقلالًا”، ولو كانت مصادرنا إسبانية ومناهضة للانفصال قلنا “انفصالًا”. الأمانة توجد في التأويل أيضأ، ليس في الترجمة وحسب.
حتّى إذا فكرنا في قصور الترجمة، من العربيّة والإسبانية، فالفلسفة إحدى أهم الوجوه، حتى الآن لا نجد ترجمة للأعمال الفلسفية لـماريّا ثامبرانو مثلًا، ونظريتها الشهيرة العقل والشعر. وفي الفلسفة المُعاصرة سانتياغو ألبا ريكو، أو حتى ما كتبتْه نساء ينتمون إلى الطرف الآخر من المتوسط بلغات شبه الجزيرة الإيبيرية، كنجاة الهجشمي الروائية الأمازيغية التي كتبت بالكتلانية، أو ليلى نشواتي، السوريّة الأصل التي كتبت رواية عن الثورة السورية باللغة الإسبانية (إذا ما انتهت الثورة). ومن الباسكية كذلك، ومن الغاليثية.
الإمبراطورية منعت الاختلاف من أن يكون واضحًا في النقل والترجمة، وبدأ ذلك منذ سقوط غرناطة ومحاكم التفتيش، ثمّ عوضت النقص في أمريكا اللاتينية، ثم في عهد الدكتاتور فرانكو أصبحت باقي اللغات شفهية (وبإمكاننا أن نقارن بين وضعها ووضع اللغة الكردية فيما واجهته من اضطهاد). لكن، يبقى السؤال أين هو المُترجم المُبحر في الدراسة؟ أين ذلك المُترجم الذي لا يعمل فقط ناقلًا؟
الأهم من كل ذلك أن عدم التكافؤ بين اللغات سمة بارزة في ترجمات ما بعد الكولونيالية كما يوضح دوجلاس روبنسون في كتابه الإمبراطورية والترجمة. ولتفكيك الكولونياليات الثقافية علينا أن ندحض رواياتها، وإحدى أهم تلك النتائج التي وصلتُ إليها تفكيكها من خلال الترجمة، ماذا لو ترجمنا من لغات “إسبانيا” الأربعة، ربما بذلك نشارك بالكشف عن وجه الكولونيالية من داخلها، والإشارة لغرناطة لوركا المُحترقة، لوركا الذي قال يومًا: ’’ أعتقد أن أصلي الغرناطيّ منحني شعورًا بالتآخي مع جميع المُضطهدين غجرً وسودًا ويهودًا… مع الموريسكيين الذين نحفظ ذكراهم نحن الغرناطيين في قلوبنا‘‘.
وأقدّم هنا ترجمتين: واحدة لأهم شعر شعبي كتلاني، والثانية لواحد من أهم الشعراء والكتّاب الباسكيين المُعاصرين.
ميغل مارتي إي بول (رودا دا تي 1929_بِك 2003)
شاعرٌ، كاتبٌ ومترجمٌ، واحدٌ من أكثر الشّعراء شعبيّة خلال القرن العشرين، في كتالونيا. مارتي إي بول بدأ كعاملًا كادحًا في بلدته الّتي وُلِدَ فيها، عندما كان في الرّابعة عشر. عانى من مرض السّل الرئويّ قبل بلوغه العشرين ما أرغمه لزوم فراشه فترة زمنيّة ليست بالقصيرة، وهو ما حدّد معالمَ عمله الشعريّ الأوّل الذي نُشِر في سنة 1954 تحت عنوان “كلماتٌ للرياح” والذي منحَه أوّل جائزة أدبيّة (أورسا مِنور). في العام 1977 نالَ جائزة “لّيترا دا أو” (الحرف الذهبي)، على عمله الشعريّ “السفر الطويل”، كذلك نال خلال مسيرته الأدبية جائزة “النّقد الشعريّ الكتلانيّ” ثلاثَ مرات؛ 1979 عن عمله “عزيزتي مارتا”، و1991 عن عمله “سويته دا بارلابا”، والعام 1994 عن عمله” شتاء مُطمئِن”. في العام 1997 اقترح البرلمان الكتلانيّ مارتي إي بول لجائزة نوبل للآداب، وقد دعمَ هذا القرار 400 بلدية محلية في كتالونيا.
قصائد مختارة لـ ميغل مارتي إي بول:
اكتشفتم ما في لحظة واحدة
اكتشفتم أن في لحظة واحدة فقط
يستطيع المرء أن يقع في الحبّ كما لو أنها حياة واحدة كاملة
اكتشفتم أنّ التمتّعَ هو كجزيرة
مجهولة تستطيع الظهور
في مقدمة السفينة،
في صباح مُتجَاهَل
على خطّ سيرِ قديم
إذًا، اقذفوا أنفسكم بحماسةٍ
نحو جنون الحب بينكم، الآن،
فإنّ جسدكم خفيفُ الحركة، واجعلوا
من الجرّة التي كانت تحتفظ بالعطر القديم قطعًا صغيرة،
كي تتنفسَ من ضربة واحدة
كلّ حدّتها المتلاعبة
يومًا ما سأكون ميتًا
يومًا ما سأكون ميتًا
وستبقى الظهيرة
في سلامِ الطُرق،
في أخضر الحقول المزروعة،
في العصافير والهواء
في سَكِيْنَة صديق،
في خطوة هؤلاء الرجال
الذين لا أعرفهم وأحبهم
يومًا ما سأكون ميتًا
وستبقى الظهيرة
في أعين المرأة
التي تقترب وتقبّلني،
في الموسيقا القديمة
لأغنية ما،
أو في غرضٍ ما،
أكثر حميمة، أكثر شفافية،
أو من الممكن في أشعاري
قولوا لي أنّ المعجزة
تجعلُ من الظهيرة أكثر حلاوةً
وأكثر شدةً في آن واحد،
وفي أيّ مرج أو أية سحابة
على أن أخصصّ متعتي؛
لأنّني أدرك نفسي أنّي مُستَديم
حين يحاصرني،
وأعرف أنّ أحدًا ما، في الوقت،
سيحفظُ ذكراي.
أتكلم عن صرخة جماعية واحدة
أتكلّم عن صرخة جماعية واحدة/رجل واحد
من الدم، فتلومني
أحكام مسبقة فاقدة اللمعان،
و”قديما” صوبوا عليّ كأنني هدف، ذلك أنّني عجوز مذ قرون
في أيّ سواحل مغبرة ترتبون الكلمات؟
يا رفاق: لنحررَ القواربَ
من حبالها عديمة الفائدة.
هناك أنهُر كبيرة تنتظرنا.
فجرٌ آخر لنا
من نحنُ؟ هل نحنُ قنطورُس خفيف الحركة في العتمة
في البحث عن الأُفق، في الطريق الدائم،
أم في الأشجار المغروسة في قشرة
أشجار أخرى ومن البارحة تعبِّر
عن سكينة عيشنا الجماليّ؟
عدمًا نبحث عن أنفسنا. يلزمنا أن نضيع
في الليلة المطلقة لنعرِفَ
من نحنُ وأيّ يدٍ تحكُمُ أفعالنا،
وعدمًا سيكون بناء مشاريع متألقة
وتوحيدُ كلمات جريئة، ونحن نبحث
عن أنفسنا في كلّ شيء، في كلّ نهاية أو مَعْلَم.
نحن كائنات
مقذوفون نحو مستقبل دون حدّ
وعلينا أن نموتَ لكي يجعلنا النسيان التّام نولدُ،
من جديد، ونحن نعرف من نحن
هناك وقت ما للألم ووقت ما للحبّ
أو، أحيانًا، يكون كل ذلك في آن ونخدعُ أنفسنا
متلاعبين على الآن الواحد وعلى الخطر.
هناك بعيدًا عنّا، أيّهم خالد؟
الصخرة، الشجرة، الريح وهذا الصمت
لن يموتوا فيما بينهم، وفجأة،
هل سنتركُ تكرارهم، مطيعون، ككلّ يوم؟
* الترجمة من الكتلانية.
خوسيبه ساريونانديا (أيوريتا، 1958)
واحدُ من أهم الكُتاب الباسكيين المعاصرين، نشر أكثر من 30 كتابًا. درَس عل الاجتماع والأدب الباسكي. سُجن في معتقلات الديكتاتور فرانكو في الـ 22 من عمره وبقي مسجونًا من العام 1980 حتّى 1985 حين فرّ من مُعتقله مع صديق له. بقي مُختفيًا عن الأنظار لثلاثين عامًا، وقبل بضع سنوات ظهر في العاصمة الكوبية لاهافانا. يعمل حاليًا كأستاذ في جامعة لاهافانا، حصد الكثير من الجوائز المُهمة خلال مسيرته، لكنه مسألة اختفائه منعته من استلامها شخصيًا، آخر جائزة كانت له على كتابه/بحثه المهم كما الموريسكيون في الضباب، استلمت أخته ، ولم يستلم هو قيمة الجائزة الماديّة. هنا مُقدمة الأنتولوجيا الأخيرة التي اشتغل عليها بنفسه، والأنتولوجيا والمقدمة تحملان نفس العنوان: هل قضى الشعر نحبه؟
هل قضى الشعر نحبه؟
ماتَ الشعرُ في القرن التاسعِ عشرة، تقريبًا حينما ماتَ الرّب، مع تحطم العهد القديم، عندما لم يبقَ للناس أكثر من أنْ تبني نفسها بنفسها، بينما الأغلبية البورجوازية فردت عضلاتها، مطلقةُ مبادرتها العدوانية، في بناء الشركات والدول ذات الطابع القوميّ، مُراهِنة على مراكمة الثروة، على طول وعرض هذا الكوكب. الشعرُ خلع ثوب قدسيته وارتبط بالحساسية الحضريّة (مدينة هائجة ممُتلئة بالأحلام حيث المُتفرج في ضوء النهار يتعلّق بالمُتنزّه)، بعد صدور أزهار الشر لم يعدْ بالإمكان مُناشدة القوالب الكلاسيكيّة أو الأنماط المُحدّدة، إنّما يجب عليه أن يهيئَ نفسه للموت بكل مفاهيمه، بقشرته المجازية اليائسة التي عفا عنها الزمن، وأن ينهض ويُبعث على شاكلة أخرى.
الشعر، كالإنسان ذاته، من المُسلّم والبديهيّ أن يكون قدره الموت، بشكل أدق؛ يعود ذلك إلى حيويّته المُعقدة/المُتداخلة/ المُصابة بالانفصام. مُتفنّنٌ في القَلُوب والتّشعب، مُتغيّرٌ وإنّه ينتشر، ثمّ يختفي، لا يُرى في أيّها مكان، إلّا أننا نستدلُّ ـ تقريبًاـ إليه كلِّه. الشعر يبحثُ عن حاضرٍ ما، حيثُ تتجدد التجربة والوعي والإدراك. هو كلٌّ أو عدم، يَذعنُ وينهزمُ ويخضعُ ويسقطُ ويقضي نحبه، وكلُ ما سبق من صفات تُشكل طريقته في “الكون” (شخصيته)، على ذات سوية الطلائع الشعريّة في القرن العشرين التي كانت تنسب إليها صفاتًا معينة كـ”تقليد/تراث”. آن لنا أن نعتبر الشعر كما قال فيكتور فازاريلي “السرمديّة هي شيء آخر”.
شيءٌ كأنه يبدو أكثر تحديدًا، ما هي القصيدة؟ هي مزيجٌ من كلمات، علامات ترقيمٍ ومساحات على رقعة من بياض متوافقة على مدلولٍ ونية/فحوى وقصد، الذي يثمر كقصيدة. لكن، لا يوجد جوهرٌ أو مضمون شعريّ يمكن أن يسبّبَّ قصيدة، ما يوجد هو تعدديّة هويات نصيّة تصبو لقيامها على شكل قصيدة.
لكنّ القصيدة عندما تتشكل، ما يجعلُها مُعرّفة ومؤقتة، هو ارتباطها بالشروط السياقيّة. النّصّ بحد ذاته ليس أكثر من مبتغى/ مَرام، فرضية، اقتراح يبحثُ لنفسه عن تجسيدٍ يقدّمُه مُطالبًا بمضمون وسيط ككتاب أو عمليات أخرى مُتجاوزة النصيّة. القصيدة لا تُركّب في عملية حصار روح/ذات شعريّة مجردة/بحتة، إنّما من خلال إقامة علاقات وثيقة بين النصوص والسياقات. هي مطالبة كائن وحيد في التعبير عن هشاشة قدره، هي كلمة مُصادرة أمام وطأة وقهر السلطة، هي ذاكرة عنيدة لوقت ما، لكنها شيء راديكالي لا مُنتهي. فقط هم القُرّاء الذين يجعلونها قصيدة، بإدغامها في اتحاد شعريّ أو بخلقها أيضًا في ذات الاتحاد.
القصيدة بغاية الحرية والانفتاح لتكون أي شيء، من الصعب جدًا رؤيتها كشيء مُحدد، أو تخّيلِها ككل قابل للتصنيف أو كمحتوى أو كشكل ما أو كشيء ملموس أو كموضوع. هذا الشك، الاشتباه، الاضطراب، والقلق هو الذي يجعل القصيدة على ما هي عليه، الوعي الحداثوي من أن اللغة ومعها كل أشياء الإنسان واقعة في مشاكل. الشعر دائمًا في أزمة، يموت ويولد، وأساسًا هو غير مُكتمل.
أحدٌ ما شعر بحاجة للكتابة لإعادة التفكير بالأشياء، للهرب من الحياة اليوميّة، بينما التَعقُّد (تعقّد الأشياء المُخبأ) والتناقضات التي أصبحت يائسة وبالية، المزعجة، المريبة، عندما لا تثير الشبهات. يُسقَطُ مشروع المجتمع الأفضل (الآن على المجتمع أن يعالج بشكل أفضل في أن يصبح غنيًا في أسرع وقت)، بينما يتم تخفيض قيمة الشعر حتى التُفُوه. كان يُقال إن يُفَضّلَ ما هو موضوعي على ما هو لازم، عندما كان على كل شيء أن يكون العكس تمامًا: كان يُتطلّب ما هو سائد وما هو عادي. ما هو عادي: هو غذاء مُركب من الجهالة الانتقائية، الاستهتار والتنازل المُحكم جيدًا، الخدمات المعلوماتية والآخرون ينشرون بشكل يوميّ وبشكل جدي، لطيف وبسمات أخلاقية. إنها حدود بين ما هو حقيقيّ وما هو خرافي، بين ما هو جيد وما هو سيء، أنشأ بأمر من السلطة، وبالتأكيد هو أجر الخضوع.
قراءة الشعر هو الذهاب في عكس التيار. هذا يعني، أن الشعر ميت وحي. هذه الحالة التناقضيّة للشعر هي من تمنحه المعنى، لأنّ دون الذهاب في كعس المنطق وكسر حالة الاستهتار، الشعر سيكون كخطبة دينية أو خطاب سياسي أو تنهد برجوازية صغيرة. التناقضات هي من تمنحه الصلاحية. لذلك، أدعم بطريقة شجاعة _تقريبًا_ ومتباينة أن الشعر كـ قطة شرودنغر، حيّ وميت في آن واحد.
* تمت الترجمة من اللغة الكتلانية وبعد ذلك تمّت مقارنتها مع الترجمة الاسبانية (خوسيبه هو نفسه ترجم هذه الأنتولوجيا من الباسكية إلى الإسبانية.
هوامش